يا لغصات الحسرة و آهات الأسف علينا جميعا
كلما حضرت مشهدا لعملية تسليم و استلام للسلطة في بلد غربي أشعر بغصة تفتت كبدي و تسحق روحي سحقا و أكاد أموت من الحسد لهؤلاء القوم ، و السبب في ذلك هو أنني عشت في هذه الأرض نصف قرن و أكثر و لم أشهد ذات يوم من الأيام حفلا واحدا لتسليم مختارية قرية أو قائمقاية ناحية ريفية أو حتى مشيخة غجر في أي بلد عربي أو إسلامي ، ففي بلادنا تعتبر المناصب من الأملاك الفردية المقدسة التي تراق من أجلها الدماء و الأموال و الأعراض و المصالح العليا و الدنيا و هي أغلى الأملاك التي لا تباع و لا توهب و لا تستبدل إلا بما هو أعلى منها مكانة مع الحفاظ على المناصب الأصلية تحت السيطرة إن أمكن ، و في بلادنا يعتبر أصحاب المناصب من أهل السعادة الأزلية (أولياء – معصومون – أشباه ملائكة) ، و ينظر الناس في بلادنا إلى من يفقد منصبه نظرة احتقار تعادل نظرة المؤمنين لإبليس الذي طرد من الجنة بمعصيته لملك الملوك سبحانه و تعالى ، حتى أن لغتنا مليئة بالمصطلحات التي تعبر عن سوء ما حل بفاقدي المناصب و أذكر منها على سبيل المثال : "كبوا له ميةّ باردة – زحط – ارتفس – طوّطوله – حلقوا له – خوزقوه – راحوا له – سحسحوا له – كحّشوه – زتوه بره مثل الكلب – شلحوه – إدّوله صابونة – شاطوه بره – خد بومبة – فقعوه زومبة – قطّوه بره – فنّشوه – شحّروه" و تعقب كل لفظ من هذه الألفاظ دعوة "يا لطيف" و ذلك خوفا من أن يصيب قائلها ما أصاب من قيلت فيه.
في بلادنا يتسربل أصحاب المناصب بسرابيل العصمة و العظمة منذ اللحظة الأولى لتوليهم مناصبهم و يرتقون إلى رتبة فوق رتبة البشر العاديين (من مواطنيهم طبعا) تترواح بين العصمة و الملائكية و تصل في بعض الأحيان إلى ما يقارب الألوهية ، و يا ويل من يخاطب أحدهم باسمه المجرد حتى و لو كان صاحب المنصب هذا من رتبة "مختار" أو "ناظر مدرسة" أو حتى "عريف" في سلك عسكري ، و يا ويل من يخالف أحدهم في ما يقول على الملأ أو ينتقد بعض أفعاله أو آرائه.
في بلادنا أصحاب المناصب حالهم كحال "علي بابا" الذي وصل إلى مغارة الكنوز و لو خرج أحدهم من المغارة دون أن يوقر راحلته من الذخائر و الجوهر فسيصبح مضرب الأمثال في الحمق و الغباء و سيذكره قومي كما يذكرون الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها.
في بلادنا لا يوجد حكام متقاعدون ، و لا زعماء مستقيلون ، لأن الزعيم يقسم لحظة استلامه للسلطة و هو واقف على جثة سلفه ألا يدع الكرسي و لو اجتمعت عليه الجن و الإنس و كان بعضهم لبعض ظهيرا إلا أن يكون جثة هامدة مسحولة في الشارع أو معلقة على عود أو ممزقة بالرصاص.
في بلادنا أصحاب المناصب كلهم عابدون لمن هم أعلى منهم و مستعبدون لكل من هم أدنى منهم ، و لا يمكن لأحدهم أن يكون حرا أو محررا لأنه إن فعل ذلك فسيفقد عصمته و سيطرد من جنة المناصب ليصبح من أبناء الفناء العاديين لا بل من أشقى الأشقياء المارقين.
في بلادنا الأوطان و الشعوب بأرواحها و دمائها و الماضي و المستقبل و الحاضر و الغائب و المقدسات و الحرمات كلها فداء مباح لذوي الألقاب التي تتراوح بين حضرة العريف و عظمة الزعيم و كل ما يفعله هؤلاء صواب و لو أن أحدهم أتلف البلاد و العباد فلن يكون بوسع قومي إلا أن يثنوا على المصائب التي يصبها رؤوسنا بأحلى قصائد الشعر و يصفونها بأنها نعم و انتصارات إلهية و منن و رعاية سماوية و هم راضون و قانعون , ألم يصيحوا يوم أخذ صاحب العصمة بنواصيهم "بالروح بالدم نفديك يا زعيم" ؟!!.
اليوم وقفت كما وقفت الإنسانية كلها لأشهد معجزة محمدية يتكرر ظهورها في "واشنطن" للمرة الرابعة و الأربعين ، فلقد روى "مسلم" في صحيحه أن المستورد القرشي (رضي الله عنه) قال ، عند عمرو بن العاص(رضي الله عنه):
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تقوم الساعة و الروم أكثر الناس". فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة. وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة. وأوشكهم كرة بعد فرة. وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة وجميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.
لفظ "الروم" تعبير نبوي يطلق على الأمم المسيحية عموما.
تسليم السلطة في أقوى بلد في العالم يتم بنصف ساعة لا أكثر ، فلا جثث و لا مشانق و لا منع تجول و لا حروب أهلية و لا انقلابات و لا شتائم و لا أشلاء و لا دماء و لا ملامة أو حتى عتاب ، وقف "أوباما" ابن المهاجر الإفريقي البسيط ليشكر "بوش" السكسوني الأرستقراطي الثري على ما قدمه لأمته و ليقول لقومه أعينوني و ساعدوني فأنا إنسان بسيط ثم ليفتخر بعظمة الحرية التي تعيشها أمته و التي بفضلها أصبح و هو ابن المهاجر الإفريقي الفقير رئيسا لأكبر بلد في العالم.
أسالكم بالله ألم تشعروا عندما شاهدتم الرئيس القادم يشكر الرئيس السابق بحضور جمهرة من زملائهما من الرؤساء السابقين كم نحن أشقياء و تعساء و كم نحن أقزام تافهون و كم سيحتقرنا أجدادنا الذين وقفوا على أبواب الجبابرة المتألهين ليطردوهم من على عروشهم و هم يقولون لهم : لقد أخرجنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحدالأحد.
يا حسرتي على ما ضاع من عمري و يا خشيتي على أعمار الأجيال القادمة من أمتي.
الشيخ عبد الله الحميدي.
التعليقات (0)