كان خروجه إلى الدنيا متردد متلعثم، مبني على الشك و التخيل، فلم يجد أمامه من الفرح إلا القدر المساوي لما وجد من الحزن، لتحتضنه المآتم و مجالس العزاء أيام قدومه الأولى!
فبقي مدى العمر دليل إثبات على لحظة حزنٍ مضت!
على جريمة اقترفها القدر بأصابعه البريئة الضعيفة، حتى قبل أن يدرك الفرق بين لون الدم و اللبن، بين الجدة و الأم!
لم يكن يدرك أن بداخله بركاناً من الحزن ينمو و يتسع لينعكس أمامه في نظرات قوم يتذكرون عند رؤيته شخصاً آخرَ، ينتمي إلى عالمٍ آخرَ و حياة أخرى.. كان يرى في نظراتهم ذلك الحزن و الأسف.. و قليلاً من الشفقة لم يكن يعرف لها سبباً، و لا يستطيع بعقله الصغير أن يجد لها مرداً!
حتى أن الخال عبدو ذلك الرجل الستيني الذي يحمل في محياه ملامح طيبة مشوبة بقسوة خافتة أورثتها إياه مكابدة السنين و صراع الزمن، عندما أتى ليسلم على الجدة بعد غياب طويل في إفريقيا، لاحت في عينيه دمعة عندما رآه و أصابت حشرجة قوية صوته الضعيف، و راح يقبله و يتمتم بكلمات غير مسموعة، و يردد بنغمة حزينة اسمَ امرأة لا يعرفها!!
لم يفهم اسماعيل تصرف هذا الرجل الذي يراه لأول مرة، و الذي يبكي أمام جدته دون أن تعلق، و هي التي كثيرا ما تنهره عندما يبكي فتعيره بالبكاء و تقول له بأن الرجال لا يبكون!
لماذا لا تقول نفس الكلام لهذا الرجل الذي يبكي من دون سبب؟!
أم أن الرجال عندما تكبر بهم السن يباح لهم ما كان ممنوعاً، فيتساوون مع الأطفال الصغار الذين يملأ بكاؤهم آذان الجميع!
إلا أن دمعة ذلك الرجل الطاعن في السن كانت طاعنة في الحزن، إنها لم تكن بكاءً فقط و إنما كانت أكثر من البكاء، إنها كانت لغة استحضار لعوالم أخرى غير التي تتبدى لعينيه الصغيرتين الذابلتين، عوالم يحسها و لكنه لا يفهمها، يراها مجتمعة في تلك الدمعة التي يذرفها ذلك الرجل!
أدرك أن لدموع الرجال طعماً آخر غير الملوحة، و غير العذوبة، طعم يبحث عن حليمات ذوق خاصة تتحلل الصلابة و الرقة عند ملامستها بنفس السرعة، بنفس القوة.. و بنفس الرعشة!
و الاسم الذي كانت تشيعه تلك الدمعة ظل صداه يتردد في أذنيه، و حركة شفتي ذلك العجوز المرتعشة و هي تلفظ الاسم ما تزال ماثلة أمامه يستعيدها بكل ما تحمل من تفاصيل الحزن عندما يشيخ و يهرم!
مَيَمْ.. الاسم الذي لفظه العجوز بنغمة خاصة ليعانق سمعه و يظل صداه يتردد في أذنيه، ناعم رقيق يثير فيه إحساساً غريباً و كأنه يخصه دون الجميع و يعنيه أكثر من الآخرين..
كان لديه إحساس أنه الاسم الذي كان يجب أن يستعمله أكثر من أي اسم آخر، كان من المفروض أن تكون علاقته به متجذرة و عميقة أكثر من أي علاقة أخرى، ربما كان هو اسمه قبل أن يولد، هو الذي يختزن بين أحرفه هويته الحقيقية، و ملامحه الروحية الأولى المليئة بالأنوثة!
كان يثيره ذلك السر المدفون ما بين الميمين، سر يدعوه دوما إلى أن يتساءل عن صاحبة هذا الاسم، أن يجلس إلى جوارها و يطلب منها أن تحدثه عن صاحبته، أن تصفها له فتشبع فضوله الطفولي الغير مبرر لاسم مر على أذنه بالصدفة تشيعه دمعة شيخ هرم!
أخبرته أنها جدته التي توفيت منذ أعوام قبل ولادته..
سألها:
- أهي تشبهك..؟
- إنها تختلف عني تماماً، إنها جميلة..
- أنت أيضاً جميلة..!
ابتسمت و هي تنظر إليه برقة بعد أن تركت وسادة كانت تخيطها، أخذت وجهه بين يديها و قالت:
- أنت لا تعرف الجمال يا بني، و لكن فيما بعد ستكون أكثر قدرة على إدراك جمال النساء، و ستعرف أن أجملهن تلك التي تستطيع أن تحفظ جمالها خاليا من التجاعيد و لو كلفها ذلك استعمال مساحيق الموت!!!
لم يفهم ما ترمي إليه بكلامها، و لكنه كان يراها جميلة رغم التجاعيد التي بدأت تظهر في وجهها، كان يحس بالفخر عندما تكشف له ابتسامتها تلك الأسنان البيضاء التي لم ير مثلها لدى نساء القرية.. إنها بالفعل جميلة، و لكن هل مَيَمْ أجمل منها، كان لديه شك في ذلك!
أضافت و هي تتناول الوسادة من جديد:
- سيأتي زمن تعرف فيه قيمة التجاعيد التي تملأ وجهي!
لم يفهم شيئا مما تفوهت به و لكنه لاحظ أنها تتكلم ألغازاً عندما يحدثها عن مَيَمْ، كما لاحظ تلك النظرة المنكسرة و النغمة الخافتة و دمعة تنزل على خدها و هي تحدثه، تمر عبر التجاعيد لتستقر لحظة أسفل لحيتها ثم تسقط على جبينه، دمعة تشبه التي ذرف خاله قبل قليل!
غاب في حضنها و كأنه يحتمي بها.. يتمسك بها خوفا من أن تغادره كما غادرتها أمها..!
إنه يرفض أن ترحل عنه حتى لا يحزن مثل الخال عبدو، و يجد نفسه مضطراً للبكاء آخر العمر، فهو لا يريد أن يبكي و لا يريد أن يحزن.. لا يريد أن يفقد أمه!
لا يريد أن يفقد ذلك الحضن الذي ينعم به عندما تخيفه وحوش الليل و عفاريته التي تظهر أعينها المشتعلة من وراء الظلام، فتحرمه النوم إلى الفجر حيث يكون وقت الصلاة قد حانْ!
لا يريد أن يغيب عنه ذلك الصوت الذي يهمس في أذنه
الصلاة.. الصلاة..
ذلك الصوت الذي يمنحه القدرة على اليقظة و النشاط، على ممارسة العبادة بشهية إيمانية متفتحة..
على أن يزاحم عند المخبزة أولئك الرجال القادمين لتوهم من المسجد في أيديهم تلك السبحة الطويلة التي يصدر عنها صوت منتظم من ارتطام الحصى بعضها ببعض، ذلك هو الصوت الوحيد الذي يصدره أولئك الرجال الذين يطبعهم الصمت التام خلال تواجدهم أمام المخبزة فيقضون جميع حوائجهم دون أن يتفوهوا بكلمة واحدة، و إنما الإشارة وحدها هي التي تسعفهم و معرفة صاحب المخبزة المسبقة بما جاؤوا من أجله، و ما إن يحصل أحدهم على ما يريد حتى يبتلعه الظلام الذي مازالت أسرابه تحتمي بالممرات الضيقة بين البيوت المتراصة، أما من يحمل منهم جمراً فتظل تلك الشعلة الحمراء المتوهجة تخفت شيئا فشيئا إلى أن تصير كالشهاب الخافت ثم تختفي بعد ذلك، مشهد سماوي بامتياز تنقلب فيه جميع المقاييس و يقف المنطق مشدوها حيث الناس استحالت أجرام سماوية تسبح في مجرة القرية بحرية و خفة، و المخبزة تمنح النور بسخاء بالغ!!
ففي ذلك الوقت من اليوم تكون المخبزة هي المركز النابض المشع في القرية، مصدر الطاقة و الغذاء..
ناداه صاحب المخبزة باسمه، ناوله رغيفين من الخبز، و أخذ من عنده آلة الحديد التي يحمل و ملأها جمراً أحمرَ ملتهباً أحس بالدفء عند رؤيته، ناوله الآلة قائلاً:
- سلم لي على والدتك..
تناولها منه دون أن يعلق لأنه تعود على أن يقول له هذه العبارة دون أن ينتظر منه جواباً، و إنما يتحول عنه بسرعة ليعبأ آلة أخرى لشخصٍ صامتٍ آخر!
انضم إلى سرب الجمر الذي تنفث المخبزة في أطراف القرية..
يتواصل
التعليقات (0)