مواضيع اليوم

يشار كمال .. والصراع بين الانسان والطبيعة

عبد الهادي فنجان الساعدي
كثيرا ما تحول الحواجز التاريخية واللغوية دون ان يتعدى الادب بعض البلدان الى خارج حدودها الجغرافية، رغم ما يحمله هذا الادب من شروط ابداعية عالية وما يتناوله من قضايا انسانية عامة( ).
منذ فترة بعيدة وأنا احاول ان اكتب عن الادب الكوردي. وقد حفزني على ذلك قراءة بعض كتب الاديب الكوردي يشار كمال، حيث امتلكت كتاباته كل مواصفات القصة العالمية من حوار وشد ومحلية تكاد تمثل التصاق الانسان بأرضه حتى لتكاد ترى الطين وهو يغطي اجساد تلكم الشخصيات التي وصلت حد الانسحاق وتعيش دون مستوى خط الفقر المتعارف عليه. لقد شممت رائحة الطين من خلال السطور التي يكتبها يشار كمال ممزوجة برطوبة المستنقعات وعفونة الماء الاسن. ان كتاباته آسرة الى درجة انك تشعر بالغثيان عندما تقرأ عن حياة الناس في الارياف في فصل الصيف. لقد استطاع ان يخلد قريته "جوقورآوا" كما خلد بدر شاكر السياب جيكور.
"ومنذ عام 1975 واسم يشار كمال يتردد ضمن اسماء المرشحين لجائزة نوبل، ورغم الملاحظات التي اثيرت حول طبيعة هذه الجائزة الا ان ترشيح اديب من احد بلدان العالم الثالث وبهذا الالحاح له دلالته واهميته دون شك"( ).
ان الترشيح لجائزة نوبل في الادب هو امنية الكثير من ادباء العالم وكتابه .. الا ان السؤال المهم الذي يراود النقاد باستمرار هو "هل ان هذا الكاتب استطاع فعلا ان يخدم الانسانية بكتاباته".. وبرأيي ان السؤال الاهم هو مدى ما قدمه هذا الكاتب لهؤلاء الناس المسحوقين الذين يعيشون في قرى نائية لا تتوفر فيها ابسط مستلزمات الحياة الطبيعية والانسانية.. ولذلك نراه في صراع مع الطبيعة مستمر. ولا يستطيع الكاتب ان يزيف الحقيقة فيخلق الحلول التي بأمكانها ان تنقذ هذا الانسان من كوارث الطبيعة ومن قسوتها.. انما ينقلها لا بصورتها الطبيعية انما بصورتها الاكثر ضراوة والاكثر انسحاقا. وهنا تكمن قدرة الكاتب على نقل الاحداث لا بصورتها البدائية المجردة التي تحمل رؤية الكاتب الخاصة، لا في نقل الحدث او الواقع انما في نقل حتى فلسفة هذا الواقع واسبابه وشخوصه. وبهذا يدخل الكاتب في صلب الحدث ومن ضمن العوامل التي تحاول ابراز الكارثة لغرض معالجتها دون ان ترى له أي ظل في سياق الاحداث.
لقد استطاع بقوة تقنيته الفنية ان يستقطب اهتمام النقاد العالميين حتى ان بعضهم وصفه بأنه "هوميروس القرن العشرين" ( ) وقال عنه آلآن بوسكيه "انه اكبر روائي نعرفه الآن".
لقد استطاعت روايته "محمد النحيف" ان تجد طريقها الى العالمية بفضل امكانياته الواسعة في توظيف كل عناصر الطبيعة التي يواجهها الانسان.
ان اهم ما يميز هذا الكاتب الرائع هو انه يكتب دون ان ينقطع عن جذوره "ان منطقة جوقور آوا، مسرح احداث قصص وروايات يشار كمال، مساحة حية، يتعامل معها كما يتعامل مع كائنات تنبض بالحياة.
لقد وجدت الكثير من الكتاب يجحدون علاقة يشار كمال بالطبيعة الا ان النقطة التي وجدتها تشغل اعمق حيز في وجدانه هي الانسان، وخصوصا الانسان في صراعه مع تلكم الطبيعة البدائية القاسية.
وبهذه النظرة يحصل التوازن في رؤية الكاتب الى الانسان والطبيعة وفي طريقة الصراع التي يديرها نتيجة معايشة ميدانية قريبة وراسخة في اعماق هذا الكاتب.
"ان عناصر الطبيعة تحوز مني على اهتمام مقارب لاهتمامي بالانسان ان لم يكن بذات المستوى وبالطبع لا أدعي انني من اكتشف هذه العلاقة بين الانسان والطبيعة لكني واحد من اولئك الذين تناولوا الطبيعة بشكل سليم في روايات عصرنا"( ).
"اما شخصيات يشار كمال المنتقاة والمؤشرة بشكل فردي فهي التي تحتل احد جوانب الصراع الطبقي حيث هناك الاقطاعيون ورجال الطبقة المتوسطة كالتجار المحليين والبخلاء والبرجوازيين الصغار والاغوات. وفي الجانب المقابل تجد الفلاحين المسحوقين ومنهم من يعمل اجيرا لا يحصل الا على القليل بل حتى اقل من قوت يومه، ومنهم من يمتلك قطعة ارض صغيرة الا انه لايمتلك وسائل الانتاج او حتى البذور، وتراهم يكدون ويكدحون نهارا ليواجهوا عناصر الطبيعة القاسية ليلا من حر وبعوض اضافة الى العوز الذي يصل حد الا يجد احدهم فراشا بسيطا ينام فيه .. فينام على التبن. وحالتهم هذه تذكرنا بجملة رائعة في قصة "ام الهند" التي تحولت الى فلم تراجيدي بنفس الاسم حيث تقول البطلة "نقاسي الالام وظهورنا منحنية في وهج الشمس" وبهذا تلتقي معاناة الشعوب الفقيرة وتكاد تتشابه في الحرمان ومواجهة قسوة الطبيعة دون سلاح سوى اجسادها الغضة التي تبدأ بالذوبان تحت ضغط الفقر ومعاناة الحرمان.
"ان كل عمل من اعماله هو ضربة عنيفة من قبضة يد قوية ضد كل ما هو غير طبيعي وغير معقول في هذا العالم"( ).
ان يشار كمال يعمل بهوس لاظهار جانبي المعادلة التي قلنا عنها في البداية وهي معادلة الانسان والطبيعة، وكل الاختلال في التوازن يكون على حساب احد طرفي المعادلة. ولذلك وجدنا انه ينحاز في بعض الاحيان الى الانسان فتهتز المعادلة ولكن في احيان اخرى نجده ينحاز الى عوامل طبيعية خارج ارادة الانسان، ضد هذا الكائن الذي يقف في بعض الاحيان مشدوها ازاء ما يحدث، وفي احيان اخرى يسقط عن المركب فلا يجد سوى الزيف وازدراء الاخرين له. وهذا ما وجدناه عند كاتبنا في معالجاته للمرأة البغي حيث يصفها بالقذارة على لسان ابطاله وفي بعض الاحيان تجد تلكم الكلمات التي تصف المرأة بالقذارة والدونية والسقوط والامتهان اللامتناهي، في الحين الذي يضعها الكاتب نفسه في خانة النخاسة، وضمن سلع البيع والشراء منطلقا في ذلك من نظرة اجتماعية عشائرية كما يصفها بدقة متناهية ونظرة دينية لا واعية متناسيا شروط الشريعة والفقه التي تدعوا الى "درء الحدود بالشبهات" والى تحريم امتهان الانسان لأخيه الانسان من أي نوع او صنف او جنس، وبعيدا عن روح الوعظ فان ذلك التعليق ما هو الا اشارة الى اختلال التوازن الذي يطرأ على الكتابة في أي انجاز كان.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !