مواضيع اليوم

ولا تحسبن الذين قتلوا

حسنين السراج

2011-05-17 20:58:03

0

 قراصنة الكاريبي
أنا من أشد المعجبين بسلسلة أفلام قراصنة الكاريبي وانتظر هذه الأيام وبشوق كبير الجزء الرابع من هذا الفلم . لا اعلم لماذا أتعاطف مع القراصنة من بداية الفلم الى نهايته مع أن القراصنة في الثوابت التي أعرفها يمثلون جانب الشر ؟. قام البطل جاك سبارو بقتل العديد من الجنود لكن لم يرف لي جفن ولم أشعر بمشاعر سيئة تجاهه . ليس السبب لأني أعرف جيدا ان ما يجري تمثيل وليس حقيقة . فلو كان الأمر كذلك لماذا لم أتعاطف مع الجانب الاخر ؟ السبب الحقيقي هو أن المخرج أرادني ان اتعاطف مع القراصنة واظهرهم امامي بصفات حسنة ومليئين بالشهامة و روح الدعابة وأظهر الشخصيات التي تمثل الجيش التقليدي عبارة عن مجموعة من الأشخاص الوصوليين المخادعين . هكذا تعاطفت مع القراصنة . أذا كان سبب تعاطفي مع القراصنة في فلم قراصنة الكاريبي هو المخرج ( غور فيربينسكي) فسبب تعاطف شريحة كبيرة من المجتمع مع شخصيات مارست الجريمة الفكرية ماديا ومعنويا هو (الواقع الاجتماعي الغير ناضج ) الذي لم يحدد أولوياته في تقرير توجهاته . فالتبرير والانحياز صفات ملازمة لمجتمعنا . وتجعله يغض الطرف عن بحر شاخص من الدماء لفشله في طرد لحظة تعاطف طارئة وغير مبنية على واقع حقيقي .

من الطبيعي أن يشعر الأنسان بنوع من التعاطف القهري حين يشاهد مشاهد يتألم فيها شخصا ما حتى لو كان جلاد . فهذه طبيعة الكثير من الكائنات ومن ضمنها الانسان وهي الشعور بالألم حين مشاهدة معاناة الاخرين . لكن لا يجب ان يسمح الأنسان لنفسه ان يبني مواقف مبدأية بناءا على لحظة عاطفة غير عقلانية وغير مبررة . فليس هناك ضرر حين يتعاطف أحدهم مع اي صورة عابرة تعبر عن مشاعر الالم . لكن الضرر يبدأ حين يبني موقف معياري ثابت بناءا عليها .هناك معيار أخلاقي يقف عنده الانسان ليقرر هل تعاطفه في محله ام أنها عاطفة طارئة لا يجب التوقف عندها . قد نتعاطف احيانا مع جلاد أو قاتل لأنه تعرض لموقف مهين او تعرض للقتل بطريقة بشعة . لكن هناك معيار يجب ان يكون هو الثابت في تحديد أحقية حصول شخصا ما على التعاطف من عدمه . المعيار هو دماء الأبرياء ومدى المحافظة عليها .


مهما يكون – بغض النظر

حين تسمع جملة من هاتين الجملتين في بداية حديث أحدهم فتأكد أنه يحاول تبرير جريمة . قد تكون جريمة قتل, أو جريمة معنوية . أصعب لغز يواجه الانسان هو عقله . ذلك العقل الذي تتحول كل مقاييسه فور حدوث حدث مفاجيء .
التعاطف مع القاتل بعد أن يموت أمر وارد في مجتمعنا . ولا نتحدث عن تعاطف المؤيدين لفكره ومحبيه ومريديه . بل نتحدث عن هؤلاء الذين ينتقدوه بشدة . ثم ينقلبون 180 درجة بعد موته مباشرة . وتتغير مقاييسهم للحب والكره . فبعد أن كان صدام بالنسبة لهم دكتاتور . تحول فجأة الى شهيد الأمة . وبعد ان كان الزرقاوي بالنسبة لهم أرهابي وقاتل تحول فجأة الى شهيد الاسلام . لا نتحدث هنا عن هؤلاء الذين حسموا ميولهم مقدما وأيدوا تلك الشخصيات . فهؤلاء أمرهم واضح . نتحدث تحديدا عن اصحاب المواقف المضطربة التي تتغير بشكل فجائي . وبدون سابق أنذار .
ان هؤلاء تتسم أحكامهم بالمنطقية والعقلانية حين يكون الحديث عن نهج تلك الشخصيات واثارها على ارض الواقع . لكن حين يسمعون خبر تعرض أحد هؤلاء الزعماء الى ضرر شخصي ستتحول المواقف من العقلانية والمنطقية الى العاطفية . وسيبدا بتبرير أعمال العنف الدموي والمعنوي . وسيتركز كلامه على نقاط محددة تحاكي وجدانه المتعاطف والمنحاز .

المشكلة لا تتعلق بمدى قدرة هؤلاء على تمييز ما هو جيد وما هو سيء . فهؤلاء لديهم قدرة كاملة على تمييز المقدار الذي يحدثه الالم لضحايا تفجير واحد قام به تنظيم القاعدة . ويعلمون أن هناك اطفال تيتموا ونساء ترملت وأباء وأمهات فقدوا أبنائهم . لكن هذا المعيار سيتوقف فور حدوث مكروه ما للزعيم الدموي .
في اللحظة التي يسمع بها هذا النمط من الناس خبر مقتل زعيم دموي سيبدا تعاطفه مع ضحايا ذلك الزعيم يقل تدريجيا الى أن ينعدم . وما أن يتحدث أحدهم عن الضحايا الذين فقدوا حياتهم بسبب أفكار هذا الزعيم يثارغضبهم ويتحول كلامهم من العقلانية والمنطق الى الجدل . ويبنون جدار سميك من الجمل الدفاعية التي يعدها عقلهم للوقوف امام انفسهم قبل غيرهم . وما ان يعود العقل في لحظات التأمل الى مساحة المنطق يقمعوه بمفردات وجمل تدعم البقاء في مساحة الأنحياز والجدل .
فمثلا حين أعلن عن خبر مقتل بن لادن . أنفجر في عقول هذه الفئة من الناس (وهم نسبة كبيرة لا يستهان بها ). أنفجر في عقولهم حزام ناسف من التعاطف والتودد لشخص أسامة بن لادن . بعد أن خرجوا يوما ما للتعبير عن رفضهم لأفكاره . و بعد أن أتهموه بالعمالة لأمريكا حين كانوا يصرخون بصوت باسم ضحايا التفجيرات ويقولون أن من فعل ذلك عميل لامريكا يدعي الأسلام والأسلام منه براء .

المقارنة والقياس

بعد ان تنتشر في أرجاء كيان هذه الفئة من الناس أجواء التعاطف مع الزعيم المقتول . يبدأ الصراع بين فكرة انه أرهابي قتلت أفكاره ألاف الناس على الظن والشبهة وبين فكرة أنه فقد حياته بشكل شنيع على يد عدو الأمة الاول أمريكا . هذا الصراع لا يدوم طويلا فهناك مصل مجرب ينهيه بشكل سريع ودون ألم . أنه (التبرير والمقارنة والقياس).

يبدأ بأستعراض جرائم امريكا التي تجعل من بن لادن مجرد رد فعل . ويبدأ بالتركيز على جرائم أمريكا والتحدث عنها بشكل تفصيلي . ويحاول الدفاع عن كل جريمة أرتكبها بن لادن بأستخدام جمل كثيرة تعطيه شعور بالارتياح . مثل : ( لماذا ترك المال والعيال وأختار حياة الكهوف . الكثير من اعمال القتل التي قام بها أتباعه لم يكن موافق عليها وعنفهم عليها . كان رجلا بسيطا وزاهدا في الدنيا . على الاقل أذاق أمريكا الويل . لو كان سيئا لما قتلته امريكا . )
بهذه الجمل سيتحول التعاطف مع أبن لادن من قبل من كانوا ينتقدوه الى تعاطف مبرر وفي محله . ولو قلت لهم أن هناك عدد كبير من الابرياء ماتوا بسببه سيقول لك دون أنتظار : ( وكم قتلت أمريكا من الابرياء ) أنها المقارنة بين القاتل والمقتول . لو قلت لأحدهم أن أسامة بن لادن تسبب في قتل عشرة الاف انسان مثلا سيقول لك دون تفكير أن أمريكا تسببت بمقتل مليون أنسان . وبذلك سيكون أسامة بن لادن ملاك مقارنة بأمريكا .
وقد تجد من يصف عمليات القتل التي قام بها تنظيم القاعدة بانها ( أخطاء ) ويصف عمليات القتل على يد الامريكان بانها ( جرائم) لانه يريد التهويل حين يكون الحديث عن الأمريكان لذلك يستخدم مفردة (جرائم ) ويريد التهوين والتخفيف حين يكون الحديث عن القاعدة لذلك يستخدم مفردة ( أخطاء ) .

من قاتل الى مقتول

ان أمريكا بقتلها أسامة بن لادن حولته من قاتل الى مقتول في ذهنية المجتمع . أن وقع الحدث الاخير في قضية ما قد يلغي الاحداث الاخرى . فغالبا ما يبني المجتمع مواقفه بناءا على اخر الأحداث والتي قد تقلل اثر الاحداث السابقة . فعمليات القتل التي قام بها بن لادن بأشرافه المباشر أو بتخطيطه أو بأيحاء من افكاره ذابت جميعها وطويت معها اخر صفحة في كتاب أسامة بن لادن الأرهابي في لحظة الأعلان عن قتله لتبدأ صفحة جديدة في كتاب جديد عنوانه أسامة بن لادن الشهيد . وما ساعد على ذلك هو الادب الجم والأسلوب الهاديء لأسامة في حواراته التلفازية . فضلا عن كونه ملياردير يرتدي ملابس بسيطة تدل على التواضع . أن لهذه الصفات الشخصية , فضلا عن مقتله على يد الأمريكان اثر كبير في تحوله الى رمز والتغاضي عن جرائمه .

قبل ايام كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء في موضوع بن لادن . فقال لي : ( لماذا قتلوه في هذا التوقيت تحديدا الا تجد الامر غريب ؟) فقلت له : ( وما هو المميز في هذا التوقيت ؟ وهل تعتقد انهم لو قتلوه قبل عام من الان أو بعد عام من الان لم تكن لتقول لماذا هذا التوقيت ؟) أمريكا في ذهنية من يناصبوها العداء تتمتع بمقدار عالي من الدهاء والذكاء الذي يجعلها لا تفعل شيء الا في وقت مناسب ولغايات دفينة .

كل ما سبق ينطبق الى حد ما على صدام حسين مع فارق التوجه . فصدام في ذهنية فئة من المجتمع زعيم قومي وبن لادن في ذهنية فئة من المجتمع زعيم اسلامي . حين تسرد لاحد محبي صدام حسين جرائمه سيحدثك بشكل مباشر ودون تفكير عن جرائم الأمريكان وجرائم السياسيين الحاليين . بنفس المنطق . منطق المقارنة والقياس . الذي يجعل العشرة أقل من المئة والمئة أقل من الالف ويجعل من قتل عشرة ملاك قياسا بمن قتل ألف .

من يصف صدام بالشجاع يعلم جيدا انه لم يمتلك الشجاعة لمقاومة من جائوا لاعتقاله . لكنه يبرر ذلك ببالتظاهر أمام نفسه بتصديق قصة ان القاء القبض على صدام كذبة والحقيقة أنه تم تخديره . أما عن التبرير الاكثر شيوعا لحب صدام هو حربه مع الأمريكان ومع الايرانيين . فما أن تقول أنه أدخلنا في حروب غير مبررة ذهب ضحيتها مئات الالوف سيقول لك أحدهم : ( يا أخي بغض النظر على الاقل واجه الأمريكان والايرانيين ) أو مبررات أخرى من قبيل : ( على الاقل كنا ساعة 2 بالليل نطلع للشارع ) . (لعد هسة شلونة الوضع ) ( جان صدام واحد هسة ألف صدام ) ليس من الصعب أيجاد شيء يبرر التعاطف مع صدام من قبل من كانوا ينتقدوه والحديث حصرا عن من كانوا ينتقدوه .


الاخر الذي يجب ألغائه

يعتبر قبول الاخر من أهم الثوابت التي تجعل المجتمع مجتمعا قابلا للتطور . لكن هناك (اخر) لا يمكن قبوله بل يجب ألغائه وهو الاخر الذي يلغي الاخر . من يكون هدفه الاساسي في الحياة هو الغاء الاخر . ويقوم بذلك بشكل فعلي , من خلال القتل المستمر لأتفه الاسباب وسلب أرادة الاخرين وسلب كرامتهم . يجب الغائه من خلال سجنه وحماية المجتمع منه أو قتله فيما لو قتل اخرين بحكم القانون . حين يتحول الكلام الى دماء هنا يجب ان تسلب أرادة هؤلاء بل يجب ان تسلب حياتهم لأنهم لا يحترمون حياة الاخرين ويسلبوها بكل أريحية بل ليس لديهم مشكلة في الاستمرار . لذلك يجب حماية المجتمع منهم .

في اللحظة التي يتعاطف فيها القلب بشكل قهري مع صورة لجلاد يتعرض للألم , يجب أن يكون هناك معيار لتحديد مدى أخلاقية هذا التعاطف . فليس كل تعاطف مقبول أخلاقيا . المعيار الاخلاقي يتعلق بدماء الابرياء ومشاعر ذويهم . فلا يجب ان اسمح لنفسي أن أتعاطف مع مجرم لأنه تعرض لأهانة او تم قتله بطريقة شنيعة , فمشاعر ذوي الضحايا يجب أحترامها . ويجب تقديس وأحترام الضحايا الابرياء . من لا يتمكن من كبح جماح عواطفه الطارئة ويبني عليها مبادئه هو في الواقع يعاني من خلل أخلاقي . نحن في الواقع الفعلي الذي يتالم فيه الضحايا ويتألم فيه ذويهم على فقدانهم ولسنا في مسلسل تصل فيه الاحداث الى ذروتها في الحلقة الاخيرة وينتصر فيه البطل قاتلا أو مقتولا . دماء الشهداء الذين قتلهم بن لادن في جميع أنحاء الأرض يجب ان نقدسها ونحترمها ويجب الوقوف أمامها بتقدير وتعاطف ويجب أن تكون هي المعيار لأنها اصدق تعبير عن معنى الحياة . أذا لم نفعل ذلك لتخسف بنا الارض لاننا لن نستحق حينها الحياة .

حين نتعاطف بسبب طبيعتنا مع صورة عابرة يظهر فيها (جلاد يحتضر أويشعر بألم أو مقتول بطريقة بشعة ) يجب أن نستحضر صورة ضحاياه الذين لم يرف له جفن حين قتلهم أو دعى الى قتلهم . هؤلاء أولى بالتعاطف . ولهم يجب أن ترتفع صيحات الألم ولهم يجب ان ينحاز العقل والقلب معا . حين يكون مقياس الشعوب في التعاطف والاحتفاء هو دماء الابرياء الذين قتلوا دون وجه حق . ستكون شعوب في طريقها للتطور وتستحق كل ذرة هواء وكل قطرة ماء تستهلكها . أما الشعوب التي يتحول فيها القاتل الى ضحية فور شعوره بالألم بل يسقطون عليه الاية القرانية التي تقول : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ...) . هي في الواقع شعوب مزاجية غير مبدأية تحكمها العاطفة . ولا تحترم دماء أبنائها . لنترك ضحايا القاعدة في أوربا وأمريكا جانبا ونتحدث عن ضحايا القاعدة في العراق والاردن والسعودية وغيرها من الدول الاسلامية . الا يستحق ذوي الضحايا في هذه الدول ان تحترم مشاعرهم ؟ جميع ضحايا القاعدة في كل العالم يستحقون أن تحترم مشاعرهم . لكن يبدو أن هناك مزاجية وعدم أكتراث لمشاعر الاخرين سببها خلل أخلاقي وتخلف أجتماعي . أنه باختصار قمة الانحطاط الفكري حين يبني الفرد موقفه تجاه قضية بناءا على لحظة تعاطف مع صورة بائسة لقاتل لم يرف له جفن حين قتل الاف الأبرياء دون وجه حق .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !