لم أحصل على موعد سابق،، فالسيد المسؤول ليس وزيرا او عضو مجلس نواب او حتى رئيس كتلة،، بل هو رئيس مؤسسة حكومية، جعلته بدرجة وكيل وزير، دخلت مكتبا يتوزع فيه بعض الجالسين (على الشحن) بانتظار مقابلة المسؤول، عرفت عن هويتي ورغبتي في مقابلة السيد المسؤول، ابتسم الشاب المحشور ببدلته اللماعة وهو يزيح خصلة لماعة من شعره المدهون بنصف علبة (جل)، وطلب مني الجلوس لخمس دقائق ريثما يبلغ مدير مكتب المسؤول، إذن كان عليّ توفير جهودي لمدير المكتب بدلا من الحديث الى هذا الشاب اللماع، تحولت الدقائق الخمس الى نصف ساعة،
والشاب مشغول إما بمكالمة من هاتفه الخلوي الذي لا يكف عن الرنين وإما بشباب بمثل لمعانه، يمرقون بين لحظة وأخرى ليستوقفهم بتعليق ساخر، او ليهمس احدهم بإذنه، اقتربت منه لأخبره بأني في عجلة من أمري، فاعتذر بطريقة تمثيلية تلمح الى انه نسى أمري لكثرة انشغاله وأهمية عمله، وطلب مني مرافقته الى مدير المكتب لمعرفة الموقف وفيما إذا كان السيد المسؤول سيجد الوقت لمقابلتي أم لا،
كان المكتب أوسع هذه المرة،، لا يخلو من (مشتولين)، يبدو انهم أوفر حظا من الذين سبقوهم، يجلس خلفه شاب في الثلاثينات، بمظهر لا يختلف عن الأول سوى بلون القميص البرتقالي، وفي الجهة الأخرى من المكتب جلست فتاة (مبهرجة) خلف مكتب صغير تداعب لوحة مفاتيح حاسبتها التي تعبت شاشتها الفضية من طول (صفنة) الفتاة وهي تحاول ان تتظاهر بالانشغال بعمل ما، نظر إلي المدير الثاني جاهدا ليبدي جدية واهتماما وهو يصغي الى ما قلته، ابتسم مرحبا بحرارة تليق بأهمية الإعلام ودوره - كما قال- وبرقة ايضا طلب مني الانتظار لدقائق ريثما يقوم بتبليغ مدير مكتب السيد المسؤول! كانت دهشتي اكبر هذه المرة، فهذا الشاب الاكثر لمعانا لم يكن ايضا مدير المكتب المعني، ربما كان علي ان اطلب موعدا مع مدير مكتب المسؤول أولا!.
وكون المدير الثاني أكثر أهمية، فلم يجد الوقت للجلوس لإجراء المكالمات وتحية الشباب اللماعين الذين (يخطفون) بين المكاتب في عجلة كخيول فقدت خط السباق، ففضل ان يظل واقفا لانجاز مهام عمله الذي يظنه (خطيرا)، وبالتفاتة كريمة منه، قطع مكالمة هاتفية ليطلب لي شرابا وهو يؤنب صاحبه لنسيانه واجب الضيافة، شكرته ووجدتها فرصة لأعلمه باني في عجلة من أمري، وبإشارة من إصبعه طلب ان انتظر دقيقة أخرى فقط، مشيرا في نفس الوقت الى شاب صغير (قليل اللمعان) لا يتجاوز العشرين من العمر، اختفى الصغير ليعود بعد دقائق حاملا (استكانة) شاي تتراقص ليضعها أمامي، وفور إنهائه المكالمة طلب مني مرافقته الى المكتب الثالث، وكان هذه المرة أكثر اتساعا ويغص بثلاثة مكاتب إضافة الى مكتب المدير وبشخصيات (مشتولة) تبدو أكثر أهمية ممن سبقوهم، لم أكلف نفسي عناء الشرح هذه المرة، فقد تبنى المدير الثاني سرد القصة، ابتسم المدير الثالث بجدية اكبر كمن وقعت على رأسه مصيبة موعد جديد لا تكفي أجندة السيد المسؤول لحشره ضمنها، فطلب بدوره إلي ان (أستريح) فرفضت هذه المرة كوني (شبعت راحة) وأريد العودة الى عملي بعد ان ضاع نصف صباحي، بدا منزعجا من إجابتي وإلحاحي، واختصر معاناته بالقول بان الأمر ليس من اختصاصه بل علي مقابلة سكرتير المدير! صعقت هذه المرة وأنا اشعر باني في مغارة علي بابا بأبوابها المتداخلة يحرسها جان عليّ محاربتهم للوصول الى السيد المسؤول، بدا المكتب الرابع فارغا عندما دخلت، كنت أنا (المشحونة) هذه المرة، وبعد مضي نصف ساعة خرج السكرتير من باب جانبي لمكتب السيد المدير، كان شابا (شديد اللمعان) لكن جسامة مهامه جعلته يلقي بسترته على كرسيه الفخم قبل ان يجلس كمحارب بقي وحيدا في ارض المعركة، تنقلت نظراته الجامدة بيني وبين المدير الثالث الذي تولى ايضا شرح مهمتي، فبدا كمن يستنكر اقتحامي لنهاره المجدول دون موعد سابق، وقبل ان يجيبني باغته شاب لماع مقاطعا، ثم آخر حتى أصبت بدوار كأني أشاهد فلما للمافيا، فقد فاق عدد الشباب اللماعين في مغارة مكاتب السيد المسؤول العشرين او الثلاثين شابا، كان واضحا ان لا عمل لهم سوى الحماية والـ(تشريفات) - كما يدعونها - كما كان واضحا ان معظمهم دون مؤهلات مناسبة لـ(التشريفات) سوى زي وحدوا به أنفسهم وماركة (جل) وحدت تسريحتهم، والأكثر وضوحا انتماؤهم لجهة واحدة ومنطقة سكنية واحدة وربما عشيرة واحدة!.
مع تكرار (مافيا) التشريفات والحمايات في مكاتب مئات المسؤولين، لم يعد غريبا ما يقال ان 75% من ميزانية الدولة الضخمة تذهب الى رواتب الموظفين، وفي الحقيقة ان نسبة الذين ينجزون عملا من هؤلاء الموظفين في دوائر الدولة قد لا تزيد عن 25%، فلا عجب ان تخفض الدرجات الوظيفية لموازنة 2012 ليبقى آلاف الخريجين وأصحاب الشهادات العليا عاطلين عن العمل، وليصرح المسؤولون بـ (قلق) عن مشكلة الترهل الوظيفي التي ترهق الموازنة وتعطل مشاريع البناء!.
التعليقات (0)