في حديث للإمام الصادق عن أقسى ما يمكن أن يمرّ على الإنسان، قال:"تأتي على ابن آدم ساعات يكون قلبه فيها كالشنّ البالي، لا إيمان فيه ولا كفر".
أقسى من الكفر انعدام الإيمان والكفر، حين يكون الفردُ غير آبهٍ لشيء، غير قادر على القبول والرفض، لا شأن له بما حوله، مصمتاً لا ينفذ منه شيء إلى العالم ولا ينفذ من العالم إليه شيء، منعزلاً، لا عزلة مكانٍ، بل عزلة وجود، ومغترباً حتى عن نفسه.
العدميةُ في أقسى صورها تسود دائماً لدى أناس يستهويهم لعبُ دور الأقلية التي لا ترتجي من العالم شيئاً، ولا تريد أن تسهم في هذا العالم سلباً أو إيجاباً، سكون وصمت لعله نمطُ احتجاج على قسوة العالم، لكنه يتخذ صيغة تماوتٍ حتى ليبدو صاحبها ميتاً فعلاً.
المثقفون يفعلون ذلك، ربما لأن في أعماقهم عوالم وشخوصاً ـ هي عوالم نصية طبعاًـ تلهيهم عن العالم الحقيقيّ، أو ربما لأنّ العدمية هي أقرب الطرق وأسهلها للتنصل من واجب يفرضه الوعي، فكون المرء يعرف يشكل ضميراً لا يستطيع النجاة من تبكيته بسهولة، أن تعرف هو عين أن تكون جنديّ معرفتك وسادنها، وكلما ازدادت معارفك ثقل كاهلك.كان اينشتاين يكتب لفرويد رسائل تنضح حيرة وألماً، فيها شعور جارح مؤداه انهما "فرويد وآينشتاين" مسؤولان عما يحدث في العالم كله، إن لهما يداً في هذه الحرب القذرة، وانهما ـ باعتبارهما مثقفينِ ـ لا يستطيعان أن يديرا ظهرهما لما يحدث.
المعرفة تشتغل ضدّ العدمية، لكنّ هناك معرفة من نوع آخر، معرفة سكونية مستمدة من أطياف شعرية هي التي تصلح دوماً لأن تكون حبوباً منوّمة، معرفة لا تزيد صاحبها إلا بلادة إحساس تجاه ما يحدث، معرفة يمكن اختصارها بجملة باردة "وما شأني أنا؟".
أتساءل أحياناً كيف أمكن لصدام في مقتبل عمره أن ينهض ويقوى وتنمو له براثن وأنياب في ظلّ سكون مطبق من مثقفي ذلك الوقت؟ ألم يتحسسوا صعود هذا الطاغية؟ ألم يشعروا بمشروع ديكتاتور يولد بينهم وبعون من صمتهم؟ عرفوا وشعروا بذلك لكنّ عدميتهم انتصرتْ في النهاية لأنهم امتلكوا قلوباً لا إيمان فيها ولا كفر، قلوباً هي كالشنّ البالي.
دائماً يولد ديكتاتور مسبوقاً بعلامات بيّنة لا تخطئها العين، لكنّ عقيدة اللامبالاة، ككل عقيدة، تعمي وتصمّ؛ وكثير من المثقفين، دون غيرهم من البشر، أقرب الناس إلى مخاتلة ضمائرهم وخيانة أنفسهم بصمتٍ هو صمت القبور، القبور التي يعدها الديكتاتور المبتدئ لهم حين يتعملق عليهم ناسياً أنهم هم من خلقه ورباه وجعله جباراً بعون من العدمية التي طالما امتدحها الشعراءُ.
أحمد عبدالحسين
عن صحيفة الصباح العراقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعليقات (0)