وللشعر منطقه في الثورات العربية
د. رمضان عمر
رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين
الشعر ديوان العرب وسجل أحسابهم وأنسابهم وأيامهم ومستودع حكمتهم وبلاغتهم،نشأ وترعرع في خضم الحروب والمعارك والأيام، وكانت كل قبيلة –في الجاهلية- تحرص على أن يكون لها شاعر ينطق باسمها، وينافح عن مكارمها، ويذبُّ عن فضائلها، قال عنه الجرجاني: " فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب، وأنه مجنى ثمر العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد من الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضيين مخلدة في الباقين، وعقول الأولين مردودة في الآخرين، وترى لكل من رام الأدب وابتغى الشرف وطلب محاسن القول و الفعل منارا مرفوعا، وعلما منصوبا، وهاديا مرشدا، ومعلما مسددا، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر والزاهد في اكتساب المحامد داعِياً ومُحَرِّضاً، وَلاعِثاً وَمُحَضِّضاً، وَمُذَكِّراً وَمُعَرِّفاً، وَواعِظاً وَمُثَقِّفاً" ولما جاء الإسلام اتخذ من الشعر منبرا، يعتد به في معركة المثاقفة مع قريش، فقام الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- باتخاذ كل من حسان وكعب وعبد الله بن رواحة شعراء له، يمثلون جبهة قتال فكري مرادفة للجبهة العسكرية، ودعا حسان إلى هجاء الكفار قائلا:" اهجهم وروح القدس معك". وقد احتفظ لنا التاريخ- من تلك المساجلات البديعة ما لا يستغنى عنه في تثقيف الأمة،وتربيتها على المكارم والأخلاق والمثل. ولم تخل ثورة من الثورات من شاعر مفلق غيور، توكل إليه مهمة تحميس الجند، ووصف الحروب،والحض على الجلاد والمقارعة والصبر، فإذا كان السيف سوط الحق؛ فإن الكلمة الشاعرة صوته. وممن حفظهم لنا التاريخ من الشعراء الثوار( هوميروس) شاعر اليونان الأول، والمهلهل شاعر ربيعة، وحسان شاعر الرسول، والمتنبي شاعر سيف الدولة،و(فكتور هيجو) شاعر فرنسا، و) ميغل هيرنانديث) شاعر اسبانيا، ناظم حكمت شاعر تركيا،وعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان شاعرا المقاومة في فلسطين، وغيرهم الكثير الكثير. وحينما ننتقل إلى حقل الإبداع الأدبي في العصر الحديث، لنقف على منطق الشعر فيه، ونتفيأ ظلال منهجه في تناول السياسة والاجتماع وقضايا الأمة،نستحضر مقولة بعضهم:" الأدب انعكاس طبيعي للواقع"، وهي مقولة قابلة للتطبيق- نسبيا- في بعض دلالاتها، فالأدب في بعض تجلياته يشكل رافدا من روافد التشكيل السياسي؛ يرأب ما انصدع من فعل (المقاولين السياسيين) على موائد البيع والشراء لذمم الضحايا الأبرياء؛فحينما انكفأ أهل السياسة، و انزلقوا في دهاليز الخيانة والتآمر؛ تجلت صرخة الأديب الصادق؛ لترأب الصدع، وتكيل العثرة؛ فالشاعر الملتزم ينطق بنبض أمته، ويرسم معالم نهضتها بعبقريته، ويُسرج لها خيول عزتها بقوة شاعريته؛ فتتلقى شعره الأجيال،وتتغنى به الشعوب، وتترجمه إلى وقائع وأفعال: وقد تلقت ثورة تونس كلمات شاعرها الثائر القدير: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر بعقول واعية، وقلوب عامرة،فلبت نداءه الصادح، وثارت ثورتها المباركة؛ مستجيبة لمنطق التغيير، فمن الله عليها بنصر من عنده؛ بأن خلصها من طاغوت أذاقها وبال أمرها.ونقلها إلى عهد جديد فيه عزها- بإذن الله- إن هي أحسنت قطف ثمار ما زرعت. وحفظت الجماهير في ميدان التحرير- بمصر- أبيات شوقي: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة تدق دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم انه نور وحق فسالت الدماء زكية طاهرة؛ لترسم معالم فجر جديد.بعد أن رددت آلاف الحناجر صوت الشعار الواحد" الشعب يريد إسقاط النظام"ودقت أبواب الحرية، ففتحت مصر أبوابها للثائرين، وتحقق حلم الملاين، وترنح الصنم الفرعوني الجاثم على الصدور، ثم هوى منحطما منكسر النفس مهانا، يضرب كفا على كف بما كسبت يداه. وإذا كنا قد قررنا أن المشهد الثقافي لا ينفصل عن المشهد السياسي، وأن رؤية الأديب الواعي تمثل قراءة متقدمة لمنطق الحدث؛ فإن متابعة ما يجري على الساحة العربية من ثورات متعاقبة يفرض قراءات متعددة تطال أبعاد التجربة من كافة نواحيها،لتكتمل صورة المشهد،بتجلياته الفكرية والسياسية والاجتماعية، ومن تجليات تلك الثورات ذلك البعد الثقافي المنبجس من وحي الثورة، والمنطق الأدبي المواكب لها – وأقول "لها" هنا على اعتبار أن ما يجري في البلاد العربية كلها يمثل ثورة واحدة لا ثورات، والمشهد الثقافي يثبت ذلك،ويؤكد عليه، ذلك المشهد الذي أعاد رسم هوية الأمة،بعيدا عن هوى الأنظمة التي أرادت أن تُذهِب ريحها،وتسحق تاريخها، وتتبعها عنوة لعدوها.وفتح مجالات لتشكل ثقافات جديدة بعيدة عن التبعية والتهويد، فبعد أن مس هوية الأمة ما مسها من انزلاقات فكرية وثقافية عاد الصوت الشبابي الحر ليقيل عثرة الساسة المنزلقين؛ فتوحدت الجماهير خلف شعار واحد" الشعب يريد إسقاط النظام" هذا الصوت الهادر لامس آذان الشعراء المرهفة؛ فجاشت قرائحهم بكل ممتع ساحر، ليعيد تشكيل المشهد الشعري، ويرسم معالم المرحلة الثقافية القادمة. وقد وجدت إنتاجا ضخما في هذا الجانب، يستحق أن تفرد له دراسة شاملة، بيد أنني سأقف على ثلاثة نماذج فقط،مقتبسا منها النزر المعين على تضمين هذه المقالة ما تحتاجه من شواهد إبداعية،قد توحد من خلالها الوجدان الجمعي، واستوى لها الإشراق البلاغي، وصحت رؤيتها الإبداعية، مما جعلها تمثل نماذج صحية في دور الأدب الفاعل، كما يتوقع منه. ولعل أول نموذج أقدمه نموذج لشاعر ثوري؛ ينطلق في هيكلة الشعر من هيكلة الأمة،فلا يكاد ضمير الجمع يفارقه "تهانينا/ تحايانا" بهذا المنطق الجمعي يزف الشيخ حامد العلي البشرى،ويستجيب للشعور، وحق له أن يتغنى، فالشعر العربي شعر غنائي، ولم يتغن بالشعر لن يكون شاعرا كما قال حسان: تغن بالشعر إما أنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار. ومن هنا فقد قرر هذا الشاعر أن يتغنى بالشعر، ويزغرد بمقاطعه، وينثر الورود على صفحة الإبداع: تهانينا، تحايانا، وفينا لمصرَ العِزِّ حبُّ العاشقينا ألاَ يا عاشقينَ لمصرَ قوموا وحيُّوا الظَّفْر، والنَّصر المبينا إنها مصر، مصر العروبة العروس الفتية تستحق كل تحية، تأتيها من كل عاشق وله؛ فمصر سباقة في كل شيء، في العزم والهمة في السؤدد والمجد: إذا ذُكر الورى هِمَما وعزْما فمصرُ المجدِ تسبقهُم قرونا مصر التي يراها الشعر ليست مصر مبارك التي عزلها عن محيطها، وهبط بها عن مكانتها؛ لتكون خلفية للموساد وساحة لCIA وجدارا للحصار وظلا خافتا للسياسة؛ إنها مصر التاريخ والمجد مصر الفتح والإباء: لقد صنُعوا من التاريخ مجْدا به فتحوُا لنا فتْحا مبينا شبابٌ كالضَّراغمِ في مضاءٍ جميعاً بالإباءِ مُسلّحينا إنها المفارقة بين عهد: عهد بطولي صنعه أمجاد عرفوا طريق السؤدد، وعهد بائد مستبد لم يعرف سوى طريق الانبطاح والتهاوي: أذاقوا الذلَّ سُلطةَ مُسْتبدٍ فخرَّ وصارَ مرذُولا مهينا والشعر يغوص إلى أعماق السياسة، ويحفر على حقائق التغيير،وهنا تستحضر فلسطين في ذاكرة الشاعر الواعي؛ إنها مفجرة التغيير، وبوصلة الانتماء، فلسطين التي حاصرها مبارك كانت سببا من أسباب خلعه: وكان يحاصرُ الأحرارَ بغْياً بغزَّة خانقا شعباً سجينا وكان يصولُ في ظلْمٍ وبغيِّ فأصبحَ خائفا كلْباً لعينا وأُسْقط من سريرِ الحُكم خلْعا هَوى فأنحطَّ أسفلَ سافلينا والتغيير سنة كونية، فقد كتب في الكتاب المبين أن دولة الظلم ساعة، ومرتعه وخيم، و نهاية الظالم حتمية: كذاكَ الله يبطشُ لايبالي إذا طغتِ الطغاةُ الظّالمونا كذاكَ الله يسمع للثّكالى ويسمعُ من يئنُّ له أنينا وبطشُ الله ليسَ له مردٌ وتلكَ مصارعُ المتجبِّرينا أما شاعر الكلمة الصادقة، والصورة الناطقة،الشاعر البليغ المفلق عبد الرحمن العشماوي؛ فقد حق له أن يوجه خطابا عاقلا لمن يأبى سماع الحق: قُل لِمَنْ يأبى إلى الحقِّ استماعا هكذا يُقتَلَعُ البغْيُ اقتِلاعا هكذا ينتفضُ المظلومُ، حتى يرحلَ الظالمُ، أو يُبدي انصياعا إنها حتمية التغيير إذا استجابت للشكوى، وانتصرت للضعفاء ؛فهناك رب قوي لا يهزم،وهي قصة ينقلها تاريخ لا يكذب، بأن النصر حليف الصادقين: قصَّةٌ ينقُلُها التاريخُ نقلاً واضِحَ المعنى، ويرْوِيها تِباعا كمْ سِباعٍ فَتَكَتْ، لكنَّ شهماً واحِداً روَّعَ بالسَّهمِ السِّباعا كمْ رأينا ظالماً أغراهُ نصرٌ زائفٌ حتَّى تمادى وأذَاعَا نامَ في سكْرتِهِ عنْ كفِّ داعٍ يسألُ الله عن الحقِّ دِفاعا حينَما زلْزلَهُ الله رأيْنا وجْهَه الكالحُ يزدادُ امتقاعا أدركَ المسكينُ أنَّ الظلْمَ نارٌ تأكُلُ البغيَ وإنْ ذاعَ وشاعا انه الإدراك المتأخر من الطغاة الواهمين؛ الذي لا يجدي نفعا، بل إنها الظاهرة الإيمانية الفرعونية، إيمان الجبر بعد الهزيمة، والقناعة بعد الانتكاسة، فهو إيمان ابشع من كفر، وقناعة أسخم من جحود؛لم يفهم مبارك وابن علي ما كان يجب أن يفهماه إلا بالسيف البتار: والزحف الجرار. وكذا كان منطق الشاعر الأردني الثائر الدكتور ايمن العتوم في قصيدته الرائعة "قِفِي يا مِصْرُ" حين أرسل مقاطعه الشعرية صواعق لاهبة، وقذائف مجلجلة فرد الصدى عزما لا يهون شفى به صدور قوم مؤمنين: قِفِي يا مِصْرُ رُمْحًا لَنْ يَلِينا وَصاعِقةً تُبِيدُ الظّالِمينا فَإِنّا قدْ عَهِدْنا فِيكِ عَزمًا إِذا هُنّا تَعاظَمَ أَنْ يَهُونا ولا تُعطِي اليَمِيْنَ (لِسامِرِيٍّ) وَلَكِنْ قَطِّعِي مِنْهُ اليَمِينا وعلى خطى منطق العتوم جلجلت صرخات شاعر العراق الفتي الأديب الإعلامي محمد ناصيف في قصيدته" يا مصر عودي"؛ فعودة مصر عودة للأمة لأنها مصر العروبة، ومن لا يحن لدفقٍ من نداها، وسنبلةٍ من جناها: ظمِئْنا إلى غيث ِ العروبة ِ هاطلا فيا مصرُ فيضي وابلاً فاضَ وابلا تحنُّ لدفق ٍ من نداك ِ جروحنا فصبي بأعماق ِ الجروح ِ جداولا سنونَ عجافٌ قدْ عصرنَ ضلوعنا فثوري على قحط ِ السنينَ سنابلا غيابكِ ألقى في القلوب ِ مرارة ً وما قبلتْ عنكِ القلوبُ بدائلا بدونك ِ كنا كاليتامى بضعفنا أردناك ِ في دنيا التعسف ِ كافلا انه منطق ثوري فاتن يمس جوهر القضية، لكنه لا يرزح عند إقدام الحدث، بل يحلق عاليا في رؤية فكرية تبحث عن تتويج عملي لبناء مستقبل واعد كريم، هذا هو الشعر، وهذا هو منطقه في التحليل، يرتفع بالحدث إلى مصاف التشكيل،و ينفر من التقرير ليصوغ معالم الأبدي القويم المستقيم، لا يعترف بالعجز، ولا يقبل بالخنوع ، فهو - أي الشعر - أجدر بان تربى على موائده الشعوب، وتقنن من مقاطعه المبادئ، وترتفع إلى مصافه المطامع. أما حينما ينحرف عن بوصلته تصيبه الركاكة والزيف، ويصبح غثا لا خير فيه. وقد أصاب شعرنا في زمن الانحطاط السياسي ما جعل أرباب الكلام السخيف يتبوؤن مقاعد الأدب، ويشار إليهم بالبنان وهم دون ذلك بكثير. فهل أعادت الثورات للشعر مكانته؟ وللأدب صرحه؟ وللثقافة هويتها ؟ هذا ما نتمناه وهذا ما ستنبئنا به الحروف القادمة.
التعليقات (0)