من أعجب سخريات القدر, ومن أكثر الإساءات للإنسان وحقوقه, في عصرنا هذا في يومنا هذا, أن تعمد بعض الأنظمة السياسية القمعية, دون أن يندى لها جبين, لإنشاء ما يسمى وزارات لحقوق الإنسان. وان تفكر أخرى, بعد موافقة جنرالاتها, في استحداثها ضمن مجالسها الوزارية. وان تشد على يدها في ذلك ديمقراطيات غربية الإنسان عندها هو إنسانها.
لم يعد من المحرمات الاعتداء على مفاهيم ومبادئ ساهمت البشرية قاطبة, منذ نشأتها والى اليوم, في خلقها وتطويرها, وما زالت تعمل جاهدة لإغناء مضامينها, وتسعى لتأمين تطبيقها في كل أرجاء المعمورة و حيث يوجد الإنسان. و لا تفوّت الأنظمة العربية شرف المساهمة, تقمع الإنسان وتقيم لحقوقه وزارة. وزارة على مقاس تلك الحقوق. حقوق الإنسان العربي بخصوصياته, فالكثير من الحقوق لا تلاؤمه , وأخرى لا حاجة لها بها. وغيرها تضر به وقد تفسده.
حقوق الإنسان ليست من خلق الإنسان الغربي المعاصر وحده, كما يحاول أن يصور المستخفون بهذه الحقوق عن طريق الغمز من مصادرها, وربطها بالسياسات القديمة للاستعمار, أو الحالية لبعض الدول الغربية, وبشكل خاص أمريكا في سياساتها الجائرة الظالمة المستخفة بكل ما هو غير أمريكي .
من حيث النشأة , ألا تعتبر دعوة ألواح حمو رابي في بابل عام 1750 قبل الميلاد لإقامة العدل ولحماية الفرد الضعيف من ظلم وتعسف السلطة, مساهمة مبكرة جدا و سطرا مكتوبا في مدونة حقوق الإنسان التي نقرأها اليوم في النصوص المدونة المتعلقة بتلك الحقوق. وما كتبه مانغ ـ تسي Meng-Tseu , عام 300 قبل الميلاد, بان الفرد هام إلى درجة غير محدودة , وان شخص الحاكم السيد أقل أهمية. وما أعلنه سوين تسي Siun-Tseu في هذا المعنى بقوله "ما لذي يجعل المجتمع ممكنا؟ أليست حقوق الإنسان؟". لقد كانت كل المناقشات والحركات الفكرية في تلك العصور تدور حول فكرة العدالة كما كان يراها أفلاطون و فكرة الإنصاف كما كان يدعو لها أرسطو, رغم عدم التطرق لحقوق العبيد, الذين لم يعترف لهم بالمواطنة ـ واعتبروا كمتاع يشترى ويباع ـ فقد اعتبر أرسطو العبودية "ضمن نظام الطبيعة" ومن تدبيرها. ولم يكن هذا مسلم به على إطلاقه, فقد عرف التاريخ ثورات على العبودية منها محاولة سبارتاكيس Spartacus لإلغائها فقاد أكبر ثورة عبيد, في تلك العصور, استطاعت الانتصار على الجيش الروماني لمدة عامين, إلى أن تم سحقها بقتل قائدها على يد كراسيس Crassus عام 71 قبل الميلاد.
أولم تدعو المسيحية, حاملة مفهوم العدالة, للاعتراف بإنسانية الإنسان وبكونه قيمة كبرى بذاته. وبان البشر جميعا متساوون أمام الله. ولعدم الإقرار بوجود فوارق بين المخلوقات البشرية.. و تحمل دعاتها الأوائل ومعتنقوها للاضطهاد, بسب دينهم الجديد والمفاهيم التي دعوا لها, لمدة 3 قرون. إلى أن جاء الإمبراطور الروماني قسطنطين Constantin (303 ـ 337 م) واعترف لهم ببعض الحقوق, وخاصة حق العبادة.
أولم يدعو الإسلام ــ رغم ما وقع على معتنقيه الأوائل من اضطهاد وتشريد من الديار , وخاصة المستضعفين منهم والعبيد في مجتمع الجاهلية ــ قولا وفعلا, لتكريم الإنسان تكريما لا حدود له, و للمساواة بين الناس وعدم التمييز القائم على العرق أو اللون. وإلى التحرر من العبودية. فساهم إلى حد بعيد بترسيخ مفهوم حقوق الإنسان. وهو ما لم يعطه الكتاب المسلمون حقه في كتاباتهم, وتعريف الآخرين به من غير المسلمين, وإيصاله إلى اللغات الأجنبية السائدة. كما لم يشر إليه, بما فيه الكفاية, مؤرخو حقوق الإنسان في الغرب, إما عن تجاهل مقصود أو عن جهل حقيقي.
وفي حين كانت المجتمعات الغربية, في القرون الوسطى, تتكون في غالبيتها من الفلاحين المنشغلين بهموم كسب عيشهم اليومي في ظل ظروف صعبة جدا: حروب طاحنة, فقر مدقع, أمراض وأوبئة متفشية, لم تغب كليا المنادة بالحريات الفردية عن تلك المرحلة.
و بقيت المطالبات بالحريات وحقوق الإنسان, في جوهرها, حتى عام 1215, مجرد مطالبات و أفكار فلسفية ودعوات دينية لم تدون في نصوص تأسيسية لحقوق الإنسان. إلى أن ظهر في العام المذكور "العهد العظيم la Ggrande Charte " في بريطانيا حيث تم الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية وضمانها ـ مثل حرية التنقل, قرينة البراءة ـ وفي عام 1679 مع قانون ضمان حريات الرعايا Habeas Corpus تم الاعتراف للموقوف بحقه في المثول مباشرة أمام هيئة قضائية تنظر في قانونية هذا لتوقيف. وفي عام 1689 أعلن الـ Bill of Rights قواعد الدستور الإنكليزي .
في 4 جويليه / تموز 1776 جاء في إعلان الاستقلال الأمريكي أن الناس يلدون أحرارا ومتساوين. وبان خالقهم منحهم حقوقا غير قابلة للتنازل عنها, منها الحق في الحياة, والحرية, والبحث عن السعادة. وبان الحكام يعّينون لضمان هذه الحريات. و لا يستمدون سلطتهم وقوتهم إلا من رضاء الشعب ومهمتهم توفير سعادته ورفاهيته.
وسادت طيلة القرن الثامن عشر الأفكار الفلسفية لعصر الانوارles philosophies des Lumaires الداعية لإقامة مجتمعات مؤسسة على الديمقراطية تضمن للمواطنين المساواة أمام القانون, والأمن, مع تامين الرفاهية والسعادة.
و قامت الثورة الفرنسية, عام 1789, كرد على الأوضاع السائدة في النظام القديم ومنها عدم المساواة الاجتماعية, وعدم المساواة أمام القانون الضريبي, ودفع الضرائب, حيث كانت تستفيد طبقة النبلاء ورجال الدين, من امتيازات كبيرة وإعفاءات ضريبية.
وأصدرت الثورة المذكورة في 26 أوت / أب 1789 "إعلان حقوق الإنسان والمواطن Déclaration des Droits de l’Homme et du Citoyen " بنظرته الشاملة, الموجهة للإنسان في كل زمان ومكان, وليس للإنسان الفرنسي فقط. فقد أعلنت مادته الأولى أن الناس يلدون أحرارا ومتساوين في الحقوق. وعليه لم يعد الإنسان يعتبر من رعايا الملك, فهو مواطن في وطنه. وان هدف كل مجتمع سياسي هو الحفاظ على الحقوق الطبيعية للإنسان, وهذه الحقوق هي الحرية, الملكية, الأمن, ومقاومة الاضطهاد. (المادة الثانية). معتبرا أن تجاهل وإهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الرئيسية للشقاء العام. وعلى اعتبار أن هذا التصريح, عند صدوره لم تكن له قيمة القواعد القانونية, ولتصبح له هذه القيمة, أدخله دستور 27 أكتوبر / تشرين أول 1946 في مقدمته مضفيا إليه قيمة دستورية. كما أن مقدمة الدستور الحالي الصادر في 4 أكتوبر / تشرين أول 1958 تنص على أن الشعب الفرنسي يعلن رسميا تمسكه بحقوق الإنسان وبمبدأ السيادة القومية كما جاءت في إعلان حقوق الإنسان, المدونة, والمكملة, في مقدمة دستور عام 1946.
وخلال القرن التاسع عشر ظهرت أفكار عبر عنها, عام 1820, شارل فورنييه Charles Fourier , ترى بان "إعلان الحقوق" يتجه إلى الناس الميسورين أكثر منه للشعب. "فالسياسة تبيع حقوق الإنسان , ولا تضمن له أبدا الحق الأول , المفيد, وهو حق العمل" منتقدا مقولة الشعب السيد " فالطريف في ذلك, كما يقول, أن هذا الشعب السيد يموت جوعا".
ووصف كارل ماركس هذا الإعلان بـ "الخدعة" معتبرا أن ما جاء فيه من " حق الإنسان في الملكية الخاصة ليس إلا حق تنعم الفرد بثروته والتصرف بها على طريقته, دون الاهتمام بالآخرين, وبالاستقلال عن المجتمع. وهو حق المنفعة الشخصية. الحرية الفردية, بوضعها موضع التطبيق, تكّون قاعدة المجتمع المدني. تجعل الانسان يجد في الآخرين ليس تحقيق حريته وإنما حدود حريته الخاصة". فالإعلان يدعو قبل كل شيء إلى أن ينعم الإنسان ويتصرف, حسب رغبته, بأمواله وموارده من عمله وصناعاته" ( Marks, A propos de la question juive, 1843, Philosophie, t.111.).
لقد قادت هذه الأفكار, التي تصارعت وتعارضت فترة طويلة جدا, إلى الوصول عام 1948 إلى "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " إعلان الحقوق الفردية والحقوق الجماعية, في الوقت نفسه وعلى نفس المستوى, لفائدة الإنسانية جمعاء.
واثر المآسي التي خلفتها الحرب العالمية الثانية , تدميرا للإنسان وحقوقه, بدأت الدعوات لتنظيم العلاقات الدولية على أسس مبادئ حقوق الإنسان والبشرية, بهدف صيانة السلم . كما أقرت عام 1945 مطالب الشعوب المستعمرة التي حاربت إلى جانب مستعمريها " قوى الحرية" ضد قوى النازية والفاشية بممارسة حقها في تقرير المصير تحت تسمية"حقوق الشعوب والإنسان". وهكذا تم النص على احترام حقوق الإنسان في مقدمات ميثاق الأمم المتحدة الصادر في 26 جوان ، حزيران 1945. كمبدأ من المبادئ الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة.
وأثناء مرحلة الحرب الباردة, بعد الحرب العالمية الثانية, اشتد صراع المفاهيم بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي, فيما يتعلق بالحقوق, إذ ترى الديمقراطية أليبرالية أن الأولوية للحقوق المدنية والسياسية التي تسمح بازدهار الرأسمالية. في حين كان معسكر الديمقراطيات الشعبية يعتبر أن إيديولوجية الحريات الفردية تقود في الواقع إلى الاستغلال والاستلاب. وعليه يجب أن تعطى الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
هذا الجدل خفت حدته بفترة التعايش السلمي والتحرر الكامل من الاستعمار, وظهر ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1966 الذي تضمن, في الوقت نفسه, " الميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية" و " الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية".
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي, وابتداء من عام 1989 أصبح مفهوم حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات مراجع مشتركة للأنظمة السياسية في الغرب والشرق على السواء لتصبح نقاط تقارب وتلاقى بينها.
هذه الإشارة السريعة لتاريخ مفهوم حقوق الإنسان وتطورها, تهدف للتذكير, بأن البشرية جمعاء, عبر تاريخها الطويل وجهودها المضنية, ساهمت, وبدراجات مختلفة, في بناء هذا المفهوم من اجل أن يصبح الإنسان جديرا بالصفة التي يحملها, ويبقى حرا كفرد, وكعضو في المجتمع الذي يعيش فيه, وفي المجتمع الدولي بأكمله.
و قد وصلت المطالبات بحقوق الإنسان ــ بعد ظهورها كدعوات فردية منعزلة, غذّاها الفكر الفلسفي, ونشرها التبشير الديني, والإعلانات السياسية, ــ إلى التقنين بدخولها الدساتير والمواثيق والاتفاقات الدولية. وليصبح لها وسائل حماية ورقابة قضائية, تتجاوز حدود الدولة في حالة عدم احترام هذه الأخيرة لها, لتصل إلى المحاكم الإقليمية, والمحاكم الدولية.
أما السياسات الانتهازية للدول الغربية الديمقراطية المستهترة بحقوق الإنسان غيرا لغربي, وسكوتها عن الجرائم البشعة, الموثق بعضها والمتغاضى عن معظمها , التي ترتكب يوميا ضد الإنسان, كفرد, وكمجموعات, لتصل إلى درجة جرائم ضد الإنسانية ــ جرمتها هي نفسها وحددت عقوباتها ــ من قبل إسرائيل في فلسطين, وأمريكا وبريطانيا في العراق.. فهي من مآسي حقوق الإنسان.
وهذا على فظاعته, لا يعطي الحجة للدول المستبدة لاستباحة حقوق إنسانها و مواطنها, حقوقه: السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومنها وبشكل خاص حقه في الحياة. وملاحقته حتى خارج حدودها, أليس تابعا لها, ولها عليه سلطة التبعية أينما وجد!!. علما انه نادرا ما تخرق الدولة الديمقراطية حقا من حقوق إنسانها ومواطنها وتفلت من الرقابة والمساءلة القانونية.
هذه الدول التي تذكر بخصوصية الإنسان العربي, كما اشرنا أعلاه, لا تتورع في الوقت نفسه عن تضمين دساتيرها ـ التي نسختها عن الدساتير الديمقراطية ـ وقوانينها قواعد حقوق الإنسان, والحريات الفردية, والعامة. وتوقع على المواثيق والاتفاقات الدولية, والإعلانات الصادرة بهذا الخصوص. وتُدعى, للأسف, من قبل الهيئات الدولية, والمنظمات المتخصصة للمشاركة في أعمال لجانها. وتدعو منظمات, واتحادات مهتمة بهذا الشأن للانعقاد على أرضها, وإصدار بيانات لاحترام حقوق الإنسان, وتندد بكل اعتداءات عليها !!. فهم أيضا من دعاة حقوق الإنسان.
كما أنها تجد بين روابط وجمعيات حقوق الإنسان ــ تعد بالمئات في أيامنا هذه ــ من يقف إلى جانبها ويبرر تصرفاتها, إما لأن هذه الجمعيات, كما تدعي, لا تتدخل في الشؤون السياسية, وإنها مجرد جمعيات حقوقية بالحصر !!. ويهمها من المعتقل أو السجين ـ الذي غالبا ما يجهل سبب سجنه ومدة عقوبته ـ الجانب الجسدي فيه فقط, لتثير قضيته, باستحياء, ولا يهمها سبب وطريقة اعتقاله أو سجنه .. . وإما لان البعض منها تُشكّل بالتواطؤ مع تلك الأنظمة, مثل "تشكيل" مناصب "وزراء في حقوق الإنسان".
الواقع أن الطريق مازال طويلا للوصل إلى أنظمة تحترم بالشكل الكامل حقوق الإنسان. وان التحديات المستقبلية ــ الكبيرة والمعقدة بتعقد الحياة بشتى مجالاتها على المستوى الوطني وعلى المستوى الدولي في عصر ما يعرف بالعولمة ــ تطرح على الدول الديمقراطية مسألة مواجهتها والتخلي عن النفاق السياسي والكيل بمكيالين.
النظام الكامل لم يوجد بعد, لاستحالة وجود "الجمهورية الفاضلة". والتحديات قائمة ما دامت السلطة تجنح نحو التسلط, وهذا في صميم طبيعتها, ومادام الإنسان يرفض التنازل عن حقوقه, وهذا في طبيعته.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)