كنت أعرفها منذ أن التحقت بالسنة الأولى فى الجامعة رغم إننى شديدة الحياء ولا أستطيع أن أتكلم مع أحد ولكنها جذبت انتباهى ببهجتها وثقتها فى نفسها ووجها الجميل الذى كان يملؤه البهجة وتعلوه الأبتسامة.
ففرحة هى فرحة دفعتنا وفرحة قريتها وفرحة أسرتها. تمتعت فرحة بذكاء غير عادى يحسدها عليه الطلبة والأستاذة معا. كانت بنت ريفية ولكن كانت غير عادية. بالإضافة للهجتها الريفية الخلابة والتى تشبه لهجة كاتبناعبد الرحمن الأبنودى.
كانت فرحة تسكن إحدى المدن الجامعية بالمحافظة وربما يكون هذا عامل فى أن لا تتعين فى الجامعة رغم ذكائها الثاقب. فجوالمدينة الجامعية كان شىء جديد عليها وكان مرحها مع البنات حيث إنها كانت محبوبة من الجميع لضحكها وجمالها وذكائها كان يعطلها عن المذاكرة بالقدر الكافى.
ومرت السنوات سريعا وتخرجنا من الجامعة ولم تتعين فرحة فى الجامعة كما كنا نعهد لذكائها، وعادت إلى قريتها لتسكن بها وتبدا رحلتها فى طلب الإستقرار، وبعد أن مكثت فرحة أربع سنين بالمدينة الجامعية شكلت حياتها تماما وأثقلتها بخبرات عديدة أثرت فى تفكيرها فى إختيار شريك حياتها.
وبعد أن عادت إلى قريتها بدأت رحل البحث عن عمل هنا وهنالك، ورغم أن فرحة تقديرها العام جيد مرتفع عانت كثيرا لتحصل على عمل، وبعد سنتين أو اكثر من التخرج إتعينت فرحة مدرسة مؤقتة فى إحدى المدارس التابعة لمركزها، ويا ليتها كانت وظيفة ثابته وإنما كانت وظيفة مؤقتة، وما أسهل أن تضيع الأحلام داخل الوطن وما أسهل أن يقتلنا النظام ثلاتين ألف عام وعام.
بدأ العمر يمضى بفرحة دون أن تتزوج وهى ترفض كل العرسان الذين يتقدموا لها من القرية، فكيف لها بعد أن عاشت فى المحافظة وصاحبت بنات فى المدينة الجامعية من كل لون وتفكير وثقافة، كيف لها أن تتزوج رجل دون أن تعرفه أو حتى تحبه، أو بمعنى أصح الرجل الذى كانت تحلم به فى خيالها وتظن أنه سوف يأتى يوما ما، وظلت فرحة ترفض وترفض وتتشبس برأيها رغم كثرة من يتقدمون لها، وما أغلى الشبكة والإغراءات التى تتقدم لها ولكن دون جدوى!
بعدها كبرت فرحه وأصبح عندها 27 سنة وهذا فى الأرياف كارثة بكل المقاييس وخاصة أن فرحة كان لها أخوات يكبروها بكثير ولديهم أبناء بدأو يتزوجوا بالفعل الواحدة تلو الآخرى، وإذا بفرحة تجد نفسها فى صراع مع من هم ليسوا فى جيلها، وكانت الأم تعشق فرحة عشقا خاص حيث أن فرحة هى ابنتها الصغرى وكانت قرة عينها أن تتزوج فرحة.
وجاء هذا العام وتقدم لفرحة عريس من قريتها كالمعتاد وهو مؤهل جامعى ويعمل بإحدى الشركات بالقاهرة، وجاء وقت قرار فرحة كالعاده لترفضه مثل غيره فى طابور العرض، وإذا بأم فرحة تناشدها وتتوسل إلىها هذه المرة أن تتزوجه، وقالت ( إتجوزيه يا فرحة وإطلقى يا بنتى تانى يوم بس ماتقعديش كده صعب عليا أشوفك كده غير إنى نفسى أفرح بيك قبل ماموت)! ربما تأثرت فرح بكلام أمها لأول مرة وشعورها بأن أمها تناشدها، جعل الخوف يدب بداخلها بالإضافة أنها ترى أبناء اخواتها يتزوجون كلهم ولم يبقى منهم سوا واحدة، وغير إبناء خالتها الذين هم يصغرونها كلهم أصبحوا متزوجين.
فقررت فرح فى ظل هذا الضغط العنيف أن تتزوج وأتصلت بنا هاتفيا لتعزمنا على الزفافأنا وبعض أصدقاء الجامعة المقربين لها والذين كانوا على إتصال بها، قررت أنا وزميلتى أن نذهب لها قبل الزفاف لنسلم عليها وهى تودع أيام العذوبية، كانت فرحة لا تشعر بشىء ونحن نتكلم معها وكأن شيئا ما لن يجد فى حياتها أوحتى أنها ستصبح زوجة بعد قليل، وكنا نتألم لإستسلامها.
أهو إستسلام لرغبة أمها؟ أم استسلام لوضع البنت فى القرية التى بلغت 27 سنة وأصبحت كارثة؟ حقيقة الأمر لا أعلم سوى أنها وافقت على شخص لم تعرفه ويعرفها لمجرد الخوف من الغد وقهر المجتمع.
وبعدها ذهبنا اليوم التالى أنا وزميلتى لنحضر الفرح وذهبنا لإحضارها من الكوافير وكنا شغوفين فى رؤية زوجها الذى لم تحدثنا فرحة عنه بالمرة، وإذا هى كعادتها تضحك فى الكوافير ونحن نسألها على شكله و هيئته، وكيف ستبدأ حياتها الجديدة وما عدد الأولاد التى تقنع بهم، وإذا بشخص رائع الجمال يدخل علينا ليقطع حديثنا ويطلب العروسة! وإذا بى أنا وصديقتى نهلل فى آن واحد ما هذا الجمال الرائع يا فرحة! وإذا بصديقتى تقول (وقعت عليه فين ده يا فرحة؟) وإذا بفرحة تضحك ضحكتها المعتادة، وهى غاية فى الجمال فى هذا اليوم التى تبدو فيه كالملاك وتقول (ليس هو ده العريس ياريت تمسكوا فيه لحد ما أبدل أنا والعروسة اللى جانبى)، وإذا بنا نضحك جميعا من الموقف ولم نمنتنع عن الضحك! وهى صامتة لا تتفوه بكلمة عنه.
ودقائق منذ أن غادر العريس الآخر بعروسته ونحن ننتظر العريس المقصود ليأتى، وإذا بنا برجل أسمر شديد السواد يبدو عليه ملامح كبر فى السن، وربما لا يكون كبيرا ولكن هيبته توحى بذلك، وإذا بأخوات فرحة يقولون العريس وصل، وتجهمت أنا وصاحبتى وكدنا لا نصدق المفاجئة، ففرحة بيضاء ،جميلة جمال هادىء وذاد جمالها فى ليلة عرسها، وكأنها أخذت بياض القمر كله وتركت الليل مظلم للأخرين، وإذا بهذا الرجل يأخذها من الكوافير ونحن نسير خلفهم فى زهول تام ولا نجد ما نتحدث به أنا وصديقتى غير حديث الصمت!
هل هذا عريس فرحة؟ هل هذه نهاية فرحة الكلية؟
هل التقاليد والعادات التى دعت بفرحة أن تتزوج دون تفكير أو دون مشاعر أم ماذا؟ لا أعرف؟
وبعد شهور قليلة عرفنا من فرحة أنها حامل، وأخذت تحدثنى أنا وزميلتى أن الحياة بعد الزواج مختلفة عما قبله ونحن مخطئون أن نكمث نفكر كثيرا ونضيع الوقت فى الأختيار، وفاجئتنا بكلامها عن زوجها وعن جماله الأخاذ على الرغم اإننا قد رأيناه بالفعل،! وأضافت لنا أنها أصبحت تغيير عليه جدا وتعشقه، لا نعرف أكانت تحاول إقناعنا أو إقناع نفسها؟ لا أعرف؟
ومرت تسعة أشهر، وأنجبت فرحة بنت جميلة وسعدنا بذلك لها، وإذا بالبنت تكمل العام وإذا بفرحة تتصل بنا هاتفيا، وتقول أنها تريد أن تنجب طفلا أخر، ولكن عندها مشاكل فى الإنجاب مرة آخرى وتذهب إلى الدكتور للعلاج، لم تكون مشكلة كبيرة، ولكن كانت رغبتها فى الأنجاب أشد من رغبتها عندما أنجبت البنت الأولى، فهى تقول لى أنها أصبحت كبيرة ونفسىها تخلف بسرعة قبل أن يسرقها الوقت . وبعد عدة اأشهر قليلة وإذا بفرحة تعلن لنا أنها حامل وتغمرها سعادة بالغة وأن الله قد استجاب لدعائها، ولكن لم تكتمل الفرحة فإذا بوالدة فرحة تأتيها المنية، وقد كانت والدة فرحة قد كتبت لها قطعة أرض عندما تزوجت ولبت لرغبتها، وقد بدأت فرحة بالفعل برسم هذه الفيلا على الورق وكانت تجيد الرسم والتصميم، فهى حقيقه بارعة فى كل شىء، وكانت تنوى أن نتنقتل إلى الفيلا الجديدة التى رسمتها بعد ما تنجب الطفل الثانى.
و مرت الأيام والشهور سريعا وإذا بفرحة يقترب ميعاد الولادة، وكانت تحلم حلما غريب يساورها كل يوم وهى ترى أمها تكنس لها القبر وترشه، وتقول لها أنا فى اإنتظارك يا فرحة، قررت فرحة أن تدع هذه الشكوك عن رأسها، وقالت سوف أذهب لزيارة أمى حتى أحقق رغبتها فى الزيارة، وشعرت أيضا أنها تريد أن تزور جميع أخواتها حتى الذين تخاصمت معهم من أجل زوجها وقالت عندما أوضع أريد أن أجد الجميع حولى لأنى لن أرى أمى بجانبى هذه المرة.
ويأتى يوم الولادة وتتصل فرحة بزوجها الذى يعمل فى القاهرة حتى يلحق بها بعيادة الدكتور المتابع لها، واتصلت فرح بسلفتها التى تسكن فى الشقه المجاورة والتى كانت بمثابة الأخت لها بعد موت والدتها، وذهبت فرحة مع سلفتها وأخوتها إلى عياده الطبيب المتابع لها فى المركز، وجاء الزوج مسرعا ودخلت فرحة غرفة العمليات لتنجب الطفل التى كانت تتشوق له تشوق العاطش للماء، فهى كانت خائفه أن تكبر فى السن دون أن تنجبه وبحثت فى كل رحلات العلاج لتنجبه، وكانت تنوى أن تسمى المولودة فرح بعد أن تأكدت أنها بنت.
بدأ دكتور التخدير العملية، ودخلت فرحة غرفة العمليات ولكن أخذت ساعات كثيرة ولم تخرج على عكس ولادتها السابقة، وإذا بالزوج والأخ يسألوا الدكتور الذى خرج مسرعا بدون خروج فرحة، وقالوا لماذا تأخرت فرحة كل هذا بغرفة العمليات؟ فأجاب الدكتور بسخافة ليس لها مثيل وقال (موجوده جوه وهو إحنا بنحلبها؟؟)، وكانت الكلمة ماتزال تدق فى أذن الزوج والأخ وأذنى عندما سمعتها، ما طبيعة هذا الدكتور الذى يتلفظ على مريضته بهذا؟؟ وما طبيعه أخلاقه؟؟ وهل هذا يدل على إنتماء هذا الدكتور لأخلاق القرية؟ ومرت ساعات قليله وإذا بفرحة تخرج من غرفه العمليات لا تتكلم لا تنطق كل ما رواه الزوج والأخ أنهم رأوا بطن فرحة كانت تعلو وتهبط لثوان قليلة، وإذا بها تصمت صمتا عميقا لم تدعه أبدا، وإذا بفرحة قد رحلت إلى عالم آخر دون أن ترى المولود التى سعت من أجله والتى خافت الكبر من قبل أن تنجبه فسعت لتنجبه، ويأتى هذا الطفل ليكون سببا فى أن تغادر الحياة!
وإذا بهم يكتشفون أن رائحة المخدر الذى أخذته فرحة يفوق كل رائحة، وأن الجرعة التى أخذتها تكفى لتخدير شخصين لا شخص واحد، وعندها علت الصيحات فى العيادة بعد أن صمتت فرحة صمتها الأخير، صمتت فرحة المكان، وفرحة البلد، وفرحة الزمان والتى لم يمهلها دكتور الحلب أن ترى فرحتها فرح؟؟ وإذا بالطبيب يهدد الأسرة التى جن جنونها وأردوا تكسير العيادة له، فإذا به بكل وقاحة يقول هذا قضاء وقدرواأسالوا الله الصبر،وأحذروا أن تبلغوا الشرطة لأنهم هيطلبوا تشريح الجثة، (وحرام عليكم تبهدلوها بعد ما لقت وجه كريم؟).
أليس حرام عليه قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق؟ وهل فى هذا حق؟ وإذا بأهل فرح يكتمون الصراخ بداخلهم لتعلوا صرخة على صرخة ولكن بداخلهم، ويسلمون أمرهم لله ويأخذون الجثة للدفن دون أى عقاب للجانى ! فالكل يخاف أن يبلغ حتى لا يفتحوا القبر على هذه العروس التى زينت القبر.
وهذا حال عشرات بل مئات من الشعب الذى لا حيلة له ولا قوة له بمن يفتكون به تحت سلاح وسكين العلاج، لم تنهتى المأساة بعد! أقام أهل فرحه العزاء وهم فى حالة زهول ولايصدقون ما يحدث ،ومنهم من دخل المستشفى ليعالج من الهيستريا، فقد كانت فرحة بهجة القريه كلها والبيت والبلد والكلية، قبل إنتهاء المقرىء فى الصوان وإذا بالبوسطجى يأتى ليسأل عن فرحة فهم لا يدركون ما حدث فقد كان الخبر سريعا والدفن أسرع حتى لا تتعرض الجثه للتشريح، وإذا به يلقى بجواب لزوجها الذى يقرأ بصوت هستيرى حاد فى الصوان، لقد تم تعين فرحة بالمجلس المحلى بالقرية........ وهذه الوظيفة كانت تحلم بها فرحة طيلة الوقت! وأه ثم أه يا فرحة!
تعيين فرحة سيد أحمد بعد أن صدرت شهادة الوفاة؟؟ وآه والف آه يا بلد!
فقد ماتت فرحة شهيدة الإهمال والنظام الفاسد فى بلدنا، ولكن فرحة الشهيدة لم تكون من شهداء الميدان ليكتب عنها أو يتذكرها أحد! فقد كانت فرحة شهيدة دون أن يدون اسمها فى التاريخ!!!! وليست فرحة إلا واحدة من الآف مثلها راحوا ضحية الإهمال والنظام الفاسد والجهل، ولكن ذهبوا دون أن يذكرهم أحد، جاءوا منسيين ورحلوا منسيين! وكانوا هم أحسن من فينا وأحلى من أختارهم الله ليرحلوا عن عالمنا سريعا، لك الرحمة يا فرحة واستودعك الله فسيح جناته، ولن يفلت المجرم من ذنبه فهو يمهل ولا يهمل، إستريحى يا أم فرح وإن لم يكتب التاريخ اسمك، سيكتبك ويسجل اسمك كل من رأى إبتسامتك وكل من تعلم منك كيف تكون الإبتسامة وحلاوة الروح.
ولمتنهتى القصة بعد فمازالت الأسئله تترد ولا إجابات لها؟؟
من قتل فرحة؟ ولماذا؟ هل ذهبت فرحة لإمها التى كنست لها التربة ورشتها بالماء إستعدادا لإستقبالها ؟
هل تُصدق الأحلام عندما نرى الموتى؟ هلى عوقب من قتل فرحة؟ هل أخطا أهل فرحة بخوفهم على تشريح الجثة؟ هل أخطات فرحة لتتزوج مجرد خوف من تقاليد المجتمع؟ هل رسمت فرحة فيلتها لتسكنها على الورق فقط؟؟ أم إنها تتمتع بما هو أحلى ؟؟؟؟ لا أعرف بالله عليك إن كان لك أجوبة على اسئلتى فلتكتب تعليقاتك لعلها ترشدنى وتنور لى الطريق الذى أظلم بغياب فرحتنا؟
إن لله وإن إليه راجعون... وداع يا فرحة لم تدون فى تاريخ بلدى ولا حتى محاضر الشرطة تكريما لك يا وردة القرية.
التعليقات (0)