كل عام وحقوق الإنسان بخير.
في مثل هذا اليوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1948 ولد ميثاق حقوق الإنسان من رحم الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومع ذلك تستمر المجازر ضد الإنسان.
لم تضاء شمعة واحدة من الشموع الثلاثة والستين في الوطن العربي لشهداء الحرية وحقوق الإنسان. يناضل الإنسان السوري ويُقتل دون حقوقه, ولا تضاء شمعة واحدة لذكراه حتى من قبل أنصار حقوق الإنسان. لا تقام على روحه صلوات شرقا وغربا, وكأنّ الإنسان هنا ليس ذلك الإنسان. لا يُحتسب شهيد حقوق الإنسان. زرقاء دماؤنا. وكأننا الثالث والأخير في عالم ثالث غير مشمول بإعلانات ومفاهيم حقوق الإنسان.
العالم أجمع يرى ويسمع كيف يطالب الإنسان بسورية بحريته وحقوقه وكيف يُقتل دونها. الناشطون الحقوقيون يعدون قتلانا ويتأسفون (يا له من نضال في ميدان حقوق الإنسان). الدول العربية إن عدت فرفع عتب, وتصنّع أدب, وتخويف لمواطنيها إن فعلوها وطالبوا بحقوق إنسان. الممانعون والمقاومون وبعض قومجيي و"يساريي" العرب يقتلون شهدائنا مرة ثانية باحتسابهم عصابات متآمرة ضد نظام ممانع!!! ولا تهمهم الأرقام ولا يعدون. مجلس حقوق الإنسان لدى منظمة الأمم المتحدة يعدّ بدوره ويُذكّر, ويقف مشلولا مغلولا. الغرب الرسمي, وان كانت تهمه الأرقام فهي هنا مجرد أرقام في حسابات المصالح والسياسات الداخلية والخارجية. أما الصينيون والروس فأخر شيء في اهتماماتهم شيء اسمه حقوق إنسان. وحالهم من حال الأنظمة العربية, فلا عتب ولا عتاب.(كم هي رائعة الاحتفالات بميثاق حقوق الإنسان في عامه الثالث والستين!!!).
ومع ذلك, وللذكرى, وفي ذكراه, لا يمكن لإنساننا إلا أن يحلم بحقوقه كانسان, وان يستمر في النضال من أجلها وبقناعة كاملة بأن مثل هذه الحقوق تؤخذ ولا تعطى.
وعليه من المفيد التذكير, وحسب التاريخ, بان مفهوم حقوق الإنسان والحريات الأساسية, لم تبتكره الجمعية العمومية للأمم المتحدة, وليس من خلق الدول الحديثة. جذوره غارقة في القدم تصل إلى الشرق, إلى قانون ألواح حمورابي المتعلق بالحريات حوالي عام 1700 قبل الميلاد. ليس الهدف هنا التأريخ وإلقاء الضوء على نشأة وأصول حقوق الإنسان, فهذه لا يفيها حقها مقال أو سلسلة مقالات على الانترنت.
التذكير هنا فقط بأنه في العصور القديمة كان يجد الإنسان سبب وجوده في الحاضرة, فلا يستطيع معارضتها بوجدانه أو معتقده الخاص. تطور المفهوم مع تطور المفاهيم الفلسفية والدينية والقانونية في الفكر الغربي. بالمسيحية أولا التي أكدت على الكرامة الإنسانية. ووضعت مبدأ تقييد السلطة. حسب هذه العقيدة الدينية يستمد الإنسان حقوقه وحرياته من أصله كانسان, ومن غاية وجوده. خلقه الله على صورته. وعليه, يجب احترام الكائن الإنساني كانسان فرد, وليس بصفته تابع للكل, سواء أكان هذا الكل مجموعة اجتماعية أم حاضرة (دولة بمفهوم عصرنا.)
عكس ذلك ارتكزت المسيحية على الصيغة الانجيلية القائلة: "أعطي لقيصر ما لقيصر, ولله ما لله", وعليه فان مقاومة السلطة تصبح مشروعة, وبالتالي لا تمس المقدس.
كما ارتبط بنظريات العقد الاجتماعي, والفلسفات المعاصرة لها, التي تجد أصلها في ا لقانون الطبيعي, مما أغنى محتواه.
تبلور المفهوم الحديث للحقوق والحريات الأساسية في نهاية القرن 18 بمجموعة من إعلانات الحقوق ومنها: الإعلان الأمريكي للاستقلال في 4 تموز 1776, الذي أعلن إن الناس خلقوا متساوين ومنحوا من قبل خالقهم حقوقا لصيقة بهم, غير قابلة لفصلها عنهم, أو التصرف بها.
وفي فرنسا كان لإعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 أثره الكبير والواسع في بناء مفهوم حقوق الإنسان والمواطن, ليس للإنسان الفرنسي فقط, وإنما للإنسان أينما كان.
تطور هذا المفهوم, ليصبح كأساس للمجموعات القانونية, يفترض التمييز بين المبدأ القانوني الذي هو عام. والمبدأ الأخلاقي الذي يبحث في مسائل الخير والسعادة. وان لم يكن هذا التمييز قائما في العصور القديمة فانه اليوم مطلوب إن أريد, نظريا, لمفهوم حقوق الإنسان أن لا يحجب علم القضايا الضميرية. (رنيه سيفر رئيس الجمعية الفرنسية لفلسفة القانون)
تميز المفهوم بخصائص أساسية كرسها العديد من تلك الإعلانات, منها: العمومية. الليبرالية, الفردانية والديمقراطية.
فالإعلانات والتصريحات التي عرفتها نهاية القرن 18 لم تعد تعتبر أن الإنسان المعني بالحقوق والحريات هو الإنسان الأبيض, الذكر, الحر. فقد وسعت المبادئ الديمقراطية دائرة المستفيدين من هذه الحقوق والحريات لتشمل الناس جميعا, وذلك بتعميم الحقوق السياسية, ومبدأ المساواة أمام القانون.
الحقوق التي جاء بها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789 مثلا, كانت قائمة أساسا على القيم والمصالح البرجوازية في نهاية القرن الثامن عشر. وقد قاد لاحقا الانتشار المتواصل لمبدأ الاقتراع العام, وانتشار الأفكار الاشتراكية, إلى حقوق جديدة. حقوق اجتماعية تعمقت وتكرست بعد الحرب العالمية الثانية, سجلها الدستور الفرنسي لعام 1946 في مقدمته .كما سجلها بعد ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 على المستوى العالمي. فظهرت حقوق جديدة كحق العمل, وحق الإضراب, وحرية النقابات, وحقوق الحماية الاجتماعية, وحق التعليم. ومنذ 20 عاما كرست الدساتير الداخلية لغالبية الدول, والنصوص الدولية, حقوقا جديدة تهدف لحماية الأشخاص من كل تهديد مرتبط بأعمال الإدارة والسلطة. وأخرى متعلقة بحماية البيئة لحمايته البيئة نفسها وحماية الإنسان فيها.
عالمية الحقوق هذه بدأت تتطلب الحماية الدولية لها. مثل النضال ضد العبودية ابتداء من 1815 . والحق الإنساني في اتفاقية جنيف للصليب الأحمر لعام 1864.
بعد الحرب العالمية الأولى أنشأت معاهدة فرساي عام 1919 هيئة الأمم ووضعت آليات ضمان الحقوق المقررة في المعاهدات الدولية. وأخذت تراقب مدى التزام الدول المهزومة بتطبيق الحقوق المقررة للأقليات الدينية والعرقية والثقافية فيها.
وبعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10ديسمبر 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المحتفل به اليوم, الذي انبثق كمعلم تاريخي في المسيرة الطويلة للبشرية. وعليه عُقدت الآمال على تامين الكرامة المتساوية لكل مكوناتها. فمادته الأولى تعلن: " يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء". " لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان دونما تمييز من أي نوع كان, ولا سيما التمييز بسبب العنصر أو اللون, أو الجنس, أو اللغة, أو الدين, أو الرأي سياسيا أكان أم غير سياسي, أو الأصل الوطني أو الاجتماعي, أو الثروة, أو المولد أو أي وضع آخر .. المادة الثانية".
لم يكن للميثاق قيمة قانونية ملزمة. ولكنه تبلور بعد ذلك بميثاقين صادرين في 16 ديسمبر 1966: الميثاق العالمي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية. والميثاق العالمي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد صدّقت غالبية الدول هذين الميثاقين. كما تم وضع برتوكولين لضمان وصول المستفيدين إلى حقوقهم المعلنة في الميثاقين المذكورين: برتوكول 16 ديسمبر 1966 وبرتوكول 10 ديسمبر 2008.
تضمن الميثاق الأول المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية, فيما تضمنه من حريات وحقوق, الحق في الحياة. منع اللجوء إلى المعاملة غير الإنسانية والمهينة. الأمن. حرية التنقل. الحق في احترام الحياة الخاصة والعائلية. حرية التعبير. حرية إنشاء الجمعيات. حرية الاجتماع .الحرية الدينية .الحقوق السياسية, كحق الاقتراع والترشيح. الحقوق الضامنة, وبشكل خاص الحق في الدعوى المنصفة.
كما تضمن الميثاق الثاني حقوقا من طبيعة اجتماعية وثقافية مثل: الحق في العمل. في تكوين النقابات. حق الإضراب. الضمان الاجتماعي والصحي. وقد وضحت المادة 2 فقرة 1 من هذا الميثاق إن الدول تلتزم بان تعمل على تامين الممارسة الكاملة للحقوق المعترف بها بكل الوسائل المناسبة.
و تتالت لاحقا المعاهدات الخاصة بمواضيعها: التعذيب. المعاملة غير الإنسانية (اتفاقية 10 ديسمبر 1984 المكملة ). بروتوكول 18 ديسمبر 2002 . والاتفاقية المتعلقة بحقوق الطفل (20 نوفمبر 1989). الاتفاقية المتعلقة بإلغاء كل أنواع التمييز ضد المرأة ( 18 ديسمبر 1979 ). والبروتوكول الملحق بها (6 أكتوبر 1999). هذا دون ذكر الاتفاقيات الأوروبية لحقوق الإنسان وحمايتها التي سنخصص لها مقالا خاصا.
وقد تم التوصل لآليات يفترض أنها تؤمن الحماية الدولية لحقوق الإنسان. لكن هذه الحماية تعترضها في منطقتنا العربية عقبات أساسية لم يتم تذليلها, وغير قابلة, برأينا, للتذليل في ظل الأوضاع والمفاهيم السائدة, منها ما يقوم على مفاهيم دينية مسيسة بدأت تأخذ في أيامنا هذه حدة واتساعا وديماغوجية. ومنها مفاهيم متعلقة بنظرية السيادة القومية المطلقة, غير المتفق على مضامينها.
وعليه كيف يمكن القبول بحماية دولية لحقوق الإنسان من قبل من يربطون شرعية حقوق الإنسان وكرامته الإنسانية بالمعتقد الديني, المعتقد المختلف فيه, غير الموحد. ففي كل دين طوائف ومذاهب, وفي كل منها مفاهيم مختلفة للإنسان وعلاقته بغيره, وبالمجتمع, وبالدولة, وبالدول الأخرى, وبطبيعة وجوهر وغاية هذه الحقوق والحريات. وكثيرا, انطلاقا من اختلاف الدين والمعتقد, ما ييُاح خرق حقوق وحريات وكرامة الإنسان التابع للدين والمعتقد الآخر, والإنسان غير المتدين, والوثني .. ولا يعتبر ذلك جريمة ولا يثير استهجانا. فكيف يمكن إذن إسناد الشرعية هنا إلى الدين, وخاصة في غياب مفاهيم التسامح الديني والتعايش الصادق بين الأديان, وبينها وبين غيرها من المفاهيم التي لا تقوم على الدين؟. وضع الشرعية في الدين كأساس, يكرس مفاهيم الإنسان المختار, المتميز, المختلف عمن يخالفه الدين والمعتقد. أليس في هذا إنكار, صريح وضمني في الوقت نفسه, للصفة الإنسانية التي يتصف بها البشر جميعا لمجرد كونهم بشرا, وتنحدر حقوقهم الإنسانية من مجرد كونهم بشرا؟. ألا ينسف هذا كليا مفهوم الإخاء والمساواة في الإنسانية, ليجعلها إخاء ومساواة فقط بين فئات المؤمنين في كل دين ؟.
إذن كيف يمكن, والحال هذا, قبول حماية دولية لحقوق غير متفق كليا على مصدر شرعيتها, ولا على جوهرها؟.. كيف يمكنها أن تكون عامة ومتفق على احترامها وتطبيقها ؟. آلا يعتبر, على سبيل المثال, جلد المرأة السودانية من قبل الشرطة بلباسهم الرسمي, أي ممثلين لسلطة الدولة, في الساحة العامة وأمام المارة, أو قطع يد السارق, مسألة خاصة تخص المجتمع السوداني تُنسب لقوانين وعقوبات مصدرها الدين؟. وتعتبر في نظر حقوق الإنسان, كما تكرسها المواثيق الدولية, جريمة خطيرة ضد الإنسان؟. ألا تبدو عندها الحماية الدولية, القائمة على القوانين الوضعية, تدخل سافر في المعتقدات الدينية الرافضة أصلا للقوانين الوضعية؟. آلا يعتبر تدخل دولي باسم الحماية الدولية لحقوق الإنسان مستنكر و مدان باعتباره تدخل في أعمال سلطات وقضاء تلك المنطقة, المنفذة لتعاليم الدين؟.
وإذا كان هناك اختلاف على طبيعة العقوبة والهدف منها, فعلى سبيل المثال, العقوبة بالمفهوم الديني عند بعض الأديان والطوائف تهدف للقصاص الجسدي من مخالفي تعاليم الإله, فهي عقوبات جاهزة أمرت بها السماء, الهدف من تطبيقها مرضاة الله والتقرب منه بالدرجة الأولى, والحفاظ على المجتمع بقيمه وتركيبته, الافتراضية أو الواقعية, التي يراها أتباع الأديان. في حين أن العقوبة في القوانين الجزائية الوضعية, التي تصدر باسم الشعب, أقرت بعد دراسات غير منتهية, علمية ونفسية واجتماعية وقانونية ضمن هدف أصلاح الضرر الذي لحق بالمجتمع, من خلال انتهاك أحكام القانون, وبهدف إصلاح مرتكب الجريمة بإعادة تأهيله للعودة للمجتمع وقبوله فيه كانسان كامل الإنسانية.
فهل, والحال هذا, من السهل الاتفاق على الحماية الدولية للحقوق والحريات الأساسية, وعلى كيفية استدعائها في حالات الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في الحالات الفردية والجماعية؟.
العقبة الثانية في وجه استدعاء الحماية الدولية لحقوق الإنسان, في كل مرة تنتهك بها, هي السيادة بمفهوم الطغاة. فالمجازر الجماعية والفردية والقتل والتعذيب الممنهج والمستمر منذ عقود, كونها وسيلة ضرورية للوصول إلى السلطة المطلقة والاستمرار فيها, وطريقة للحكم, هي جرائم يحتمي مرتكبوها من الملاحقة القانونية بالدفع بمبدأ سيادة الدولة, السيادة الداخلية والخارجية و بالحصانة. واستنادا عليه, يعتبر الطغاة أن التنديد أو الملاحقات القضائية للطغاة باسم حقوق الإنسان, هي مخالفة للقانون الدولي الذي يحمي السيادة, وتدخّل في الشؤون الداخلية لبلدانهم, التي لا تعني أحدا غيرهم. فسيادتهم المطلقة تمتد على كل ما في الدولة من ثروات ومكونات, ومنها حقهم في اللجوء إلى ما يرونه مناسبا لممارسة السلطة ممارسة مطلقة, ولفرض الأمن, ولو بارتكاب المجازر ضد رعاياهم.
وعليه يعتبرون إن انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب المجازر في القضايا السياسية, لا يدخل في باب الجرائم, ومنها الجرائم ضد الإنسانية, لكونها جرت وتجري ضد رعيا, غالبا ما يكونون من المندسين المرتبطين بمؤامرات خارجية تستهدف الوطن وسيادة الدولة, "تضعف الروح القومية وتمس هيبة الأمة". فالعلاقة هنا حصرية بين راع ورعية, وليست من طبيعة العلاقة الديمقراطية بين حكام ومواطنين.
وهكذا يصيحون بان كل طلب استغاثة من رعاياهم خيانة, وكل إدانة لما يرتكب ضدهم, أو طلب حماية دولية لهم باسم حقوق الإنسان, مرفوض, لأنه تدخل سافر في الشؤون الداخلية لمملكة الطغيان.
ومنه, ورغم مرور ثلاثة وستين عاما على صدور ميثاق حقوق الإنسان, سيبقى يقتل في وطننا الإنسان, مادامت أنظمتنا تجسيد كامل للطغيان.
د. هايل نصر
التعليقات (0)