نتوقف عند الحالة السياسية كثيرا، نغوص في أعماقها ونتوه في تفصيلاتها وربما يومياتها، لكننا كثيرا ما نغفل عن ثقافة التسلط والخضوع (خضوع الرعية لولي الأمر) والتسليم التي ولدت ـ إلى حد كبير ـ الحالة السياسية العربية اليوم.
وكما تسلل التشويه والتحريف والتخريف لكثير من المفاهيم الشرعية عبر الأزمنة والعصور، تم توظيف مسألة طاعة ولاة الأمور لأغراض تثبيت الحكم الفاسد وتكريس شرعية تتغذى من تأويلات وتنميقات وتلفيقات بعض كتب السياسية الشرعية في بدايات عصور التخلف والانحطاط، إذ جاء كثير منها تكريسا للأمر الواقع وتسليما له. لكن لا أدري لماذا يندفع كثير من أهل العلم والنظر للذب عن حقائق الإسلام وأحكام الشريعة ومواجهة موجات التشكيك والتمييع والتحريف، بينما يتم تمرير قضايا شرعية الحاكم وطاعة ولاة الأمور، كما وصلت إلينا أو أريد لها، بدخنها وتحريفاتها وتلفيقاتها، ربما لما تثيره من حساسية سياسية ومن غضب السلطان وبطشه وربما مخافة الفتنة، لكن هل ثمة فتنة أكبر من هذا سيادة ثقافة الخضوع والتسليم للحاكم الفاسد؟
ولعل أبلغ نماذج صور الخضوع، التي تعرضت للتشويه والتوظيف العائلي الضيق، وشكلت الحصن المنيع لشرعية الحاكم وسيادة ثقافة الخضوع:
ـ مسألة البيعة وأنموذج الخليفة: وفيها تكريس للنزعة السلطوية وترسيخ لمفهوم "الخليفة" بعد اختطافه، والعجيب أن كثير من أهل العلم تحدثوا عن اختطاف مفاهيم الجهاد والمقاومة ورد العدوان من الغلاة وأهل التشدد، بينما لم يتعرضوا ولو بشيء من التلميح المخل إلى اختطاف مفاهيم البيعة والطاعة لولاة الأمور !
وهم يدركون كما يدرك غيرهم من أهل النظر والرأي، "أن اعتبار الطاعة لولاة الأمور واجب شرعي وعقلي درءا للفتنة"، تعرضت لأبشع أنزاع التوظيف السياسي والاختطاف التاريخي، وربما سوغوا لكثير من التجاوزات وأنواع الكبت والقمع والبطش من باب تأكيد جبروت "الحاكم" وسداد رأيه والحفاظ على وحدة الصف واستئصال جذور الفتنة، حتى وإن ضحى بكثير من الحقوق، إذ لا اعتبار لحق أمام التهديدات التي تتعرض لها "إمارة المؤمنين"؟؟، لتتحول هذه المفاهيم بعد اختطافها وتفريغها من شروطها وبيئتها الحاضنة إلى "آليات مقننة لاستبداد الحاكم، حيث لا تعطي البيعة سوى أهمية ثانوية لمسألة مشاركة الرعية في الحكم".
وأصبحت صيغ البيعة المعاصرة، كما سابقاتها خلال عصور الانحطاط والتخلف، تعبيرا مكشوفا عن نية القصر لقطع الطريق على أي مسعى يهدف إلى جعل تمثيله للإرادة الشعبية مسألة تعاقدية مشروطة؟ وبهذا أصبحت البرلمانات العربية تمارس مهمة الشفاعة أكثر مما تمارس وظيفة الشراكة في الحكم والمراقبة، تخولها لهم الإرادة الشعبية عبر الاختيار، وتكرس إلى حد بعيد ثقافة خضوع المحكوم لاستبداد الحاكم في غياب تمثيل برلماني حقيقي.
ـ أنموذج شيخ الصوفية أو (السلفية اليوم) في تعميق ثقافة الخضوع: فامتثال المريد لتعليمات شيخه من دون نظر ولا نقاش مسألة مسلم بها وغير قابلة للمساءلة فضلا عن التفكيك في التراث الصوفي، وهو ما تعكسه الأدبيات الصوفية التي تشيع ثقافة نكران الذات وسلب الإرادة، ومثلها عند المدرسة السلفية في كثير من أطرافها وأدبياتها، وبينهما أوجه تشابه لا تخطئها عين الناظر، غير أن السلفية (إجمالا) تفننت وصرفت "أغلى أوقاتها" في تأصيل المفاهيم (الطاعة والبيعة) دون الاعتناء والنظر في تشوهاتها التي طالتها منذ العهد الأموي، وبدأت تأخذ أبعادا أكثر خطورة وسوءا مع مرور الزمن وسيادة الاستبداد والاستئثار بالحكم.
ـ أنموذج المخزن أو الأسرة الحاكمة: فسلطة الأسرة تسمو فوق كل الاعتبارات، وهي المزود الرئيس لنظام الحكم بالرموز وتقاليد، والصانع الرئيس لثقافة الخضوع السائدة.
وما يتحدث به بعض الكتاب والباحثين من توظيف المؤسسات الحاكمة (خاصة الملكية منها) للشريعة لفرض سيطرتها على مجتمعاتها، أمر مشهود، وذلك عبر محاولة احتكار المؤسسات و"الرموز" الدينية لفرض هيبة وهيمنة السلطة على المجتمع والتباهي بشرعية أزلية.
وعليه، فإن كثيرا من حالات التردي في السياسة العربية اليوم، إنما تُدفع بنشر ثقافة المساءلة والاختيار الحر والتمثيل الشعبي المواجهة لثقافة الخضوع وشرعية التسلط، إذ لا يرى كثيرون أي أثر أو قيمة لما اصطلح عليه بـ"الإصلاح من الداخل"، وإن وجد فهو محدود التأثير، ومن ثم يبقى المعترك الأهم وأحد أكثر مناطق وساحات التدافع خطورة، هو عالم الأفكار والتأثير في الثقافة السائدة للفكاك من آصار وأغلال الخنوع والخضوع، والارتقاء إلى مستوى الكرامة الإنسانية.
تعليق
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم.إنما وليكم الله
و رسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون . و من يتول الله و رسوله و الذين امنوا فان حزب الله هم الغالبون ) سورة المائدة الآيات 54 و55 و 56
لا للاستبداد في تونس .../ في العالم العربي ... لا للدولة العلمانية التي تحارب الله و شريعته و عباده المؤمنين .. لا للتخلف... لا للدروشة الدينية التي يرعاها النظام/ النظم ... لا للميوعة و الشذوذ ....لا لحرية المرأة العربية بل لتكاملها مع أخيها الرجل ... لا لإذلال الرجل في بلد عقبة بن نافع .. بلاد الإسلام ..
التعليقات (0)