إذا كانت الأنظمة المستبدة الديكتاتورية في سبيل حماية عروشها ..وحرصاً منها على قصف الرقاب التي تشرئب أو تتطلع لمناوءتها أو حتى انتقادها ..وإذا كانت ضمانات القضاء "الطبيعي" المدني لا تسعف تلك الأنظمة الجائرة في "سرعة" و"شمولية" القضاء على معارضيها من المواطنين الشرفاء ..
ومن ثم فقد (اخترعت) تلك الأنظمة الفاشية "أنواعاً " و"ألوانا" من القضاء "المفصل" بحسب أمزجتها من قبيل محاكم (أمن الدولة) و(أمن الدولة طوارئ) و(المحاكم العسكرية للمدنيين) وهي محاكم تم تبرير إنشائها بمبررات ظاهرها الرحمة من قبيل أنها أنشئت من أجل مواجهة الجرائم الخطيرة التي تمس بأمن الوطن وتحتاج إلى سرعة الفصل فيها بعيداً عن روتينية القضاء العادي وإجراءاته الطويلة و"العقيمة" .. بينما باطنها فيه أشد العذاب حيث أنه في الغالب خصصت لأصحاب الأقلام وأصحاب الرأي والمعارضين لتلك الأنظمة ولكل من يشكل خطورة (في رأيها) عليها ..
وخطورة تلك النوعية من المحاكم "المحاكم " المعروفة باسم "المحاكم الاستثنائية" والتي تلفظها ولا تعترف بها أبداً الدول الحرة التي تحترم مواطنيها وتحترم حق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي أو محاكمته أمامه محاطاً بكافة الضمانات والإجراءات القانونية والدستورية من شأن إجراء محاكمة عادلة ونزيهة يصدر فيها الحكم باسم الشعب .. ويطمئن إليه المتهم قبل أن يطمئن إليه القاضي الذي أصدره ..
أقول أن خطورة المحاكم الاستثنائية سواء طوارئ أو أمن دولة أو عسكرية أو غيرها أنها تتحلل من كثير من ضمانات المحاكمة العادلة ..كما أنها سريعة الوتيرة إلى حد إهدار الكثير من حقوق المتهم ..كما أن أحكامها شديدة ومتجاوزة حتى لطبيعة الجرم المرتكب قياساً بالمحاكم المدنية .. وهو ما يخلق الازدواجية في الأحكام ..
والازدواجية لا معنى لها إلا الظلم .. خاصة وأن المحاكم الاستثنائية كانت جميع مفاتيحها وتشكيلها وأحكامها في يد (النظام) الذي هو الحاكم العسكري لذا كانت المحاكمات تعقد للسياسيين والمعارضين للأنظمة بأكثر مما تعقد للخطرين على أمن الوطن كالجواسيس والعملاء والخونة مثلاً ..
من هنا كان كفاح الشعب والمنظمات القانونية ومنظمات حقوق الإنسان من أجل مناهضة ومكافحة والتنديد بالمحاكم الاستثنائية والمطالبة بإلغائها نهائياً .. وكذا المطالبة بمحاكمة المواطنين "المدنيين" أمام قاضيهم الطبيعي المدني أياً كان نوع الجريمة أو التهمة .. حتى قامت ثورة 25 يناير وتهدمت أركان النظام المستبد وتحطم عرشه ..وتقوضت كافة دعاماته ..
ولكن بقيت المحاكم الاستثنائية تعمل .. وبنشاط أكثر وبانتشار أكبر..وبذات التبرير السابق .. مواجهة الحالات الطارئة والحفظ على أمن المجتمع !! وها نحن نرى المتهمين "المدنيين" يحاكمون أمام المحاكم العسكرية (السريعة جداً) عن تهم "معتادة" كحمل سلاح أبيض أو بلطجة أو إتلاف أو سرقة أو شروع في سرقة ..وتصدر الأحكام المروعة بالمؤبد أو بالسجن عشر سنوات أو خمسة أو ثلاثة .. وفي محاكمات طابعها السرعة والبتر والإبرام ..
قد يرى البعض "لزومية" هذه المحاكم في الفترة الراهنة لضبط الانفلات الأمني والمجتمعي ومن ثم يحتاج المتهمون من "الشعب" لرؤية العين الحمراء للردع .. وهنا نتحدث عن المفارقة المدهشة والعجيبة .. بين أرباب النظام السابق الذين تتوافر بحقهم كافة ضمانات التحقيقات "النزيهة" والمحاكمات "المدنية" كاملة الضمانات والتي "نؤيدها" ونحض عليها .. بينما أبناء "الشعب" توضع رقابهم الآن على مقصلة المحاكم العسكرية لتصدر ضدهم الأحكام القاسية والشديدة والشنيعة والسريعة دون الشعور بتمتعهم بذات ضمانات محاكمة أركان النظام المستبد البائد ..
قرأت تصريح رئيس الوزراء "عصام شرف" من أن مبارك إذا ثبتت عليه تهمة السرقة فإنه لن يتمتع بأي عفو لأنه لا عفو في الشريعة عن الشريف إذا سرق ..وقد استند إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام إذا سرق فيهم الشريف تركوه .. وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ..والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبهذا المنطق فقد ألجمنا رئيس الوزراء وأقام علينا الحجة ولم يعد من حقنا أن نقول شيئاً بهذا الشأن ..
ولكننا وبذات المنطق نقول ..
ما بال أقوام .. إذا سرق فيهم الشريف حاكموه محاكمة مدنية بكافة الضمانات والإجراءات والامتيازات القانونية وأمام قاضيه الطبيعي .. بينما إذا سرق الضعيف من أبناء الشعب حاكموه أمام المحاكم العسكرية الاستثنائية الرهيبة وأقاموا عليه الحد !!!!!
التعليقات (0)