جاء في الآية 31 من سورة يوسف:"فلمّا سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ وأعتدت لهنّ مُتكأً وآتت كلّ واحدةٍ منهنّ سكِّيناً وقالت اخرج عليهنّ، فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهنّ، وقلن حاشَ لله ما هذا بشراً إنْ هذا إلا مَلكٌ كريم".
اللافت في الآية الكريمة أنّ امرأة العزيز أعطت كل واحدة من النساء سكِّيناً، وهذا يعني أنّ النساء يعرفن الهدف من توزيع السكاكين عليهنّ كلهنّ. أمّا القول بأنها قدّمت لهن فاكهة فهو غير مقبول من وجوه:
أ- لم تُذكر الفاكهة في الآيات الكريمة، وليس المقام هنا مقام تكريم للنساء اللاتي أسأن لسمعة زوجة العزيز واغتبنها.
ب- لو كان المقصود الفاكهة والإكرام لذكر القرآن الكريم ذلك بإشارة أوضح. وذِِكْرُ السكّين، التي هي أداةٌ تُقشّر بها الفاكهة وتستخدم في أغراض متنوّعة، ورد في سياق الحديث عن تجريح الأيدي ولم يرد في سياق الحديث عن كَرَم الضيافة، فَلِمَ التّزيُّد؟!
ج- العادة أن يتم وضع الفاكهة ومستلزماتها أمام الضيف، وليس هناك من عادة ولا مسوّغ لتوزيع السكاكين، وليس هناك من داع لتوزيع السكاكين على كل واحدة، بل يترك الأمر في العادة لتقدير الضيف وحاجته.
د- كانت النتيجة أن جَرّحت النساء أيديهنّ، وهذا يدلّ على أنّ توزيع السكاكين كان من أجل تحقيق مثل هذه النتيجة، وليس من أجل تقشير الفاكهة، فليس المقام مقام إكرام.
أمّا القول بأنّ تجريح الأيدي كان نتيجة الدهشة والذهول، وذلك عندما رأت النساء يوسف عليه السلام ، فهو مردود من وجوه:
1. لو كانت النساء منشغلات بأكل الفاكهة لكان ذهولهنّ واندهاشهنّ لجمال يوسف عليه السلام ، صارفاً لهنّ عن الاستمرار في الأكل والتقشير، فهذه طبيعة الإنسان؛ أنّه إذا انشدّ إلى شيء ذَهَل عن الأشياء الأخرى.
2. لو كانت النساء تأكل على إيقاعٍ موسيقيّ يقوده (مايسترو) لأمكن تصوّر أن يتم جرح أيدي النساء كلهنّ في وقت واحد، أمّا أن تُجرح كل يد بأكثر من جرحٍ في آنٍ واحد فغير مُتصوّر.
3. يفترض عند أوّل جرح أن يتم التنبّه، أمّا أن يكون هناك أكثر من جرح ثمّ لا يتم التنبّه، فهذا أمر غير متصوّر، بغض النظر عن درجة الاندهاش.
ومعلوم أنّ الاندهاش لا يكون عند النساء بدرجة واحدة. أمّا الدليل على حصول أكثر من جرح في كل يدٍ فقوله تعالى:" وقطّعن"، فهذه صيغة مبالغة وتكثير للفعل.
4. وجود السكّين مسبقاً دليل على أنّ التجريح مقصود ومتعمّد، وليس نتيجة ذهول واندهاش.
5. يقول يوسف عليه السلام ، لرسول الملك:"ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوةِ اللاتي قطّعن أيديهن؟"،فهذا يدل على أنّ يوسف عليه السلام ، يريد أن يرسل إلى الملك برسالة مختصرة تجعله يدرك حقيقة ما حصل قبل سنوات؛ فتجريح الأيدي لا بدّ أن تكون له دلالة يفهمها الملك، لذا نجد أنّ الملك، وبعد وصول الرسالة، يقول للنساء:"ما خطبكنّ إذ راودتن يوسف عن نفسه"،وهذا يشير إلى أنّ تقطيع الأيدي له دلالة عُرفيّة شائعة في ذلك الزمان. ولم يكن مجرد صدفة عجيبة.
فما سرّ تقطيع (تجريح) الأيدي؟!
لا نستطيع هنا أن نقدّم التصور الحقيقي للدافع الكامن وراء تجريح الأيدي، ولكن سنحاول أن نقدّم تفسيراً نراه أقرب إلى النص القرآني، وأقرب إلى العقل والواقع.
ترجع قصة يوسف عليه السلام ، إلى زمنٍ مغرق في القِدم، أي ما يقارب (3600) سنة، على أقل تقدير. وهذا يعني احتمال وجود عادات وتقاليد هي اليوم مندثرة، وعلى وجه الخصوص عندما نعلم أنّ الحكّام في عهد يوسف عليه السلام ، هم الملوك الرعاة الهكسوس، الذين هم من ملوك البدو. بل إنّ يوسف وإخوته قد عاشوا في مجتمعات بدويّة، بدليل قوله تعالى، على لسان يوسف عليه السلام ، مخاطباً أهله:"وقد أحسنَ بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو". وهذا يعني أنّ احتمال وجود العادات الغريبة، المجافية للتحضّر، هي أكبر.
العزيز صاحب أعلى منصب بعد الملك، ومجموعة من النساء تذكر زوجته بسوء، وهُنّ مقتنعات بأنّ هذه الزوجة ضالّة، وضلالها بيّن:"إنا لنراها في ضلال مبين". تقوم زوجة العزيز صاحبة النفوذ والسلطان باستدعاء النساء الطاعنات بها، وبسلوكها، لتقدّم لهنّ العذر المستدعي للاعتذار. ولا أدلَّ على عذرها ذلك من ردّة فعلهنّ عند رؤية يوسف عليه السلام .
النساء يعرفن عادات المجتمع وتقاليده، ويعرفن واجبهنّ تجاه المنصب الرفيع؛ فكلامهنّ في غيبتها جرحٌ معنوي لمقام رفيع، وهذه جُرأة لا بد من الاعتذار عنها بما يليق؛ فالجرح المعنوي لهذا المقام لا يغفره إلا جرح حسيّ. والاعتذار يكون في العادة أشدّ عندما تظهر البراءة. من هنا لم تكتف النساء بجرح واحد، بل كررن ذلك، لمزيد من الاعتراف والأسف. وعندما رأت زوجة العزيز ذلك سارعت إلى القول:"فذلِكُنّ الذي لُمتُنني فيه" .
إضافة إلى الاعتذار الحسيّ عن الجرح المعنوي يمكن أن يكون مثل هذا السلوك، عند تكراره، يدل أيضاً على رغبة في المشاركة. ومما يُعزّز مثل هذا الاحتمال:
1. قوله تعالى على لسان الملِك:"ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف".
2. قوله تعالى على لسان يوسف:"ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عنّي كيدهنّ...".
فالمراودة لم تعد مقتصرة على زوجة العزيز، بل حصل نوع من التواطؤ بين النسوة، وكأنه الحلف. وقد رأينا في بعض عادات البدو اليوم أنهم إذا أراد شخص أن يعاهد شخصاً على التعاون والوفاء يقوم كلّ منهما بجرح أصبعه، ثم يجعلان الدمّ على الدمّ، ليتم اختلاط الدماء، كرمز لقوة التحالف بين الشخصين. فإذا كان ذلك يحصل إلى اليوم، فكيف بنا لو رجعنا إلى ما قبل ستة وثلاثين قرناً؟!
وخلاصة الأمر أنّ الاحتمال الأقوى عندنا أن تكون النساء قد قدّمن الاعتذار بجرح الأيدي وإشهار ذلك أمام زوجة العزيز، ثم كرّرن الجرح ليُعلِنّ عن التعاطف والمشاركة. وإذا كان الإنسان المتحضّر اليوم يقبل بالاعتذار اللفظي عن الجرح المعنوي، فإن الإنسان القديم لم يكن ليرضى بأقل من الممارسة السلوكية المعبّرة عن الأسف الحقيقي. ولا ننسى أنّ المقامات العليا في نُظم الحُكم القديمة كانت تتلبّس بلباس القداسة، ولها منزلة مستمدّة من الدين، وهذا يجعل الاعتذار ممارسة فيها مثل هذه القساوة "
التعليقات (0)