كخعقبيح بذي العقل أن يكون بهيمة، وقد أمكنه أن يكون إنساناً، أو يكون إنسانا، وقد أمكنه أن يكون ملكاً.
منذ يوم 13 سبتمبر و هو تاريخ الدخول المدرسي، سمعت روايات استياء كثيرة من حالة المؤسسات التعليمية. أولياء تلاميذ ضاقت بهم الدنيا، بسبب ما واجهوه من مشاكل أولها المئزر الذي ما أنزل الله به من سلطان، و ما قبل آخرها، استعمال زمن دراسي أعوج.
الإجماع حاصل لدى الأولياء الذين تحدثت معهم، على أن المدرسة الجزائرية توجد في الحضيض ! و أين الجديد ؟ المفروض أننا على علم منذ عقود بالحالة التي توجد عليها هذه المدرسة. أبو بكر بن بوزيد - و هذا رأي شخصي- اجتهد و بذل جهدا جبارا قاد بالنهاية إلى تحويل المدرسة الجزائرية من الحضيض إلى الدرك الأسفل! و على سبيل العرفان بجميل صنعه، جعلنا منه وزيرا أبديا للتربية!
وحدها فضيحة النشيد الوطني المبتور، كانت كافية كي يحال بن بوزيد على التقاعد السياسي، و لكن و بما أننا في بلد كل شيء ممكن، فلم يبق بن بوزيد وزيرا فحسب، بل تلذّذ بإصدار قرارات غير مبرّرة لعل آخرها، قرار توحيد ألوان المآزر في المؤسسات التعليمية. لا يهم، فالمئزر ليس هو همّي في هذا المقام.
و أنا أصغي للأولياء، و أنا أمعن في الأوصاف التي أطلقوها على المدرسة ببلادنا، تساءلت إن كان من الطبيعي و من الممكن لقطاع التعليم بالجزائر وحده أن يكون باقة ورد وسط هكتارات من الزبّالة ؟! تساؤلي يطرح نفسه بنفسه لأن الانتقادات الموجهة لهذا القطاع ( و هي انتقادات صحيحة 100 % ) تبدو و كأنها تريد أن تجعل منه ( أي قطاع التربية) كومة من الزبّالة وسط حديقة ورود!
من غير الطبيعي أن نتطلع إلى رؤية التعليم أفضل حالا، و باقي القطاعات، الله وحده يعلم بحاله. كل القطاعات مرآة لبعضها بعض. خذوا قطاع الكهرباء مثلا... انه بلغ درجة من التخلّف و العجز يصعب التعليق عنها، و لا أحد استطاع أن يقدم لنا تفسيرا واضحا و مفهوما عن سبب هذا التخلف. الرئيس المدير العام لشركة سونلغاز و هو ولي تلاميذ، على ما أعتقد، لو نسمعه، يسب قطاع التعليم، أظن أن لا أحد منا جميعا قد ينافسه على ذلك، مع أن الرجل يقود قطاعا فاشلا بالحجة و البرهان.
وزير الماء عبد المالك سلاّل هو الآخر يقود قطاعا عاجزا دون الحاجة لإثبات عجزه بالدلائل و البراهين. و رغم ذلك قد نحتار في المعجم الذي يستخرج منه الكلمات القبيحة التي يستخدمها ضد التعليم بالجزائر!
خليدة تومي التي أفترض أنها وليّة تلاميذ، تقود قطاعا منكوبا منذ 5 جويلية 1962 و رغم ذلك فان لسانها عندما يُسيّب ضد قطاع التعليم، قد يجعلنا نسد آذاننا و نهرب.
الانحطاط الذي تعرض له قطاع التعليم، ما هو إلا انعكاس لانحطاط عام لم يستثن مجالا واحدا من مجالات الحياة في هذه البلاد. فبالنسبة للمدرسة مثلا، لم يعد من المتاح لنا أن نأمل في أن يأتي يوم تتقدم فيه هذه المدرسة... لا !... إلى أين تتقدم ؟! بل أصبحنا نتمنى فقط أن تعود إلى ما كانت عليه في الستينات و السبعينات !
خلال الستينات و السبعينات ، على بساطتها، كانت المدرسة الجزائرية تؤدي وظيفتها على نحو طبيعي، حتى لا أبالغ و أقول أنها كانت تؤديه على أكمل وجه. لماذا ؟ ربما لأن مديري تلك الحقبة أرفع مستوى من مديري هذا الزمن ؟ و ربما لأن معلمي و أساتذة ذلك الوقت أفضل تكوينا من معلمي و أساتذة اليوم.. ربما أقول ؟ و ربما لأن بن بوزيد ذلك الزمن أحسن من البن بوزيد الحالي ؟ و ربما لأن تلاميذ الأمس أكبر إرادة و أكثر استعدادا للتحصيل الدراسي، من تلاميذ اليوم ؟ و لكن الأكيد أن المدرسة في الجزائر أخذت تنهار بالموازاة مع انهيار كل القطاعات من بريد، وبنوك، و كهرباء و ماء و طرقات و إدارة و ثقافة، مع أن ظاهر الأشياء يقول أننا نسير نحو الضخامة!
في الجزائر التي "كانوا" يريدونها اشتراكية، ظهر نوع جديد من المدارس يسمى " المدارس الخاصة". دراسة الطفل في واحدة من هذه المدارس الخاصة يتطلب أموالا لا يقدر على دفعها إلا الأثرياء أو كبار الموظفين في الدولة. لماذا يقبل الناس بدفع الثمن الفلاني من أجل تعليم متوفر مجانا في المدارس العمومية؟ ببساطة لأن الناس مقتنعين بأن الطفل الذي يدرس بواحدة من هذه المدارس المكلّفة " يخرج راجل"!
و ما هي الأشياء التي تتوفر في المدارس الخاصة و لا تتوفر في باقي المدارس التي يتعلم فيها أبناء الشعب ؟ السؤال طرحته على صديق مقيم بالعاصمة ينفق منذ سنوات أموالا كبيرة نظير تعليم أطفاله الثلاثة في مدرستين خاصتين، فأجابني بكل صدق و نزاهة بأنه راض على الظروف العامة التي يدرس فيها الأطفال هناك، كنوعية الحجرات و الطاولات و الكراسي و النظافة و الوسائل البيداغوجية المستعملة و كذا النظام العام السائد هناك، أما عن نوعية التعليم كتعليم، فهو مقبول و كفى.
" مقبول" هذه هي الكلمة التي استعملها الرجل لوصف نوعية التعليم المحصّل في المدارس التي لا يتعلم فيها إلا أبناء من هم قادرون على الدفع. و لكن، حتى أصحاب الأموال، ما من شك أنهم كانوا يفضلون تعليم أبنائهم مجانا، لكنهم بالنهاية، قرّروا الهرب و دفع الثمن كاملا فقط من أجل تمكين أبنائهم من مستوى دراسي " مقبول"... مقبول، لا أكثر. ما يعني أن المستوى المقبول الذي قد يعني الحد الأدنى، لم يعد متوفرا في المدارس التي يتعلم فيها أغلب أبناء الشعب، و هذا استنتاج و ليس حكما.
المدارس الخاصة توظف معلمين و أساتذة جزائريين، متخرجين من معاهد و جامعات جزائرية، لا فرق بينهم و بين المعلمين و الأساتذة العاملين بالمؤسسات التعليمية العمومية، حتى أن عددا لا بأس به من معلمي و أساتذة المدارس الخاصة أتوا من المدارس التابعة للدولة. فأين يكمن السر الذي يجعل نفس هذا المعلم أو الأستاذ يعجز عن تزويد تلاميذه في المدرسة العمومية بالمستوى المقبول، بينما يصنع سعادة أولياء تلامذته في المدرسة الخاصة ؟ هل يمكن أن نجد التفسير في الورقة النقدية أم في ظروف العمل المختلفة أم في الاثنين معا ؟! الأكيد أن كل من أوتي الوسيلة ، أستاذا كان أو ولي تلميذ هرب... إلى المدرسة الخاصة.
المدرسة الخاصة هل هي الخلاص ؟ شخصيا و استنادا لوقائع ثابتة، أرى أنه لا يوجد أي فرق بين المدرسة الخاصة و بين العيادة الخاصة. و لكي أختصر الكلام قدر الإمكان، أقول بأن المدارس الخاصة ظهرت و تفتحت في البلدان المتقدمة حيث كانت المدارس العمومية متفتحة و متطورة دائما و أبدا. كما أن العيادات الخاصة نشأت و ازدهرت و تطورت في ذات البلدان المتحضرة حيث كانت المستشفيات التابعة للدولة، مزدهرة و متطورة. و لكي أوضح فكرتي على نحو أفضل، أقول بأنه إذا ما يريد الواحد منا أن يقيس درجة النظافة و الجدية و النزاهة و مدى حضور الضمير و الأخلاق في العيادات الخاصة الجزائرية، فما عليه إلا أن يكوّن فكرة عن حالة العيادات التابعة للدولة، لأن الطينة البشرية التي تؤطر تلك المسماة " عيادات خاصة" هي نفسها الحاضرة في مستشقيات الدولة و هي نفسها الآتية من مستشفيات الدولة، و هي نفسها التي لا تزال في بعض الأحيان، تعمل هنا و هناك في نفس الوقت، و هي نفسها التي لا تؤمن بقيمة في هذا الوجود عدا قيمة الورقة النقدية ( و أنا أستثني ما رحم ربّي).
نفس المنطق ينطبق على المدارس الخاصة الجزائرية التي يتصور البعض بأنها تتوفر على قدرات سحرية تجعل الحمار أسدا. السلام عليكم.
منشور في أسبوعية أسرار الجزائرية/ العدد 258
التعليقات (0)