مواضيع اليوم

ونسيت أن‮ »‬محجوب‮« ‬مات (عن جريدة الوفد)

عادل الجمال

2010-05-08 12:49:00

0

 


بقلم: أحمد حسام النجار
في أزمنة السقوط والفساد والانحطاط يصادفنا محجوب،‮ ‬فنراه في أغلب المواقع فهو يتصدر أحياناً‮ ‬الهيئة الاجتماعية،‮ ‬وقد يشغل مركزاً‮ ‬وظيفياً‮ ‬مرموقاً‮ ‬أو موقعاً‮ ‬اجتماعياً‮ ‬متميزاً،‮ ‬كما يتصدر المشهد السياسي وربما نجح في السيطرة عليه‮.‬ ولكن هل عرفتم محجوب الذي أقصده؟ إنه محجوب عبدالدايم بطل فيلم‮ »‬القاهرة ثلاثين‮«‬،‮ ‬هذا النموذج الإنساني الذي أبدع نجيب محفوظ في رسم شخصيته وتحديد ملامحها‮. ‬إنه الإنسان المحبط البائس الذي رغم سقوطه المسلكي والأخلاقي فقد نجد من يتعاطف معه ملتمساً‮ ‬له الأعذار والمبررات،‮ ‬فهناك من يصادر النتيجة استناداً‮ ‬إلي فساد المقدمات،‮ ‬فيقول إنه كان لابد له أن يسقط تحت وطأة الفقر والعوز والتهافت،‮ ‬إذ إنه باع نفسه ولم يكن يملك سوي ذلك سبيلاً،‮ ‬فلم تكن لديه أي خيارات في سبيل الحصول علي وظيفة تدر عليه راتباً‮ ‬شهرياً‮ ‬كما يحصل بموجبها علي الكثير من نفايات المسئول الفاسد الذي كان يتقاسم معه‮ »‬مديحة‮« ‬زوجته الورقية‮.‬ والمؤكد أنه ليس الفقر وحده هو من صنع محجوب عبدالدايم ولكن أيضاً‮ ‬الانحطاط الإنساني‮.‬ ونجيب محفوظ لم يخترع هذه الشخصية من خياله بل استلهمها من الواقع وعرض لظروفها وواقعها التي أفضت بها إلي ما آلت إليه إذ رأيناها بائسة منهارة البنيان،‮ ‬كل شيء لديها قابل للبيع والشراء لأنها تربت أساساً‮ ‬بلا قناعات واعتادت أن تعيش علي ثوابت افتراضية في الدين والمبادئ والقناعات تقبع جميعها تحت رحمة الواقع بمعطياته وظروفه القاسية المجحفة‮.‬ ومحجوب كان قادراً‮ ‬علي استيعاب هذا الواقع وبالتالي فقد تمكن من توظيف كل المعطيات القائمة في خدمة نزواته ومصالحه‮.‬ وإذا كان محفوظ قد عرض لمحجوب ما قبل الثورة فإن محجوب ما بعد الثورة أشد خطراً‮ ‬ودهاء،‮ ‬فقد تمكن من إزاحة الضابط علي ابن الريس عبدالواحد الثائر صاحب ثورة‮ ‬23‮ ‬يوليو من الكادر،‮ ‬إذ آلت إليه كل خيوط اللعبة وبخاصة بعد أكتوبر،‮ ‬باختصار أصبح محجوب عبدالدايم الآن هو محور ارتكاز المجتمع سياسياً‮ ‬ودينياً‮ ‬واقتصادياً،‮ ‬ليتحول هذا الوطن إلي بورصة‮ ‬يبث فيها فساداً‮ ‬هو وتابعوه وأقرانه‮.‬ هو يري أن أفضل صيغة للتعبير عن العقد الاجتماعي الذي يحدد علاقة الحاكم والمحكوم إنما يحملها بيت الشعر الذي تغنت به أم كلثوم،‮ ‬يقول‮:‬ ‮».. ‬هذا فؤادي فامتلك أمره واظلمه إن أحببت أو فاعدل‮«‬،‮ ‬وبالطبع فالحاكم هو الذي يظلم أو يعدل‮.. ‬ومحجوب بحكم تكوينه لا رأي له ولا موقف بل يتلقي التوجيهات والتكليفات ولا يناقشها،‮ ‬بل لا يملك سوي الامتثال للأوامر،‮ ‬وقد صدرت له بتسويق فكرة بيع القطاع العام تحت عنوان الخصخصة،‮ ‬وقد نجح بالإلحاح والمغالطة في التسويق والتمرير وتسلم نصيبه من نفايات أسياده‮.. ‬والعجيب أنه تم تكليفه بمحاولة استرداد ما خصخصه‮.. ‬ومحجوب أيضاً‮ ‬حنجوري يجيد صياغة الشعارات،‮ ‬إذ كان ينادي بصوته الجهوري أثناء طابور الصباح فيقول‮: »‬مدرسة صفا‮« ‬ونرد بأعلي صوت‮: »‬حرية شرقية‮.. ‬انتباه‮«‬،‮ ‬فنرد مرة ثانية‮: »‬قومية عربية‮«‬،‮ ‬ولقد ظللت طيلة عمري أحاول ترجمة هذه الجملة أو أن أضعها في جملة مفيدة‮ ‬غير أنني لم أفلح‮.. ‬شعار من ضمن الشعارات المحجوبية كنا نردده خلفه صباح كل يوم دون أن نتوقف هنيهة لمحاولة الفهم‮.. ‬هذا ما يريده محجوب ألم أذكر أن ثوابته افتراضية‮.‬ هو أيضاً‮ ‬ذكي ومراوغ‮ ‬يصمت عند اللزوم،‮ ‬ويطأطئ رأسه حتي تمر الموجة،‮ ‬فكل الحلول عنده مؤجلة إذ لم يكن يبت في أي مسألة في الحال فهو ذئب يتحين لحظة الاقتناص ويؤجل المواجهة أو الصدام حتي تحين اللحظة المناسبة‮.‬ لديه من أدوات الكر والفر الكثير،‮ ‬ولكن بمرور الوقت فقد عفا عليها الزمن بحيث أصبحت ساذجة تخرج عن سياق هذا الزمن وإيقاعه شأنه في ذلك شأن أبطال الأفلام القديمة إذ عندما يواجه البطل مجرم الفيلم فإنه يأخذ في تهديده بأن البوليس سوف يصل خلال عشر دقائق ليستسلم هذا المجرم السينمائي الظريف في انتظار الشرطة‮. ‬ محجوب يريد لنا جميعاً‮ ‬أن نكون من أمثال هذا البطل السينمائي الساذج‮.‬ محجوب آخر جاءنا في ثوب رجل دين واحتل الفضائيات والمساجد والشوارع والعقول بالإلحاح والتكرار وتنوعت قفزاته وتغيرت ثوابته وحان أيضاً‮ ‬وقت لزومه فوجدناه يروج للفكر السلفي‮.. ‬ولعودة الخلافة الإسلامية،‮ ‬وتارة لعودة الدولة الدينية ولا بأس فهو يجيد تسويق كل ذلك،‮ ‬المهم أن تنتفخ جيوبه بأوراق البنكنوت الناعمة ولا عزاء لقناعاته ذلك أنه ليست لديه قناعات أساساً‮.‬ أما عن محجوب المرشح في انتخابات المجالس النيابية فهو يطرح نفسه طرحاً‮ ‬رائعاً‮ ‬إذ يدفع بحلول سحرية لجميع المشكلات الراهنة والمستقبلة والمزمنة شريطة أن نمنحه أصواتنا الانتخابية،‮ ‬والعجيب أن محجوب لديه من الأدوات ما يجعل الناس تصدقه رغم حتمية افتضاح أمره لضآلة حجمه وثبوت عجزه ربما عن إمكانية الحصول علي شهادة محو الأمية‮.‬ مؤخراً‮ ‬جمعتني الصدفة بأحدهم‮ - ‬أي محجوب منهم‮ - ‬وبعد أن دغدغ‮ ‬مشاعري بأسلوبه الثعلبي وبسحنته البلهاء ولحيته البيضاء الفضية المسترسلة فقد استطرد في معرض الكلام عن تطبيق الشريعة الإسلامية عبر شعار الإسلام هو الحل،‮ ‬وقد قصدت أن أستفزه بالاستمرار في الكلام استنزافاً‮ ‬لطاقته حتي أجد الفرصة المناسبة لطرح أفكاري وصياغة خواطري‮.. ‬وعندما قلت له إنه يكفي أن نأخذ من الشريعة الإسلامية مقاصدها التي تتمثل في إرساء قيم العدل واحترام الآخر والتكافل الاجتماعي وغيرها إلا أنه كان يبدي اعتراضاته علي ذلك،‮ ‬وعندما قررت له أن الدولة الدينية قد انتهت بانتقال الرسول‮ - ‬عليه الصلاة والسلام‮- ‬إلي الرفيق الأعلي،‮ ‬وقد كانت كذلك باعتباره صاحب العصمة والقداسة التي لم تمنح لغيره،‮ ‬وبالتالي فقد بدأت الدولة المدنية بتولي أبي بكر الخلافة أي الحكم وما أحداث السقيفة ببعيدة عن هذا المعني وهذا التحليل‮.‬ إن وقائع التاريخ في ضوء ما تلا حدث السقيفة من أحداث لا يمكن أن تبرهن إلا علي‮ ‬غلبة الجانب السياسي وطغيان علي الأحداث والوقائع وهو ما أكدته الخلافات التي قامت في مجملها ومضمونها تعلقاً‮ ‬بهذا الجانب السياسي وليس الديني‮.‬ هذا عن التاريخ،‮ ‬أما عن العقل والمنطق فقد سردت عليه ما استند إليه الشيخ علي عبدالرازق في الإسلام وأصول الحكم من أدلة عقلية منها أنه قال من المقبول أن يدين العالم كله بدين واحد ولكن ليس من المقبول أن تحكمه حكومة واحدة‮.‬ وقررت لمحجوب أيضاً‮ ‬أن نهضة الأمم والشعوب إنما تقوم علي العلم وليس علي الدين،‮ ‬وحده إذ لم يثبت التاريخ أنه قد قامت أية نهضة علي عاتق المتدينين أو الجهلاء أو الفاشلين‮. ‬وانتهيت إلي استبدال شعاره بشعار آخر وهو‮ »‬العلم هو الحل‮« ‬ولكنه اعترض وزمجر وأحس بالخيبة وطأطأ رأسه منتظراً‮ ‬لحظة المواجهة والاقتناص‮.‬ محجوب سبب أساسي لما نحن فيه‮.. ‬تخلصوا من محجوب واطرحوه أرضاً‮ ‬ولا تصدقوا ما قاله أبوه في الفيلم إنه مات‮.. ‬مات واندفن‮.. ‬محجوب لم يمت‮.‬


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات