خليط من الأصوات كان يصل لأذنيه، إنها أصوات الاستيقاظ و نفخة اليقظة الأولى في جنبات قريته نصف النائمة، صوت طفلٍ يبكي يبدو أنه استيقظ قبل والدته، في بكاءه إلحاح و إصرار على أن يوقظ كل من حوله من البشر!
و صوت آخر قادم من بعيد لإذاعة تعلن تمام السادسة صباحاً بالتوقيت العالمي الموحد، و تبدأ بسرد الأخبار من حنجرة مذيع يبدو من صوته أنه عظيم الهيأة ضخم البنية قام للتو من نومه!
و صغير ضأنٍ يصيح لترد عليه أمه بصيحة أخرى، فهي مستيقظة دوماً لن تكلفه البكاء، فالحيوانات لا تبكي لأنها لا تتعلمه و هي صغيرة.. أما نحن معشر بني البشر فإن أول ما نقوم به هو البكاء!!
و من بين تلك الأصوات المختلطة و الأفكار الغريبة التي تخطر على باله لأول مرة، و التي جعلت ذلك الصباح مختلفاً عن كل صباحاته الفائتة، شق صوت هائلٌ كل ذلك الزخم و بكل وضوح وصله:
- كل نفس ذائقة الموت.. ستقام الصلاة بعد نصف ساعة!!!
تبعته تلاوة آيات قرآنية، و رأى الرجال يتوجهون إلى المسجد في عجلة بعد أن توضؤا و تلك السبحة في أيديهم تتراقص حباتها دون ملل..
كان يعرف أن عليه أن يرافق جدته إلى المسجد فهي لا تفوت الصلاة على أي جنازة سواء كانت تعرفها أو لا، كانت تقول له بأن في ذلك الكثير من الأجر و أنه من حق المسلم على أخيه المسلم..
وصل البيت ليجده خالياً فعرف أنها غادرت إلى المسجد..
على ضعفها غادرت في هذا البرد، إنها لا تتهاون في مثل هذه الحالات و لا تتقاعس..!
هاهو عند عتبات المسجد الذي يغص بالرجال بعمائمهم البيض و التي تجعلهم متشابهين تحت الضوء الخافت الذي ينتشر في ساحة المسجد و الذي يضفي على المكان جواً من الرهبة و القداسة و شيئاً من الخوف!
تجول في الصفوف الخلفية حيث عجائز النسوة ينتظرن إقامة الصلاة، تفحص بنظرات خجولة متلهفة وجوههم نصف المكشوفة بحثا عنها، إلا أنها لم تكن بينهن، و المكان المنزوي الذي تعود أن يتركها فيه وجده خالياً تسكنه وحشة جعلت القشعريرة تسري في أوصاله، تراجع إلى صفوف الرجال و هو مشغول الفكر بها، فهو لا يعرف أين ذهبت!
إنه قلقٌ..!!
فكر فيما كان يريد أن يسألها عنه عندما يعود من المخبزة، فكر في الاسم الذي ناداه به الأستاذ أثناء الحصة و الذي كان يسمعه كثيراً دون أن يعي جزأه الثاني و لا أن يلفت انتباهه اسم ذلك الرجل المقرون باسمه!
يتذكر جيداً سؤال الأستاذ الذي لم يجب عليه:
- اسماعيل ولد محمد .. سمعت أحدهم يقرؤها مضموماً.. الدال مضمومٌ أم ساكن؟!!
مضمومٌ أم ساكن!!.. من أين له أن يعرف حركة الحرف الأخير من اسم شخص لم يعرف عنه أبسط التفاصيل، حتى و كأن هذا الاسم يطرق سمعه للمرة الأولى!!
أراد أن يحيل السؤال إلى جدته و ينتظر الإجابة بشغفٍ ليسألها بعد ذلك عن محمد..!
سيدعه الآن ساكناً ريثما يجد الجواب عله يحمل معه سبباً لضمه و رفعه..!
و لكن سؤاله سيحمل جميع أدوات الاستفهام و علامات التعجب.. منْ و كيفَ.. متى و أين.. و لماذا..!
من خلال زحمة الأفكار و البشر في المسجد امتدت إليه يد و سحبته بسرعة و قوة، كانت يد الخال عبدو الذي رأى في وجهه نظرة تشبه التي رمقه بها في لقائهما الأول، و بوادر الدمعة الماضية تلوح في محياه!
أراد أن يسأله عنها فربما يكون رافقها إلى المسجد أو رآها خلال تجواله في الساحة، إلا أن الخال عبدو كان قد تقدم به إلى الصف الأمامي حيث يقبع شبح جسد بشري ممدد على الأرض و ملفوف بعناية في ثوب أبيض..
أراد أن يسأله عنها.. إلا أن الخال عبدو تقدم خطوتين إلى الأمام، رفع يديه إلى الأعلى لبعض الوقت ثم كبرَ بصوتٍ عالٍ
..(الله أكبر)..
كبر الجميع من بعده بصوت عالٍ و مجلجلٍ، رفع يديه و كبر فقد علمته كيف يكبر و كيف يخشع مطأطأً رأسه إلى الأرض، جعلته يحفظ تلك الآيات القرآنية التي بدأ يرتل بصوت خافتٍ، و علمته أن يضع يديه على صدره، علمته الكثير.. مما كان يقوم به و هو يفكر في المكان الذي توجد فيه!
توالت التكبيرات.. ثم كان التسليم حيث قال بخشوع و نظراته إلى الأرض
..(السلام عليكم)..
التفت إليه الخال عبدو و أمسك بيده فأراد أن يسأله عنها.. إلا أن الرجال المندفعين نحو الجنازة لم يمنحوه فرصة، فوجد نفسه مندفعاً بينهم في اتجاه المقبرة و الجنازة فوق رؤوسهم تعلوها غيمة من الغبار الذي تثيره أقدام الرجال المتزاحمة..
لا زالت يد الخال عبدو تمسك به فيما هو يريد أن يسأله عنها، تجاوز الموكب بعض القبور قبل أن يصل قبراً جديداً، رآه فاغراً فاه مستعداً لمن يرغب في الإضجاع الأبدي!
سرى فيه خوف عند رؤيته ذلك القبر الضيق..
أحس بضيق في التنفس و ثقلٍ في أطرافه، أحس بالأرض تتحرك من تحته و كل شيء يتبدل و يتغير، السماء صارت جرحاً نازفا ترسل سحابا من الدم الساخن، و القبور انشقت فخرجت منها أشجارٌ قصيرةٌ أغصانها لا لون لها و أوراقها مسننة لها وميض و حفيف كالهمس بتعاويذ سحرية!
استحالت وجوه الرجال من حوله صور هلامية رمادية تتقشر مع هبوب الريح، و ابتسامة شيطانية تلوح منها!
رأى الثوب الذي يلف الجنازة يذوب ببطءٍ، و شيئاً فشيئاً تراءت له الجدة من وراء الثوب، كانت بيضاء كالشعلة المضيئة، وضع يديه على عينيه للحظة من شدة النور الصادر منها، استوت واقفةً ابتسمت في وجهه و بدأت تعلو شيئاً فشيئاً، أراد أن يسألها أين كانت طول الوقت، إلا أنها كانت تبتعد عنه و بصرها إلى الأعلى..
أراد أن يصرخ باسمها، أن يناديها علها تسمعه فتعود، أن يطرح عليها آخر سؤالٍ دار في ذهنه، إلا أنه اكتشف أن حنجرته تيبست و صارت صلبة لا تطيعه!
أراد أن يلحق بها فأحس بشيء يشده إلى الأسفل، رأى تلك الشجيرات تلف ساقيه و أوراقها مغروسة في عروقه و هي تصدر نفس التعاويذ السحرية!!
رآها تغيب في ثنايا الجرح السماوي صامتة فيندمل الجرح و تتوقف الأمطار الدموية!
غابت؟!!
نعم.. غابت عندما احتاجها لتجيب على آخر أسئلته، هي التي كانت دوما جاهزة لتمنحه الجواب الشافي و الكافي لجميع أسئلته البريئة و السخيفة!
لماذا لم يخطر بباله هذا السؤال من قبل ليطرحه عليها و ينفجر من بعده بالبكاء!
يعرف أنها لن تبكي لبكائه و إنما ستنهره و تقول له مر الرجاله ما يبكو، ثم ستنحني عليه بحنان و نظرة خبيثة تشع من عينيها لتقول له لا إشوفوك امنات الناس تبكي!..
غير أنه في هذه المرة سيبكي بصوت مسموع.. سيصرخ و يولول و لن يأبه لبنات الجيران و نظراتهم الشيطانية لكل ما هو رجولي، نظرات مشبعة بالشهوة و النزوة.. و البراءة!
نظرات من التنزيه و كأن الرجل كائن مقدس، صنعته يد نحات من رخام صلد لا يحس و لا يتأثر إلا بقدر ما يثير فيهن إحساسهن بنضج أنوثتهن!
أما أن يحزن فذلك أمر غريب، يجعل الأسئلة تدور حول جدوائيته كرجل!
سيبكي و يجعل معدل التقديس ينخفض في تلك النظرات إلى مستوى الدمع، و الانكسار أمام رجل يبكي!
نعم سيبكي غير آبه بما يقال و ما سيقال، و ما ستختزنه نظرات أهل القرية من شفقة كاذبة أقرب هي إلى الاحتقار!
فالبكاء في القرية لا يمارسه إلا من يريد إثبات شيء كاذبٍ، أما الرجال فلا يبكي منهم إلا من يجري في عروقه دم أنثوي!
نعم.. كان لديه شك دائم في دماءه التي يحس الآن أنها لامرأة منحته روحها!
فدماءه لم تعد نقية من اليوم، أصبحت ذات نكهة حزينة رقيقة كالمرأة في قريته!
كان يوقن أن بداخله أنثى تقتات رجولته تمنحه القدرة على الحزن بصوت مسموع، على تحدي مجتمع لا يتقبل البكاء في حوزته!
سيتحدى مجتمعه، و يتجاهل نظرات جدته التي تدعوه إلى الصمت، سيصرخ بسؤاله عالياً!
سيلح في طلب الجواب، ثم يصوم الأسئلة بعد ذلك!
سيكره الأسئلة.. كل الأسئلة، و كل الأشياء التي غابت عنه و التي يجهلها، سيعاقر الصمت بقية عمره، ويدفن لسانه بين قبرين!
قبرين.. دفن في أحدهما سؤالاً و في الآخر جواباً!
و ستكون وصيته بأن تصلب جثته بين هذين القبرين، تماماً كما صلب في العمر بين سؤال و جواب!!
سوف يكون آخر ضحية لحقيقة بقيت مخفية عنه مدة من الزمن، فمجتمعه الذي يهاب الكلام يعرف كيف تبقى الحقيقة طي الكتمان، دون أن تتسرب إلى من يحتاجها ليعيد عليها ترتيب مصادر الحزن في حياته!
كان سكان القرية و فيهم الخال عبدو قد رأوا الوقت مناسباً لأن يسمع الحقيقة!
لأن يولد من جديد، عندما رأوه يذرف دموع الأمومة على جدته!
طريقة قاسية في تأجيل الحزن إلى حين ينضج الإنسان و يصبح لديه قدرة أكبر على البكاء و الألم.. و الشوق إلى الرجوع إلى العدم!
انتظروه حتى غادرته أمه التي عرف في صغره و التي ربته و سقته ماء الحياة الأول، أمه التي منحته كل معاني الأمومة غير ناقصة و لا مبتورة!
فأتوه و هو يفكر في أي نوع من الحزن يختار لها فيلبسه عند قبرها!
لم يكن راضيا عن الحزن المتوفر في قريته فأراد أن يخلق حزناً جديداً، أو يجلب حزناً من كواكب العتمة الفضائية و الظلمة الكونية فهي وحدها التي بمقدورها أن تحزن بعمق معه!
أن تلامس الفراغ بداخله، و تذوق طعم الغياب في حياته الباقية!
فكل الفراغات صارت تشبهه، و كل معاني الفقدان صارت أكثر عمقاً في نظره، صار يفهمها بشكل أفضل الآن.. الآن فقط!
أتوه و حسن النية يختط ملامحهم، و حزن مشبوه..
أخبروه أنها جدته و أن أمه هي صاحبة القبر المجاور لقبر جدته الطري!!
تحسس مواقع أقدامه و هو يقف بين القبرين.. أطلق صيحة كان قد اختزنها من يوم ميلاده الأول!!
النهاية
التعليقات (0)