نظر من نافذته المطلة على مدينة تخلع عنها ثوب النوم وتدخل في يوم جديد.. كان إحساسه بالفوارق والفواصل الزمنية مرهفٌ، فبعض الأوقات كانت تخنقه وأخرى تخلقه مع كل نافذة زمنية!!
والصباحٌ كان أكثر الأوقات التي يرى أنها تشبهه!
يمثل بالنسبة له النقاء والصفاء الذي يرافق ولادة يوم جديد، تماما كما يولد الإنسان بريئاً ناصعاً، لم تدنسه سنوات عمر عرجاء تملأها قذارة الانكسار والفشل، وتجارب نوهم أنفسنا بأنها مكسب في حين لا تعدو كونها شهادة فشل غير مزورة بأحلامنا!
هكذا يتلاعب بنا العمر فلا يمنحنا في النهاية سوى جرعة غياب ورحلة مبتورة الأطراف، وشهادة وفاة!
والصباح هو الآخر وما يملك من صفاء لا يعدو كونه مؤقتاً، سيتحول غباراً وشمساً صحراوية حارقة، وفي النهاية يتحول الضوء عتمة فيكون الليل وما يحمل من عوالم الرعب والجمال!
فالأشياء الجميلة لا تعمر طويلاً..!!
كانت علاقته بالصباح مبنية على التغير و التبدل الذي يربطهما ببعض، فكلاهما يدفن بداخله ما لا يريد للشموس أن تطلع عليه، مع أنه يسمح لزوايا الضوء أن تكبر و تزداد دون أن تكون مطلة على الخارج!
فنوافذه الصباحية التي تبقى مشرعة طول العمر هي تلك التي تطل منه عليه، و تحمل منه الهواء المكتنز مدى العمر المنسي و تعيده إليه دون أن يكون للخارج حظ فيه!
تلك هي نوافذ النسيان التي تمنحه علاقة خاصة بالصباح!
هي التي تحمل إليه النسيم الرقيق الذي يداعب جوارحه و يمنحه إحساساً باليقظة المشوبة بغفوة، ليرى نفسه يمشي مشية النائم وراء معزاتين أنهكهما الهزال و لعب بهما الجفاف، يمشيان في إعياء و طقطقة أظافرهما الطويلة تحدث صوتاً رتيباً منتظماً يجعل من اهتزاز رقبتيهما رقصة تتناغم مع اللحن بإتقان..
كان ذلك الصوت يمنحه إحساساً بوقع أقدامه الحافية على التراب الذي ما يزال يختزن برودة الليل و آثار الحشرات و الكائنات الليلية التي تعشق الظلام فتتوارى عند خيط الفجر الأول!
قميصه الرقيق و سرواله الذي تملأه خرائط من نوع آخر، لم يعيناه على مقاومة البرد الصباحي القارس، و يداه اللزجتين من آثار اللبن المحلى يضعهما بين فخذيه الصغيرين بحثاً عن حرارة قد يختزنها جسمه الضئيل!
جريه المنهك وراء المعزاتين تحت إلحاح الراعي المتربص عند مخرج القرية منتظراً أغنام السكان القادمة في كسلٍ و تثاقلٍ من مناحي القرية التي لا تزال تغط في غيبوبة الصباح و كأنها تتشبث بهدوئه هاربة من جلبة النهار و ضوضاءه.
القرية هي التي أورثته بعده الصباحي الأول، و هي التي أهدته أول انكسارٍ حقيقي جعله يدرك جدوائية النوافذ الصباحية!
هي التي منحته القدرة على تجزأت العمر، و قتل فصوله الأكثر ضبابية بسموم الغفلة و النسيان!
تلك القرية المسكينة هي التي جعلته يدرك الفرق بين شظايا اليوم الواحد، و تنوع الزوايا التي تنظر منها الشمس إلينا، و تلك التي تغيب فيها عنا!
فالشمس حاضرة في كل التفاصيل هنالك.. حتى و إن كانت السماء ليلية بأنجمها المتناثرة في تناغم فوضوي ملتهب، إلا أن أخيلة الناس تبقى معلقة بها إلى حين عودتها، كتلك الحشرة الضعيفة التي تبيت تبكي من حر الغد، فتلتحف سواد حزن لم يأت بعد، و تتجرع ألماً ما زال في بطن القدر!!
ليس غريبا في قريته أن تتفق رؤية الحشرة و الإنسان لأمر معين.. بل هو أمر طبيعي.. طبيعي جداً!!
الشمس لها إطلالة ملائكية على قريته، سرعان ما تتحول إقامة شيطانية في كبد سماء جافة!
و قبيل الإطلالتين يكون الصباح برقته المتفجرة نسيماً و عبيراً صحراوياً قد أشرف على القرية التي لا تفوته أبداً، كباراً و صغاراً، رجالاً و نساءً.. و حيواناتٍ.. الجميع يستيقظ باكراً ليأخذ حصته من بركة الصباح..
حتى البيوت تتثاءب في كسلٍ مشرعة نوافذها أمام أنفاسه لينفث فيها من أسراره ما يمنحها القدرة على مواجهة يوم جافٍ يلوح في الأفق!
تلك البيوت المتشابهة و المتواضعة بنوافذها الفسيحة و أبوابها الواسعة، و كأن ساكنيها حولوا خيامهم المصنوعة من القماش و الصوف إلى خيام من الأسمنت و الحديد!
لم تكن كثيرة و لا كبيرة، و إنما كانت في أكثرها أنصاف و أرباع بيوت تراهن في تراكمها على السنين التي ستمنحها القدرة على الصعود إلى الأعلى بشكل تدريجي، كما ستمنحها ضعفاً و وهناً آخر حتى قبل أن تكتمل.. و قد لا تكتمل أبداً، فالناس هنالك يعيشون كالمسافر الدائم، و قريتهم لا تمثل بالنسبة لهم سوى محطة في رحلة كونية تخوضها أرواحهم بعد أن تبقى أجسادهم محبوسة في شبرين من الأرض!
إيمانهم الكبير و عقيدتهم الراسخة، و طبيعتهم البدوية التي لا تعرف الاستقرار، كل ذلك يجعلهم متهاونين في إعطاء دنياهم حظها من العمل، و إنما يكتفون بسد رمق رغباتهم و إيقافها عند الحد الذي يمكنهم من البقاء على قيد الحياة، إنهم يهتمون أكثر بتعمير قبورهم بدل قريتهم المسكينة، و بيوتهم تدل على ذلك، تلك البيوت التي تختزن ذكريات مجتمعٍ صامتٍ، يهاب كل شيء حتى الكلام و يحترف الصمت حياءً أمام المواليد الجدد فلا يفرح بهم سوى أبعد الناس عنهم!
و الأموات عندما يغادروهم لا يجدون من يبكيهم سوى تماسيح بشرية من المرتزقة التي تقتات أحزان الآخرين و أفراحهم، أما أقرب الناس إليهم فتجدهم يريدون إثبات جفاف مآقيهم، و كأن الحزن بصوت مسموع غير مسموح!
أو أنهم من فرط المحبة لا يمكنهم توديع من ينوي الغياب الطويل بدمعة!
الفرح و الحزن يملكان في قريته نفس الطقوس!!
يتعانقان كما يعانق الموت الحياة، فيخرج الحي من الميت دون أن يودعا بعضهما، و إنما حافة الصمت و الألم هي التي تجمعهم في حيز لا ينتمي إلى أيٍ من العالمين!
ليغادر أحدهم بصمتٍ، و يأتي الآخر إلى العالم و هو يصرخ في دهشةٍ!
هكذا أتى اسماعيل إلى الدنيا ممتطياً روح والدته، صامتاً و شاحباً حتى ظنه البعض فارق الحياة قبل أن يولد، غير أن حظه الذي حرمه والدته منحه جدة أدركت أن قلبه الصغير ينبض بالحياة رغم صمت الصراخ لديه، فعاش سنيناً يناديها أمي!
يتواصل
التعليقات (0)