أحمد البوسطة
"القديم مازال قديماً والجديد ينتظر الولادة"
أنطونيو غرامشي
تعلمت من فارس الصحافة الكويتية، صاحب الكلمة المباشرة، الراحل محمد مساعد الصالح، ومن إحدى يوميات زاويته الشهيرة: الله بالخير، شيئاً مهماً في عملي الصحافي مازلت مقتنعاً بمضامينه ودلالاته وممارسته المحسوسة للعاملين في الحقل الصحافي، مفاده: إذا أردت أن تكون صحافياً ناجحاً يتوجب عليك ألَّا تصادق المسؤولين. فحين نوازن هذه العبارة بحال الصحافة عندنا، وكذا حال بعض الصحافيين نجد "انحدارة جنبلاطية" ستتضح أمام ناظريك ما ذهب إليه فارس الصحافة الكويتية الراحل محمد الساعد.
لكم أن تتخيلوا ما يضعه المسؤولون عندنا في البحرين من شروط خمسة لتوجيه الصحافيين بجهاز لتحكم عن بُعد "الرموت كنترول"، فأول هذه الشروط يُطلب منك أن ترى بعينهم، ثاني الشروط أن تسمع بآذانهم، وثالثاً أن تشم بخشمهم، والشرط الرابع، أن تتحدث بلسانهم وتفكر بعقلهم، وخامسهم كلبهم، يجب أن تمشي على مشيتهم.. هذا أو الكارثة!!
الكارثة هنا ليست مرتبطة بالمسائل المعيشية وسبل العيش فحسب، بل بأخلاقيات المهنة المفترض أنها محترمة وتجسد في أرقى تجلياتها في مبدأ بناء الحقيقة، ما يعني أنه على الصحافي عندنا، إذا أراد أن تصل لقمة إلى أفواه أطفاله، أو يتجنب نظراتهم اليائسة، ويأس زوجته، أن يلغي كل ما تعلمه وتدرب عليه في علم الصحافة من ذاكرته المهنية، خاصة المبدأ القائل: "لا سلطان على الكاتب الصحافي إلا ضميره!!".. وكفى المؤمنين شر القتال.
تقبل بهذا أو تضرب أسداسا في أخماس لاحتمالين تحتال بهما لاستمرار مزاولة المهنة لشخص مفترض أنه على قيد الحياة ليأكل وجبات ثلاث في اليوم لكنها مغمّسة بالذل: الاحتمال الأول، يقبل وأن كان على مضض بمقولة: "مَش العزاء يا عباس!!" أو تصبر على ما يواجهك، وما يقوله اليونانيون: المصيبة التي لا تقتلك.. تقويك، عندها تفوّض أمرك لقاسم الجبارين، فالصبر مفتاح الفرج!!. غير أني قرأت في مكان ما: إن الصبر حيلة يحتال بها من لا حيلة له !!.
وفي هذه الحالات تواجه نوعين اثنين من الأصحاب والزملاء في المهنة، النوع الأول: يشدّ من أزرك كلما حلت بك مصيبة مرتبطة بعدم الاستقرار الوظيفي لهذه المهنة - مهنة المتاعب - ويردد عبارة مشهورة عند المناضلين البحرينيين: "طِيح واقف يا افلان!!"، وهناك من يردد عليك جزئية من حوار بطل الروائي الكبير الراحل عبد الرحمن منيف في رائعته "الأشجار واغتيال مرزوق، عندما يقول لصاحبه: لا تضعف، لا تضعف.. أتسمع ما أقول لك؟.. لا تضعف!!، أما النوع الثاني فيطرح عليك بمحبة وحميمية قولاً مؤثراً خوفاً على مصلحتك بقوله: يا صاحبي، لا تكن يابساً فتكسر ولا تكن ليناً فتُعصر!! (شيل من هلنكَة وحُط في هلنكَة).. "هذا هو النظام العالمي الجديد، فتكيّف معه".. أي هذا سِلك البلد وعليك أن تقبل بذلك وإلا تحمّل ما يواجهك.
كلا هذين النوعين مشروع رؤية، وبهما ما يحتمل الصواب والخطأ، فعبارة: "طِيح واقف" جميلة ورائعة وتدغدغ المشاعر، تسحرك وتعطيك القوة، ولكن مهلاً، هل رأيتم إنساناً يسقط واقفاً إن لم يسنده أحد؟ حين تجد من يسندك يصعب إسقاطك.. فقط أود أن أنهي هذا الجدل بقول قرأته لثوار سلفادور مفاده: إن حمل الأفكار الجميلة سهل أيها الأخ، المهم كيف نجد وسائل لتحقيقها؟!.. هذه هي القضية !!.
شاءت الظروف أن يكون سقف الحريات عندنا نحن معشر الصحافيين في حيّز جغرافي ضيّق تتحكم الدولة في أدق تفاصيله، تتدخل في شؤونه، تهيمن على أنفاسه وتُديره بقرارات غير مكتوبة، وهذه "غير المكتوبة" أخطر القرارات، حيث من الصعوبة بمكان أن تجد مستمسكاً يدين انتهاكاتها، في محاولة أن تسير الأمور في العمل الصحافي على وفق معادلة مقززة باتت معروفة مفادها: "تفعل الحكومة ما تشاء بالصحافيين وتكتب الصحافة ما تريده الحكومة !!".
مثلما واصل نظام الحكم في سياسة تبليد المجتمع وزرع الكراهية فيه عبر أجهزته الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة وصرف مئات الملايين من الدنانير لفرض الرأي الواحد والسيطرة الكاملة على المجتمع، استطاع شباب 14 فبراير بإمكاناتهم البسيطة، ومن خلال عملهم الميداني الشجاع أن يكسروا هذه المعادلة ويحرروا الإعلام من تدخلات الدولة، ويقتلوا الرقيب بتكنولوجيا العصر، ويعطوا العالم الصورة الحقيقية لمجتمع حيّ، مُبدع، مُحب للحرية والكرامة والديمقراطية، حيث كسبوا تعاطف المجتمع الدولي وتفاعله مع قضية شعبنا، بإعلام شعبي ميداني شجاع بخلاف الإعلام الرسمي الذي يدار في غرف مغلقة مملوءة بالدخان وتخرج تقاريره من مكاتب يجلس محرروها بمؤخراتهم على كراسي فارهة لم تلامس حقيقة ما يجري حولها على بعد أمتار، تماماَ مثل شركات العلاقات العامة للنظام التي تحاول تبييض وجه الدكتاتورية القبيحة.
التعليقات (0)