لم يكن الموت، في أي لحظة من اللحظات إلا ذاك "الدينامو" الذي يحرك كل شيء في هذا العالم. إنه ذاك الشيء الأساسي الذي يجعل البشر في مواجهة مستمرة مع الزمن. يعي التشكيلي دلدار فلمز هذه المسألة تماماً؛ ولذلك يحاول أن يكون له اجتهاده في صناعة آليات المواجهة. ولنفس السبب تقريباً يبتعد عن ضجيج المدن الكبرى، ليعيش حالة من التأمل والصفاء الذهني الذي يمكنه من وضع اقتراح يقي من الزمن وما يعقب مروره الصعب على الكائنات.
كان لـ"دلدار فلمز" فرصة لأن يعيش الفقد، شرط المكان والزمان النهائي، لذلك قرر الاشتغال على معرضه الجديد.
يختار دلدار فلمز مدينته الهادئة "الحسكة" مكاناً وحيداً لابتكار ما يريده أن يكون نقلة فنية جديدة.
هذه النقلة لن تكون إلا استمراراً لعملية الحفر التي يقوم بها الفن في أسئلة الإنسان الأولى؛ أسئلة الوجود والعدم، الفناء والبقاء.
فمنذ رحلت والدته، منذ فترة قريبة، يعيش دلدار فلمز قتامة الموت وإشراقه في الوقت ذاته؛ قتامته من حيث إنه صانع مستبد للحنين والألم، وإشراقه باعتباره محرضاً على المواجهة.
هذه المعايشة أنتجت ستاً وعشرين لوحةً بقياسات وحجوم مختلفة للوحات، بالدرجة نفسها التي تختلف فيها تلك الأسئلة التي تجعل من الكائن البشري الاجتماعي في مهب الوحدة عندما يرحل الآخرون ويغيبون نهائياً وأبداً.
وعندما يصيرون من سكان العالم الذي لا رجعة منه. هذه الطريقة في التساؤل عبر اللوحة الفنية هي بالدرجة الأولى شكل أساسي من أشكال المواجهة ضد المعاناة والموت وفناء الفرد.
تلك المسميات الثلاث تعتبر أساسية في قدرة الوجوديين على ضبط كل الأفكار حول حرية الإنسان ومسؤوليته؛ حيث يعتبر دلدار فلمز تجربته في هذه المرة "وجودية بامتياز".
يغير دلدار فلمز في تجربته الجديدة جهة البوصلة، فيتخذ من المدافن ثيمة أساسية للعمل بمواد مستمدة من تراب مدينة الحسكة، وسيصبح هذا الطين المعالج وسيلة أساسية للتعبير عن المدفن باعتباره المصدر الأساسي لرائحة أجساد الراحلين، هذه الرائحة التي لا يمكن اعتبارها مجرد عَفن يخدش الأنف، هي رائحتهم هم. أولئك الذين غادرونا.
يرسم دلدار فلمز في منجزه الجديد أجساداً تتمدد على مساحات واسعة في اللوحات وقوفاً وسعياً، دون جهة أبداً، فالكائنات كلها تسبح في برزخ من التشتت، حيث لا حياة أخرى ولا رجوع إلى عالم الحياة. هذا البرزخ الهلامي غير المحدد يحتوي العديد من الدوائر التي تحمل في معانيها كل دلالات الخوف والغموض. إنه الخوف الذي يمكن سحبه ليصير ملازماً لحياتنا.
يرصد دلدار فلمز في تجربته الجديدة وفي إحدى اللوحات ظاهرة الندب واللطم عند النساء العربيات في الصحراء. تلك المشهدية التي لا يمكن أن تتأمن لعين إلاَّ في الصحراء وعند النساء العربيات تحديداً، حين تتنازل المرأة العربية في لحظة الموت عن كبريائها وتبدأ بالتعبير عن الحزن بشق الثياب، كاشفةً عن جسدها. الذي لن "تلمسه" عين إلا في تلك اللحظة. وفي لوحة أخرى يرسم نفسه أو يظهر وجه أمه الراحلة. هكذا يبدو العالم من وجهة نظر دلدار فلمز مدفناً يفضي إلى حياة أخرى مجهولة... الحياة مدفننا الكبير.
دلدار فلمز من مواليد محافظة القامشلي، بدأ مسيرته الفنية في المدينة المتاخمة لمسقط رأسه "الحسكة" حيث أقام معرضاً مشتركاً مع فنانين آخرين ( 2001)، وفي العام ذاته انتقل إلى بيروت ليُقيم معرضاً في صالة اليونسكو للمعارض. وفي تلك الفترة أُظهرت إلى العلن اهتماماته الشعرية، فنشر مجموعته الشعرية "عاش باكراً" (2003). ثم تتالت معارضه الفردية في الحسكة، وصالة عشتار في دمشق، وفي مرسم الفنان الراحل فاتح المدرس.
جريدة بلدنا – 24/ 10/ 2008 |
التعليقات (0)