عم توفيق مات أمس .
يا وجعك يا توفيق . يقولها سريعا عندما يطلب منه عمل شيء ثم يكررها ببطء بعد انتهاء المهمة <وفى كلتا الحالتين يكون صوته عاليا مرحا . بعد صلاة الفجر جنح بنا القارب فى المنطقة التى يتجنبها الصيادون لكثرة كتل الطين ونباتات الحلفا والبوص . أنغرز بقوة فى الطين ، لا يمكن أن يتحرك إلا إذا ربط بحبل قوى وشد من أعلى الصخرة . كنا ننتظر . تنبه أحدنا إلى قرب بيت عم توفيق من البحيرة . لم يطل انتظارنا ، ظهر من بعيد ، رأى ما نحن فيه خلع هدومه وتوغل فى مياه البحيرة الباردة متجها صوبنا ، طوحنا الحبل له ، فعاد صاعدا الصخرة الكبيرة وشرع فى شد المركب بقوة .
" أجمد يا وله يا وجعك يا توفيق " .
تكاتفنا مع قوته دفع المركب للخروج من بركة الطين . بعد اطمئنانه على خروجنا ، جلس بهدوء ،
" هات سيجارة يا وله "
الشيخ عارف آت من الحقول البعيدة ، لمحنا ، ورأى عم توفيق عاريا فى هذا البرد المميت . " والله يا أبن الكلب لو وقعت لتنزف زى النسوان " .
يرد عليه بضحكته المجلجلة ، تملأنا بالسرور والحب للناس وللدنيا .. أراه فى الصباح الباكر واقفا كالطود ، فاتحا ذراعيه ، يتمنى احتضان الحقول ومياه الجداول والسماء وكل نبتة وإنسان على وجه الأرض . فى طقسه هذا ، يعطى ظهره للعابرين ، تلك اللحظات من التأمل والغبطة بالطبيعة هى زاده اليومي لاستقبال أيام الدنيا .. هناك أيام سوداء مرت عليه ، وقتها ، كان يرفع بصره للسماء ، فيرى الظلام وقد طغى على الدنيا . حدث هذا عند وفاة زوجته . رايته وهو الرجل القوى الذي لا يكف عن الضحك ومشاكسة طوب الأرض ، يضع رأسه فى حجر أمه العجوز ويبكى بتشنج . يا الله ! هذا الطفل الكبير من انتزع منه حبيبته ؟
- ليه عم توفيق بيبكى يا به ؟
- خالتك غالية ماتت
لن أرى هذه المرأة الجميلة مرة أخرى ، كانت تملا جيوبي بكل ما أحبه ، لم أر امرأة فى رقتها وروحها الحلوة ، ابتسامتها السماوية ، لا تقاوم ، كنت ألتصق بها مثل قط صغير .
- والله يا غالية أنا بغير عليكى من الواد ده .
ترجوه أن يتركني معها قليلا .
- مونسنى يا توفيق بدل القعدة لوحدى .
هى لم تنجب وهو لم يتجوز عليها . فى تلك الليلة خرج وحيدا متجها ناحية البحيرة ، رمى شبكته بلا مبالاة ، وغرق فى حزنه ثم انحدرت دموعه .
" يا وجعك يا توفيق حتى المرة الوحيدة اللي خطفت قلبك ماتت " .
طالت جلسته حتى الصباح . رجع للبيت وأفرغ رزقه من السمك فى طشت كبير ، تعجبت العجوز ؛ فهو لم يصطد كل هذا من قبل .
فى طريقه ، التقى بعبد الحفيظ جمعه وعبد الحفيظ عندما يتشاجر مع أحد فى فيلكسيا يذهب إليه فى الليل وهو رابط رأسه بقطعة قماش وفى يده نبوت . سأل عم توفيق عن رأيه فى الموتوسيكل المضاد للألغام ، اخترعه ليجنب أهل القرية الدوس فى الجلة . لم يرد . سأله عن رأيه فى سيمافوره الإلكتروني ، محملا إياه مسئولية وضعه مكان سيمافور المحطة القديم . أخيرا فاض كيله واحتد :
- يجب أن تبدى رأيك فى إختراعى جهاز مضاد لتلوث بيئة القرية من دخان الكوانين .
تنهد عم توفيق وأشار له على رقبته التى أصبحت أرفع مما ينبغي .
فى يوم السوق وهو يوم عمله سائقا لجلب نساء القرى المجاورة يعود إليه حبوره ويصيح بنشوة :
" يا وجعك يا توفيق "
يقولها وهو يطبطب على أرداف النساء ، يستجبن لمداعباته ولو فعلها غيره لأصبح الدم للركب .
يوم وداعه الدنيا تعطلت السيارات على الطريق ، أمتنع زملاؤه عن العمل ، قال أحدهم : " الجنازة لم تخرج بعد ، لا من البيت ولا من الشارع ولا من البلد ولا من قلوبنا " وبكى بمرارة .
كان يفتح ذراعيه وهو يستقبلني أنا وأبى ونحن نعبر الجسر إلى حقله ، يتلقفني فى حضنه فأشعر بخدر لذيذ وهو يربت على بيديه الخشنتين ، أشم فيهما رائحة الطين مختلطة بمياه الأرض والحشائش الخضراء وبقايا الفاكهة المعطوبة ، يقذف بها فى مياه الترعة فتسير مع التيار حتى بحر الطاحونة .
- ابن الكلب ده عشيق مراتى
يضحك أبى ويجذب بعض أشواك الأرض العالقة بجوربى .
عندما كبرت قلت له مداعبا إن هناك بلدا بعيدا ، يعشق فيه الرجال النساء وتعشق نساؤه الرجال . خطف يدي ووضها على فمى: " أبوس أيدك سلفنى فلوس التذكرة " .
فى مرضه الأخير صرخ فى الدكتور : " إيه كل حاجه ممنوع ممنوع ، ممنوع تاكل لحمه ، ممنوع تعمل مجهود ، ممنوع تدخن ، ممنوع تسكر ، ممنوع تسهر ، ممنوع تفكر ، ممنوع تصطاد ، ممنوع تضحك ، نسيت تقول ممنوع تعيش " .
قبل وفاته بايام طلب أن يدخلوه الى غرفة قصية فى البت ويتركوه لوحده ، دخلت عليه فوجدته ممسكا بعود قش، يرسم به خطوطا على الأرض وهو يبصق قطع دموية صغيرة من كبده المهترىء . نافذة الغرفة مفتوحة ، يرى عبرها مياه البحيرة . لمحت شيئا أبيض يتحرك ، تصورت أنه حمامة ، لم تكن . مرت بجواره فرفعها بيده ، نورس ! نورس؟ أفلته من يده وألقى له بفتات خبز ..
النورس لا يأكل إلا السمك يا عم توفيق .. اعتاد هنا على أكل الخبز .. من أين جئت به ؟ .. شخص رمى به من النافذة ، وربما جاء من نفسه ، منذ متى .. لا أدرى .. كان متضايقا من أسئلتي الغبية وعصبيا بدرجة كبيرة ، فشعرت أنني أسأل وأجيب .
- يا عم توفيق اطلع من المكان ده وارجع لسريرك .
- اطلع أنت بره .
كنت أجرى فى شوارع فيلكسيا ، لأحضر له الدواء من أقرب أجزخانة ، أدرك أن لا جدوى من تجديد العلاج ؛ كان يومه الأخير .
انقطع التيار الكهربائي . أبطأت الخطو ، اقتحمتنى رائحة زهور الياسمين ، رائحتها تتكاثف فى الليل ... امتلأ المكان بالناس ، ركعت بجوار سريره ، أخذني فى حضنه وربت على ، حملوني بعيدا . قبل احتضاره تمتم بكلمات خافتة ، " أنا حبيتكم كلكم " .
تركت البيت لأقرب مكان أستطيع أن انفجر فيه . كان نورس عم توفيق يطير من النافذة ويحلق على مياه البحيرة واختفى .
التعليقات (0)