وقائع مسجد الايبكي(قصة قصيرة)
على عمود روماني من الرخام الأبيض بجانب سور مسجد الأيبكي جلست عليه وأرخيت ظهري كله فتظهر أمامي مساحات واسعة من الفضاء ، خرج أبي في ذلك الصباح الباكر وأخذ يستنشق الهواء القادم من جهة البحر وكانت وجهته الأرض المتبقية لنا بعد نكبة عام 48 والقريبة جدا من خط الرابع من حزيران ،خط الهدنة والأسلاك الشائكة والنباتات القزمية التي حفرت لها جذور عميقة في التربة رغم قسوة الغزاة ، اعتلى أبي ظهر الحصان أمام بيتنا الكبير الواسع وشجرة الزيتون الكبيرة غير بعيدة عنه ،أتذكر الآن وجهه العريض بعد هذه السنين وجسده الممشوق الضخم ويديه الخشنتين وهما ممسكتان بلجام الحصان وابتسامته العريضة وهو يمد لي ذراعه ويقول بصوت عال : تعال . إركب ... فأركض باتجاهه فيجذبني بقوة نحوه حيث أكون قادرا على الجلوس ملتصقا به على ظهر الحصان فأقول له : أنا أريد أن أذهب معك .. أريد يا أبي أن أرى الأرض والحصا دين ولكنه يقول دونما حماس : ولكنها بعيدة والسير إليها محفوف بالمخاطر ثم يسير بي بمحاذاة سياج أحد الحقول القريبة من البيت فوق طريق ترابية مريحة لحافر الحصان ويتطلع إلي ليعرف مدى سروري فأقول له وأنا أحدق في وجهه الممتلئ الذي يزينه شارب كث عريض : أنا مبسوط .. لا أريد أن أنزل من فوق ظهر الحصان ... لكنه بحركة سريعة يعيدني مرة أخرى إلى ذلك السور الذي اعتدت أن أقف عليه تاركا لأشعة شمس الصباح الدافئة تغمر جسدي النحيل ليذهب بعدها وحده إلى الأرض
تأتي اللحظة التي تفصح الشمس عن غيابها عبر ظهور الشفق الأحمر فيغمر اللون الأرجواني غمامات المساء المنفلتة التي أطلت من جهة البحر فيما تدفعها الرياح الباردة إلى جهة الشرق حيث صحراء النقب المنبسطة حتى جبال الخليل .. جاء ذلك المساء وكان كئيبا ومملا حيث تأخر رجوع أبي من الأرض وكان كل مرة يعود فيها من هناك تقنعه أكثر فأكثر إنه ما عاد باستطاعته أن ينقطع عنها رغم مشاهدته في كل مرة للجنود الإسرائيليين وهم يمرون بمحاذاة الأسلاك الشائكة ببنادقهم ويطلقون بين الفينة والأخرى رصاصات تحذير توحي بأنهم موجودون قرب خط الهدنة وذلك خوفا من الفدائيين الذين كانوا في تلك الأيام يخترقون حدود القطاع ويهاجمون المستعمرات القريبة .. كل مرة يذهب بها أبي إلى قطعة الأرض تلك كانت تكلفنا الكثير من القلق والخوف .. بجانب سور مسجد الأيبكي وقفت أنتظر وصول أبي ـ نظراتي كانت موزعة بين الشارع الطويل وباب المسجد ، أراقب الرجال الذين سيأتون بعد قليل للصلاة وكان الحاج عبد الهادي أول القادمين ، أطالع وجهه النحيل وطربوشه ، أراه يصعد الدرج الصغير المؤدي إلى المئذنة ثم يرفع آذان المغرب ، يدير رأسه في الجهات الأربع ويطلق صوته الناعم الرخيم الذي يحمله الريح ليعانق رؤوس الأشجار التي هزتها أجنحة العصافير العائدة إلى أعشاشها ، يتقاطر رجال الحي إلى المسجد وراء بعضهم البعض ، أراقب خطواتهم وأنظر إلى وجوههم الذابلة فأتذكر أبي وحصانه الذي لم يعد بعد .. أيام وشهور و أعوام طويلة قضاها أبي في صحبة الأرض و الدواب و رفيق دربة الحصان الذي يعتلي ظهره ذهاباً و إياباً .. يقول الحاج حسن الذي خرج أول المصلين : أتنتظر والدك ؟ فأرد عليه و أنا أنظر إلى الشارع المقابل الذي بدأ يلفه الظلام : أجل فأنا لا أنتظر أحداً سواه .. و عندما لا أرى وجه أبي و لا أرى حصانه تجتاحني الكآبة و أحس بالقلق فيقول لي الحاج حسن الذي ابتعد عني مقدار خطوتين أو ثلاث : لا تقف كثيرا بجانب السور حتى لا تتورم قدماك .. يتوالى خروج المصلين من المسجد و يمتلأ المكان بالضجة فيحمل الزهري عكازه و يلاحق مجموعة من الأطفال و يجبرهم على الابتعاد من باب دكانه .. دكان الزهري القريبة من باب المسجد تتحول في الليل إلى ملجأ للقوارض , دكان صغيرة مبنية من الطوب , في لحظات الخوف كان يلجأ إليها الفدائيون الذين كانت تطاردهم القوات الإسرائيلية حين احتلت قطاع غزة عام 56 , يختفون بداخلها في الليل بعد أن يطبق الصمت المكان و تنعدم فيه الحركة , يشد من عزيمتهم الزهري نفسه الذي كان يرفض الانصياع للتهديدات و زوجته زهرية التي كانت تفتح لهم باب الدكان ليلا وفي يدها صرة كبيرة من الخبز
في موسم الصيف يكثر الغبار والذباب والصراصير ،يأتي الحر لاهثا فتتراخى أجسادنا الطرية على ذلك العمود الروماني الأبيض الملقى بجانب سور المسجد .. أما الزهري الذي يجر ساقيه فيهجر دكانه الصغيرة التي لا يزيد عمقها عن ثلاثة أمتار ويتمدد تحت العريشة التي أقامها من سعف النخيل أمام الدكان مرسلا زفراته الحارة جهة السماء .. أما أبي فقد كان هو الآخر يهجر مضجعه وينام في الفسحة الترابية وسط البيت بالعراء .. أنسل إلى البيت في آخر الليل مستمتعا بالعتمة التي تلف المكان حيث أخلد الجميع للنوم ، لحظتها لا أرى إلا حصان أبي واقفا في صمت فأخشى أن أقترب منه حتى لا يحرك قدميه فيوقظ أبي من نومه العميق ..
كنت ما زلت مستندا إلى سور مسجد الأيبكي .. أواظب النظر إلى الشارع المقابل أنتظر قدوم حصان أبي ، سحب الدخان الأسود تنبعث من بعض البيوت الطينية الواطئة ، كان غياب الشمس إيذانا بإعداد وجبة العشاء ، ظلت دكان الزهري هدفا يسهل على أولاد الحي الوصول إليه والتحليق حوله وكان على ذياب ابن الزهري أن يأتي بعد صلاة المغرب إلى الدكان ليديرها بدلا عن أبيه وعندما رأيت في تلك اللحظة أبي قادما على ظهر حمار تتدلى رجلاه الطويلتان في الهواء تملكني الفزع وأخذت من هول الصدمة أبكي ، كان الحاج عبد الهادي مؤذن المسجد قد هل َ مرة أخرى بطلعته المعهودة ، أخذ يستفسر عن الحصان وهو يقترب جهة باب المسجد فقال له أبي وخيطا دموع يسيلان برفق على وجنتيه : لقد فر الحصان شرقا دون أن أحس به .. لا بد أنه عاد إلى موطنه الأصلي في النقب حيث اشتريته قبل النكبة من هناك .. وعندها قال الحاج عبد الهادي متنهدا : من يعرف أنه سيصل إلى صاحبه الأول سالما أم سيخطفه اليهود في المستعمرات القريبة أو يقتلوه ثم دوى بعد ذلك صوته من المئذنة لصلاة العشاء ولولا قدوم أبي في ذلك الوقت لكنت بقيت واقفا بجانب سور المسجد حتى منتصف الليل .. وهكذا أحسست بالراحة رغم ذلك لأنه أخيرا جاء أبي سالما ولكن ما أن عرف الناس في الحي بأن أبي عاد من الأرض راكبا على ظهر حمار حتى تقاطر الناس إلى البيت ينتظر كل واحد منهم فنجان القهوة في انتظاره ولم يكن رد فعل عطية بأقل من رد فعل رجال الحي فقد جاء مسرعا إلى البيت وسأل أبي وهو يحدق في الفراغ وكأنه يريد رؤية شيئا بعيدا يحلق في الفضاء عن الحصان الذي خرج معه ولم يعد .. لكن لحظة يسودها الصمت وقبل أن يجيب أبي عن سؤاله نهض من مقعده وهو يصيح ويده ممدودة قائلا وقد ارتسمت على وجهه فرحة الأطفال : إني أراه أمامي يكر حرا طليقا في الصحراء بكل ما أوتي من قوة .. لم يعتل أحد من اليهود ظهره .. عند ذلك تقبل أبي كلماته بالابتسام وأحس براحة عميقة فهو يعرف مثل أهل الحي بأن عطية رجل مبارك على باب الله .. في الأيام الأولى لقدومه للحي كان طفلا صغيرا جيء به إلى الحي بعد أن مات أبواه ، كبر عند عمته أم صبري اليافاوية الفتاحة وكان يجلس بجانب قدميها التي ترخيهما على الأرض وهي تقرأ الفنجان وكان أبو صبري أيضا أكثر اهتماما به ولكنه كان في بعض المرات يصرخ في وجهه حين تغضبه بعض أفعاله التي تنغص عليه تواصله مع حلقة الذكر التي كان يقيمها في بيته كل ليلة جمعة بعد صلاة العشاء على الطريقة الرفاعية .
وعاما بعد عام يكبر عطية ، لقد أضحى مألوفا لأهل الحي فهو كسور مسجد الأيبكي يقف دائما ليطل على الشوارع المحيطة والأزقة الضيقة فيرى الناس في تدفقهم ، ولم يعرف مكانا يستطيع الوقوف عنده سوى ذلك المكان الذي يحبه بحق ، عيناه اللامعتان على النعش القادم إلى المسجد ، هناك بين شواهد القبور البيضاء الرخامية الكبيرة اعتاد الناس أن يروا وجهه الممدود تحت وهج الشمس .. أما لأنه سوف يعود بعد صلاة العشاء إلى غرفته البائسة المجاورة للمسجد فهو سيرى تشقق جدرانها المشبعة برائحة الرطوبة والبخور وكذلك الكاز وسيقف للحظات أمام خزانة عمته أم صبري التي تركتها بعد الموت وسيتذكر مكانها في الزاوية التي اعتادت أن تجلس بها مع غيرها من النسوة وبينهن فنجان القهوة التي تعرف ما بداخله جيدا .. .
في ليلة مظلمة باردة وأنا أجلس في تلك الغرفة الضيقة أطالع وجه عطية الممدود باتجاه وابور الكاز الذي كان يشعله ليلا ليشيع في المكان الدفء وكان ذلك الوجه الأسمر الطفو لي متعبا مضطربا كالبحر سحب ذراعي أحد أولاد الحي وسألني إن كنت أريد أن أتمشى في شوارع المدينة فأجبته وأنا أحرك نظراتي في قلق بأن أبي لا يسمح لي بأن أتأخر طويلا في الليل لكنه راح يدفعني فنسرع في خطواتنا وعندما عدنا كانت الشوارع خالية تماما من المارة .. أغلقت الدكاكين والمقاهي التي كانت أضواؤها تشع في السماء ، بيوت الحي ودكان الزهري تظهر بكامل سكونها أمام مسجد الأيبكي فأرى مئذنته في ظلام الليل كأبهى ما تكون في وضح النهار ... أمضي في الزقاق الضيق المعتم متجها إلى البيت وكنت على معرفة عميقة بأن حصان أبي لم يعد إلى البيت ، لقد ذهب مع الريح وعاد إلى موطنه الأصلي ولكن كلما خطوت خطوة كنت أتخيل بأن ذلك الحصان الأشهب الجميل يقف أمام البيت ينتظر أبي في الصباح الباكر ليعتلي صهوته وبأن رأسه يرتفع عاليا جهة السماء وبأن نظراته تسبح في كل اتجاه وبأن صهيله تسمعه المدينة كلها وكأنه بذلك يسأل عن أبي الذي رافقه سنوات طويلة : أيستطيع أن يفعل مثله فيعود إلى موطنه الأصلي ؟ أم أن قدمه قد ارتخت بفعل ثقل السنين فارتضى بما تبقى له من الأرض الصغيرة التي تحيطها الحواجز والأسلاك ؟ تختفي الحياة في تلك اللحظة من الليل وتحضر الذاكرة على هيئة حكايا مليئة بالغرائب والخرافات فأرى جدران البيوت الطينية الواطئة ترتفع في عيني أكثر فأكثر ، عندما يخلد الجميع للنوم كان الشيخ أيوب ينهض من فراشه قبل أن تهب رياح الفجر الباردة فيحمل عصاه الحمراء الطويلة ، يهزها في يده ثم يخرج من غرفته المليئة بالطبول والرايات مختلفة الألوان والأحجام يدور في سواد الليل ويقف على أبواب مغلقة اختنق ضوئها بعد أن انفضت سهرات أصحابها فيتجه إلى مقبرة أم مروان القريبة من الحي وهو يصيح بصوت عال : الله حي .. مدد .. مدد ... وكان عطية قد حفر قبل أيام من ذلك ثلاثة قبور لأطفال مزق أجسادهم الطرية لغم كبير زرعه اليهود قرب خط الهدنة ، خط الرابع من حزيران وبعد أن تم مواراتهم التراب نظف عطية المكان جيدا من النباتات الشوكية ورش الماء على نبتة النرجس القريبة ... سألت الشيخ أيوب في تلك اللحظة وأنا أشق الطريق إلى البيت في الزقاق الضيق المعتم المليء بأعشاش العصافير : ما بك ؟ فقال لي وقد غالبته الدموع : لقد مسني الضر والغم منذ سنين ثم ابتعد عني مقدار خطوتين وتابع بحزن واضح : أتظن بأنني أستطيع أن أنام دون أن أفعل ذلك ؟وتمضي لحظة صمت توحي بأنه سوف يعود إلى غرفته الضيقة البائسة للنوم غير أن صوته سرعان ما ينطلق في أعماق الليل بأقوى مما قبل.
على عمود روماني من الرخام الأبيض بجانب سور مسجد الأيبكي جلست عليه وأرخيت ظهري كله فتظهر أمامي مساحات واسعة من الفضاء ، خرج أبي في ذلك الصباح الباكر وأخذ يستنشق الهواء القادم من جهة البحر وكانت وجهته الأرض المتبقية لنا بعد نكبة عام 48 والقريبة جدا من خط الرابع من حزيران ،خط الهدنة والأسلاك الشائكة والنباتات القزمية التي حفرت لها جذور عميقة في التربة رغم قسوة الغزاة ، اعتلى أبي ظهر الحصان أمام بيتنا الكبير الواسع وشجرة الزيتون الكبيرة غير بعيدة عنه ،أتذكر الآن وجهه العريض بعد هذه السنين وجسده الممشوق الضخم ويديه الخشنتين وهما ممسكتان بلجام الحصان وابتسامته العريضة وهو يمد لي ذراعه ويقول بصوت عال : تعال . إركب ... فأركض باتجاهه فيجذبني بقوة نحوه حيث أكون قادرا على الجلوس ملتصقا به على ظهر الحصان فأقول له : أنا أريد أن أذهب معك .. أريد يا أبي أن أرى الأرض والحصا دين ولكنه يقول دونما حماس : ولكنها بعيدة والسير إليها محفوف بالمخاطر ثم يسير بي بمحاذاة سياج أحد الحقول القريبة من البيت فوق طريق ترابية مريحة لحافر الحصان ويتطلع إلي ليعرف مدى سروري فأقول له وأنا أحدق في وجهه الممتلئ الذي يزينه شارب كث عريض : أنا مبسوط .. لا أريد أن أنزل من فوق ظهر الحصان ... لكنه بحركة سريعة يعيدني مرة أخرى إلى ذلك السور الذي اعتدت أن أقف عليه تاركا لأشعة شمس الصباح الدافئة تغمر جسدي النحيل ليذهب بعدها وحده إلى الأرض
تأتي اللحظة التي تفصح الشمس عن غيابها عبر ظهور الشفق الأحمر فيغمر اللون الأرجواني غمامات المساء المنفلتة التي أطلت من جهة البحر فيما تدفعها الرياح الباردة إلى جهة الشرق حيث صحراء النقب المنبسطة حتى جبال الخليل .. جاء ذلك المساء وكان كئيبا ومملا حيث تأخر رجوع أبي من الأرض وكان كل مرة يعود فيها من هناك تقنعه أكثر فأكثر إنه ما عاد باستطاعته أن ينقطع عنها رغم مشاهدته في كل مرة للجنود الإسرائيليين وهم يمرون بمحاذاة الأسلاك الشائكة ببنادقهم ويطلقون بين الفينة والأخرى رصاصات تحذير توحي بأنهم موجودون قرب خط الهدنة وذلك خوفا من الفدائيين الذين كانوا في تلك الأيام يخترقون حدود القطاع ويهاجمون المستعمرات القريبة .. كل مرة يذهب بها أبي إلى قطعة الأرض تلك كانت تكلفنا الكثير من القلق والخوف .. بجانب سور مسجد الأيبكي وقفت أنتظر وصول أبي ـ نظراتي كانت موزعة بين الشارع الطويل وباب المسجد ، أراقب الرجال الذين سيأتون بعد قليل للصلاة وكان الحاج عبد الهادي أول القادمين ، أطالع وجهه النحيل وطربوشه ، أراه يصعد الدرج الصغير المؤدي إلى المئذنة ثم يرفع آذان المغرب ، يدير رأسه في الجهات الأربع ويطلق صوته الناعم الرخيم الذي يحمله الريح ليعانق رؤوس الأشجار التي هزتها أجنحة العصافير العائدة إلى أعشاشها ، يتقاطر رجال الحي إلى المسجد وراء بعضهم البعض ، أراقب خطواتهم وأنظر إلى وجوههم الذابلة فأتذكر أبي وحصانه الذي لم يعد بعد .. أيام وشهور و أعوام طويلة قضاها أبي في صحبة الأرض و الدواب و رفيق دربة الحصان الذي يعتلي ظهره ذهاباً و إياباً .. يقول الحاج حسن الذي خرج أول المصلين : أتنتظر والدك ؟ فأرد عليه و أنا أنظر إلى الشارع المقابل الذي بدأ يلفه الظلام : أجل فأنا لا أنتظر أحداً سواه .. و عندما لا أرى وجه أبي و لا أرى حصانه تجتاحني الكآبة و أحس بالقلق فيقول لي الحاج حسن الذي ابتعد عني مقدار خطوتين أو ثلاث : لا تقف كثيرا بجانب السور حتى لا تتورم قدماك .. يتوالى خروج المصلين من المسجد و يمتلأ المكان بالضجة فيحمل الزهري عكازه و يلاحق مجموعة من الأطفال و يجبرهم على الابتعاد من باب دكانه .. دكان الزهري القريبة من باب المسجد تتحول في الليل إلى ملجأ للقوارض , دكان صغيرة مبنية من الطوب , في لحظات الخوف كان يلجأ إليها الفدائيون الذين كانت تطاردهم القوات الإسرائيلية حين احتلت قطاع غزة عام 56 , يختفون بداخلها في الليل بعد أن يطبق الصمت المكان و تنعدم فيه الحركة , يشد من عزيمتهم الزهري نفسه الذي كان يرفض الانصياع للتهديدات و زوجته زهرية التي كانت تفتح لهم باب الدكان ليلا وفي يدها صرة كبيرة من الخبز
في موسم الصيف يكثر الغبار والذباب والصراصير ،يأتي الحر لاهثا فتتراخى أجسادنا الطرية على ذلك العمود الروماني الأبيض الملقى بجانب سور المسجد .. أما الزهري الذي يجر ساقيه فيهجر دكانه الصغيرة التي لا يزيد عمقها عن ثلاثة أمتار ويتمدد تحت العريشة التي أقامها من سعف النخيل أمام الدكان مرسلا زفراته الحارة جهة السماء .. أما أبي فقد كان هو الآخر يهجر مضجعه وينام في الفسحة الترابية وسط البيت بالعراء .. أنسل إلى البيت في آخر الليل مستمتعا بالعتمة التي تلف المكان حيث أخلد الجميع للنوم ، لحظتها لا أرى إلا حصان أبي واقفا في صمت فأخشى أن أقترب منه حتى لا يحرك قدميه فيوقظ أبي من نومه العميق ..
كنت ما زلت مستندا إلى سور مسجد الأيبكي .. أواظب النظر إلى الشارع المقابل أنتظر قدوم حصان أبي ، سحب الدخان الأسود تنبعث من بعض البيوت الطينية الواطئة ، كان غياب الشمس إيذانا بإعداد وجبة العشاء ، ظلت دكان الزهري هدفا يسهل على أولاد الحي الوصول إليه والتحليق حوله وكان على ذياب ابن الزهري أن يأتي بعد صلاة المغرب إلى الدكان ليديرها بدلا عن أبيه وعندما رأيت في تلك اللحظة أبي قادما على ظهر حمار تتدلى رجلاه الطويلتان في الهواء تملكني الفزع وأخذت من هول الصدمة أبكي ، كان الحاج عبد الهادي مؤذن المسجد قد هل َ مرة أخرى بطلعته المعهودة ، أخذ يستفسر عن الحصان وهو يقترب جهة باب المسجد فقال له أبي وخيطا دموع يسيلان برفق على وجنتيه : لقد فر الحصان شرقا دون أن أحس به .. لا بد أنه عاد إلى موطنه الأصلي في النقب حيث اشتريته قبل النكبة من هناك .. وعندها قال الحاج عبد الهادي متنهدا : من يعرف أنه سيصل إلى صاحبه الأول سالما أم سيخطفه اليهود في المستعمرات القريبة أو يقتلوه ثم دوى بعد ذلك صوته من المئذنة لصلاة العشاء ولولا قدوم أبي في ذلك الوقت لكنت بقيت واقفا بجانب سور المسجد حتى منتصف الليل .. وهكذا أحسست بالراحة رغم ذلك لأنه أخيرا جاء أبي سالما ولكن ما أن عرف الناس في الحي بأن أبي عاد من الأرض راكبا على ظهر حمار حتى تقاطر الناس إلى البيت ينتظر كل واحد منهم فنجان القهوة في انتظاره ولم يكن رد فعل عطية بأقل من رد فعل رجال الحي فقد جاء مسرعا إلى البيت وسأل أبي وهو يحدق في الفراغ وكأنه يريد رؤية شيئا بعيدا يحلق في الفضاء عن الحصان الذي خرج معه ولم يعد .. لكن لحظة يسودها الصمت وقبل أن يجيب أبي عن سؤاله نهض من مقعده وهو يصيح ويده ممدودة قائلا وقد ارتسمت على وجهه فرحة الأطفال : إني أراه أمامي يكر حرا طليقا في الصحراء بكل ما أوتي من قوة .. لم يعتل أحد من اليهود ظهره .. عند ذلك تقبل أبي كلماته بالابتسام وأحس براحة عميقة فهو يعرف مثل أهل الحي بأن عطية رجل مبارك على باب الله .. في الأيام الأولى لقدومه للحي كان طفلا صغيرا جيء به إلى الحي بعد أن مات أبواه ، كبر عند عمته أم صبري اليافاوية الفتاحة وكان يجلس بجانب قدميها التي ترخيهما على الأرض وهي تقرأ الفنجان وكان أبو صبري أيضا أكثر اهتماما به ولكنه كان في بعض المرات يصرخ في وجهه حين تغضبه بعض أفعاله التي تنغص عليه تواصله مع حلقة الذكر التي كان يقيمها في بيته كل ليلة جمعة بعد صلاة العشاء على الطريقة الرفاعية .
وعاما بعد عام يكبر عطية ، لقد أضحى مألوفا لأهل الحي فهو كسور مسجد الأيبكي يقف دائما ليطل على الشوارع المحيطة والأزقة الضيقة فيرى الناس في تدفقهم ، ولم يعرف مكانا يستطيع الوقوف عنده سوى ذلك المكان الذي يحبه بحق ، عيناه اللامعتان على النعش القادم إلى المسجد ، هناك بين شواهد القبور البيضاء الرخامية الكبيرة اعتاد الناس أن يروا وجهه الممدود تحت وهج الشمس .. أما لأنه سوف يعود بعد صلاة العشاء إلى غرفته البائسة المجاورة للمسجد فهو سيرى تشقق جدرانها المشبعة برائحة الرطوبة والبخور وكذلك الكاز وسيقف للحظات أمام خزانة عمته أم صبري التي تركتها بعد الموت وسيتذكر مكانها في الزاوية التي اعتادت أن تجلس بها مع غيرها من النسوة وبينهن فنجان القهوة التي تعرف ما بداخله جيدا .. .
في ليلة مظلمة باردة وأنا أجلس في تلك الغرفة الضيقة أطالع وجه عطية الممدود باتجاه وابور الكاز الذي كان يشعله ليلا ليشيع في المكان الدفء وكان ذلك الوجه الأسمر الطفو لي متعبا مضطربا كالبحر سحب ذراعي أحد أولاد الحي وسألني إن كنت أريد أن أتمشى في شوارع المدينة فأجبته وأنا أحرك نظراتي في قلق بأن أبي لا يسمح لي بأن أتأخر طويلا في الليل لكنه راح يدفعني فنسرع في خطواتنا وعندما عدنا كانت الشوارع خالية تماما من المارة .. أغلقت الدكاكين والمقاهي التي كانت أضواؤها تشع في السماء ، بيوت الحي ودكان الزهري تظهر بكامل سكونها أمام مسجد الأيبكي فأرى مئذنته في ظلام الليل كأبهى ما تكون في وضح النهار ... أمضي في الزقاق الضيق المعتم متجها إلى البيت وكنت على معرفة عميقة بأن حصان أبي لم يعد إلى البيت ، لقد ذهب مع الريح وعاد إلى موطنه الأصلي ولكن كلما خطوت خطوة كنت أتخيل بأن ذلك الحصان الأشهب الجميل يقف أمام البيت ينتظر أبي في الصباح الباكر ليعتلي صهوته وبأن رأسه يرتفع عاليا جهة السماء وبأن نظراته تسبح في كل اتجاه وبأن صهيله تسمعه المدينة كلها وكأنه بذلك يسأل عن أبي الذي رافقه سنوات طويلة : أيستطيع أن يفعل مثله فيعود إلى موطنه الأصلي ؟ أم أن قدمه قد ارتخت بفعل ثقل السنين فارتضى بما تبقى له من الأرض الصغيرة التي تحيطها الحواجز والأسلاك ؟ تختفي الحياة في تلك اللحظة من الليل وتحضر الذاكرة على هيئة حكايا مليئة بالغرائب والخرافات فأرى جدران البيوت الطينية الواطئة ترتفع في عيني أكثر فأكثر ، عندما يخلد الجميع للنوم كان الشيخ أيوب ينهض من فراشه قبل أن تهب رياح الفجر الباردة فيحمل عصاه الحمراء الطويلة ، يهزها في يده ثم يخرج من غرفته المليئة بالطبول والرايات مختلفة الألوان والأحجام يدور في سواد الليل ويقف على أبواب مغلقة اختنق ضوئها بعد أن انفضت سهرات أصحابها فيتجه إلى مقبرة أم مروان القريبة من الحي وهو يصيح بصوت عال : الله حي .. مدد .. مدد ... وكان عطية قد حفر قبل أيام من ذلك ثلاثة قبور لأطفال مزق أجسادهم الطرية لغم كبير زرعه اليهود قرب خط الهدنة ، خط الرابع من حزيران وبعد أن تم مواراتهم التراب نظف عطية المكان جيدا من النباتات الشوكية ورش الماء على نبتة النرجس القريبة ... سألت الشيخ أيوب في تلك اللحظة وأنا أشق الطريق إلى البيت في الزقاق الضيق المعتم المليء بأعشاش العصافير : ما بك ؟ فقال لي وقد غالبته الدموع : لقد مسني الضر والغم منذ سنين ثم ابتعد عني مقدار خطوتين وتابع بحزن واضح : أتظن بأنني أستطيع أن أنام دون أن أفعل ذلك ؟وتمضي لحظة صمت توحي بأنه سوف يعود إلى غرفته الضيقة البائسة للنوم غير أن صوته سرعان ما ينطلق في أعماق الليل بأقوى مما قبل.
مواضيع اليوم
التعليقات (0)