وردت هذه الآية في موضع واحد في القرآن الكريم ، سأذكره ، وسأستنتج منه فكرة مختلفة عمّ أنتجته الفلسفة النسوية الحديثة على صعيد الجندر ، وليس الهدف إبراز صحة رأي وهطل آخر ، لكن إظهار هذه الفكرة من ضمن منظومة شمولية تتوخى البناء المجتمعي العام ، فما أقرت به الفلسفة النسوية هو نتاج العالم الغربي المختلف عن عالمنا ، ومحاولات تطبيقها على عالمنا تعني تفكيك منظومتنا الثقافية واستبدالها بمسخ مشوه !
إن الرؤية الثقافية الخاصة بنا ، تشمل الإنسان باعتباره مخلوقاً ، لذا فأي فكرة قرآنية يجب أن تتموضع ضمن هذا البناء الكلي (العالم المخلوق ، عبادة الله الواحد الأحد) وكل الفروقات والتصنيفات والتفضيلات والتكافؤات والتكاملات تأخذ حيزها من خلال هذه النظرية الشمولية . أما نبذها ورفضها واستبدالها بنظريات أخرى ، فهو يشوه البناء العام ، ويطمس حقيقة الشمول التي يمتاز بها .
ما أريده هو القول أن الإسلام هو بناء مجتمعي – ثقافي كلي شمولي ، وكل تفصيل ضمنه يأخذ حيزه ووظيفته ودوره تبعاً لرؤية أشمل وحكمة أعمق ، والباحث الملتزم بالمنهج الشمولي في الرؤية يجد نفسه أقرب من غيره للإمساك بطرف الخيط ، وبالتالي معرفة الأصالة والتميز والتفرد لهذه الثقافة المجتمعية الشمولية .
ورد في سورة آل عمران : فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضَعَتْ وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) .
إن السياق التاريخي الذي تتكلم عنه الآية هو ولادة مريم في المدينة التي يسيطر عليها الفكر اليهودي ، حيث لا يُنذر سوى الذكور لخدمة الهياكل ، لذا تقول والدتها ’’إني وضعتها أنثى ... وليس الذكر كالأنثى‘‘ .
لكن يمكن القول أيضاً ، وهذا ما يستخلص من سياق الآية ، أن هذا الخطاب لا يختص بحقبة زمنية واحدة (عصر السيدة مريم) ، لكنه خطاب إنساني شامل ، يؤسس لنظرة مختلفة نحو الذكورة والأنوثة ، فليس الذكر كالأنثى من كل النواحي والتفاصيل ، الفسيولوجية والجزيئية والنفسية والعقلية .
ولا يعني هذا أفضلية ، فكما لا نقوم بتفضيل شجرة على أخرى (اعتباراً أن لكل واحدة وظيفة ودور) ، كذلك الذكورة والأنوثة ، لا تفترض تفضيلاً خاصاً ، باعتبار أن لكل غاية ودور ووظيفة في البناء المجتمعي الكلي .
إن الخلل حدثَ ، عندما تم مسخ هذا التصور ، حيث أسست الدعوات النسوية للمساواة ، فوقعت الثقافة في مفارقات وتفضيلات ، بين دعوات المساواة أو دعوات الأفضلية ، وهو بناء يمكن القول أنه يتوافق مع التطور الحاصل في الفكر الغربي ، ومع بنائهم المجتمعي ، إلا أن تطبيقه على مجتمعاتنا ، قد أسس لإشكالات لا يحتملها ، مما يمكن أن يؤسس لدمار (أو على الأقل تشويه) مجتمعي على صعيد العلاقات .
يظهر من كلامي السابق أنني أتبع منهجاً بنائياً – وظيفياً حيث يؤثر متغير على آخر وبالتالي على البناء الكلي (وإن لم يحضر إلى الذهن فوراً إرتباطهما) ، إن هذا المنهج ضروري لفهم المجتمعات المعقدة المركبة حيث تتداخل الأنساق في علاقات وتشابكات تجعل من الصعب (أو من المستحيل) دراستها منفصلة ، فالنسق الإقتصادي يؤثر على القرابي الذي يؤثر بدوره على الإجتماعي فتتغير معالم الثقافي ، وهكذا ... لنجد مسخاً مشوهاً ، وليس بناءً سليماً .
لا أريد القول أن التغير خاطئ ، لكن التغير غير العقلاني وغير المدروس ، الذي يعمد إلى نزع فكرة (أو نسق) من ثقافة ومحاولة زرعها في ثقافة مختلفة تماماً سيؤدي إلى حالة المسخ . فكما لا يمكن زرع شجرة إستوائية في بيئة صحراوية كذلك الأنساق الثقافية (وإن كان يمكن القول أن التغيير البيئي الإجمالي سيمكّن الشجرة من النمو) .
إن اعتماد الفكرة التي تقول بالمساواة ، والتي تؤسس لعلاقات إجتماعية مختلفة بين الذكورة والأنوثة ، تشكل دخيلاً يزرع بذور الخراب والدمار في بيئة ترى بينهما اختلافاً ، وانبنت ثقافتها على أساسه .
إن الناظر للبناء الإسلامي الشمولي ، كما دعا إليه القرآن ، وكما اعتمده الرسول في حياته تطبيقاً وممارسة عملانية ، وكما حاوله الصحابة والتابعون يشكل الفكرة الصحيحة لطريقة الحياة .
إن الإسـلام لا ينظر إلى المرأة والرجل باعتبارهما ذكراً وأنثى فقط ، بل باعتبارهما من نفس واحدة ، وهذا واضح من سياق الآيات (1) ، لكن وكما تنص الآيات أيضاً ، فضل الله بعضهم على بعض ، (2) كما فضل الإنسان على باقي المخلوقات ، (3) وكما طلب من الملائكة السجود لآدم الذي يعد خليفته على الأرض (بما أفهمه تفضيلاً للمرتبة الإنسانية على المرتبة الملائكية) (4) ، كذلك نص أن الرجال قوامون على النساء ، (5) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً (الأحزاب : 36) . إن هذه القوامة لا تعني تسلطاً بل هي مسؤولية مضاعفة في الدنيا ، وأساساً يوم الحساب .
إذن الأهمية لا تكمن في السؤال عن سببية هذا الأمر وعلته وغايته ، إذ هي حكمة إلهية قد لا نقدر على فكاك ألغازها ، بل تكمن الأهمية في الوظيفة والدور الذي يلعبه هذا التفضيل ، في الحياة الإسلامية ، وفي البناء الإسلامي الإنساني الشمولي .
إن التفاصيل المختلفة بين الذكورة والأنوثة ، ترتبط بمعرفة إلهية مسبقة ، إذ هو الخالق الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا حبة خردل (6) ، فالخالق أسس لهذا الواقع الإنساني الشمولي ، لذا تختلف الحياة والحقوق والواجبات بين الإثنين ، دون أن يكون ذلك مسيئاً أو معيباً ، بل هو لمصلحة الفريقين إن عرفا كيف يستفيدان منه ، وإن عرفا كيف ينسجمان معه .
إن الشجرة لا تحاول مطلقاً أن تطير ، فلماذا يحاول العقل الإنساني خلق وهم أن بمقدورنا أن نتخطى واقعة الفصل ؟
إن الذكر ليس كالأنثى ، والإختلاف بينهما ضروري لمتابعة الحياة بشكل سليم سوي ، وللوصول أيضاً إلى أعلى مراتب التسامي ، حيث فضل الله الأنفس بعضها على بعض بالتقوى . (7)
إن مختلف التفاصيل الإنسانية الإسلامية ، من حيث المواريث ، الجهاد ، العمل ، الحمل ، الرضاعة ، الزواج ، الحجاب ، الشهادة ، الوصية ، ... يجب رؤيتها من خلال الصورة الكلية ، ولا يمكن أبداً تجزئتها ، ثم القول بأن هذا الجزء يسيء للأنثى أو للذكر .
إن الإسلام بناء شمولي ، ودراسته في هذا الإطار فقط ، يمكن أن تقدم فهماً لموقع كل من الذكر والأنثى ضمنه ، ولنواحي التعاون والتشارك والتكامل والتناغم والإنسجام والتنافس بينهما .
الهوامش :
(1) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها (سورة النساء : 1) ، هو الذي أنشأكم من نفس واحدة (الأنعام : 98) ، هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها (الأعراف : 189) ، والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً (النحل : 72) ، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم : 21) .
(2) ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض (النساء : 32) ، يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن (الحجرات : 11) .
(3) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء : 70) ، والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (النحل : 5) ، ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (لقمان : 20) .
(4) ورد في سورة البقرة : وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة ... (30) وعلم آدم الأسماء كلها ... (31) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) .
(5) الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض (النساء : 34) .
(6) وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (يونس : 61) ، يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (لقمان : 16) .
(7) جاء في القرآن الكريم : إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات : 13) ، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (آل عمران : 133) ، وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى(البقرة : 197) ، وورد في الحديث الشريف : لا فضل لعربي على عجمي ، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى . وورد عن الإمام الباقر قوله : اتقوا الله واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه ، أتقاهم وأعملهم بطاعته .
التعليقات (0)