Oslo 22.11. 2004
لم أكن بحاجة لانتظار حلم أو تخيل أو تصور وهمي أو اغفاءة بعد طعام الغداء لكي أشاهد تفصيليا وقائع المحاكمة الرابعة لزعيم عربي ملهم، فقد تبرع قلمي بتصوير المشهد كأنه كان حاضرا منذ اللحظة الأولى في ليلة القبض على الرئيس!
قاعة المحكمة كانت مكتظةً بصحفيين عرب وأجانب، ورجالُ الأمن يتحركون بعصبية كأنهم يخشون أن يقفز الرئيس زين العابدي بن علي من قفص الاتهام إلى منصة الحكم ليُصْدر حكما باعدام كل من تجرأ وشاهده خانعا ذليلا خلف قفص حديدي ينتظر عدالة غابت سنوات طويلة فحَرّكَتها إرادةُ الشعب، وتنفست روحُ أبي القاسم الشابي الواثقة بأن الشعبَ إذا أراد الحياةَ فلابد أن يستجيب القدر.
كان المتهمُ يختلس النظر بين الحين والآخر لعله يعثر بين الحاضرين على مُنقذ أو شاهد زور أو خائف يخشى أن يعود الرئيس إلى القصر وتسعفه ذاكرته بتَذَكُر وجوه كل الحاضرين .. الشامتين بانتهاء عهده.
دخل القاضي مرفوع الرأس وتبدو على محياه علائم غضب لم تخفها ملامحه العربية المشوبة بحمرة وجه تغطي الرأسَ فيه شعيراتٌ شقراءٌ فلا يدري المرءُ إن كان تونسيا قحا أم هو نصف فرنسي.
علائم الغضب انعكست بدورها على مستشاريه اللذين تقدما إلى المنصة بنفس خطوات رئيس المحكمة.
يحاول المتهم أن يتأمل ملامحهم لعله يستبق المداولة بتمنيات حُكم بالبراءة، لكن يبدو أن شريطا طويلا من جرائم عهد أغبر جعلته يتراجع عن التفرس في وجوه هيئة المحكمة.
كانت تونس كلها تتنفس داخل القاعة، والتاريخ يُشَمّر عن ساعديه لكتابة صفحة ستتذكرها أجيالٌ قادمة، ويحكيها آباءٌ لأبناءٍ وأحفادٍ كأنهم جميعا اشتركوا في محاكمة الطاغية.
بصوت جَهُوري مفاجيء أعلى مما أحدثته مطرقةُ رئيس المحكمة،
سأل القاضي: اسمُك وتاريخُ ميلادِك وصِفَتُك؟
المتهم: زين العابدين بن علي من مواليد 3 سبتمبر 1936 في حمام سوسة، وأنا رئيس الجمهورية!
القاضي: لقد فهمنا أن شيطان بغداد يقول نفس الكلام وهو الذي انتهى به طغيانه وجبروته إلي جحر للجرذان، ثم قاعة محكمة في حراسة سيد البيت الأبيض، فهو يريد أن يتماسك أمام قوى الاحتلال، أما أنت فقد كنت مستبدا وأزاحك عن الحكم تونسيون وطنيون لا تساندهم واشنطون ولا تحميهم أسلحة اليانكي وأحذية الجنود الأمريكيين.
القاضي: متى وكيف تَسلّمت الحُكمَ؟
المتهم: بعد عودتي من الولايات المتحدة الأمريكية، وتَدَّرُبي على أيدي أجهزة أمنها واستخباراتها، وثقة الأمريكيين بي كرجل المرحلة المقبلة خاصة أنني كنت مسؤولا عن ملف حركة النهضة الإسلامية التي يتزعهما راشد الغنوشي، قام الرئيس بورقيبة بتعييني وزيرا للداخلية تأكيدا منه على أهمية الضرب بيد من حديد ضد المناهضين لحكمه. ثم وجدت، سيدي القاضي، أن الرجل العجوز الذي لا تُمَكِنُه صحته من القيام بأي واجبات فكرية أو جسدية يُصِرّ على أنه رئيسٌ مدى الحياة ويقتل حُلمَ كل الطموحين وأنا منهم، فأنقلبت عليه، ونقلته إلى مقر إقامة جبرية.
القاضي: لكنك كنت جزءا من النظام، وتوليّت منصبَ مدير عام الأمن الوطني وهو منصب خَوّلَك لأن تصبح عمليا وزيرا للداخلية بحكم عدم قدرة الوزير آنئذ ضاوي حنا بلية على القيام بأعباء حماية الأمن الداخلي.
واستدعاك بورقيبة مرة ثانية بعدما قضيت أربع سنوات سفيرا لتونس لدى بولندا لتتولى الأمن الوطني على إثر ثورة الخبز التونسية والتي أتت بعد سبع سنوات من ثورة الخبز المصرية ، أليس كذلك؟
المتهم: كان من الطبيعي أن أثب على الحكم بعدما ضعف الرئيس مدى الحياة، وتكونت شللية حوله بقيادة المرأة الأقوى في تونس .. السيدة وسيلة بن عمار، وأنا خريج مدرسة الاستخبارات الأمريكية وأعرف تماما أن حماية غربية تتولى مهمة اسنادي ، وأن أمريكا كانت تدفعني لكي تحل محل فرنسا في تونس الخضراء.
القاضي: قَدّمت غداة استيلائك على السلطة برنامجا طموحا عن الديمقراطية والحرية والمساواة والأحزاب والنقابات، وخدعت الجميع حتى راشد الغنوشي نفسه ثم انقلبت عليهم مرة أخرى لتُحوّل هذا البلد الطيب إلى سجن. ألم تفكر في رفع المعاناة عن شعبك الذي عانى كثيرا من طغيان واستبداد الحبيب بورقيبة؟
المتهم: لقد حاولت، سيدي القاضي، أن ألعب دور الديمقراطي الغربي العاشق للحرية، لكنني لم أتقن الدور جيدا، فالمستبد الغليظ كان داخلي، وصراخ الموجوعين في السجون والمعتقلات كان يمنحني متعة اذلال الآخرين، فعملي كان كله تقريبا باستثناء سنوات الدبلوماسية في المغرب وبولندا مزيجا من السادية والتسلق على كتف النظام والتزلف للغرب.
لم يكن من الممكن أن احتفظ بالسلطة المطلقة دون زنازين تحت الأرض تسمع السماواتُ العلا صراخَ مَنْ فيها، وفعلا تحوّل التونسيون في وقت وجيز إلى عبيد تحت حذائي، أفعل بهم ما أشاء، ويمنحونني طاعة واستجداء وخنوعا كأنهم رقيق جلبتهم لي سفن تجوب أعالي البحار وعلى متنها هذا الصيد الثمين.
القاضي: نظامك معروف بأنه الأكثر مراقبة للتونسيين في الخارج، ولدى أجهزة استخباراتك أسماء كل المغتربين والمعلومات اللازمة عنهم ونشاطاتهم وهو أرشيف عفن لا يعادله إلا الملفات التي تحتفظ بها الاستخبارات الأردنية لنشاطات العرب والأردنيين في الداخل والخارج وهي ملفات لا تموت ولا تتلف ولا تتعرض لحريق، مصادفة، لماذا ضاعفت مراقبة مواطنيك في الخارج؟
المتهم: لأن التونسيين لديهم وعي سياسي كبير فإذا تنفس التونسي عبيق الحرية في مظاهرة في باريس أو تولوز أو بروكسل أو لوزان فإن مناهضته للاستبداد تتجه فورا لنظام الحكم في بلده، وهذا ما عاناه الحبيب بورقيبة منهم فقررت أن استبق التمرد بملفات المترقب وصولهم إلى كل منافذ الوطن حتى لو اصطحبهم العقيد القذافي معه إلى قفصة!
القاضي: لقد قمت باستغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأمريكية لتثبيت دعائم حُكمك بحجة محاربة الإرهاب، ألم يكن يكفيك أنك قمت بتحويل تونس إلى سجن كبير؟
المتهم: نعم، سيدي القاضي، فقد جعلت من المادة 123 من قانون القضاء العسكري غطاء للقبضة النارية التي أحْرِق بها خصومي، وتعتمد المادة على تهمة ( خدمة تنظيمات ارهابية تعمل بالخارج وقت السلم ) وهي كما ترى هلامية مطاطة نصنعها نحن الطغاة، ويتولى كلابنا من زبانية السلطة وساديي المعتقلات وذئاب التحقيق الأمني التفسير في قبو تحت الأرض تماما كما يفعل أكثر زملائي الزعماء العرب.
القاضي: كيف تصنف سجونك ومعتقلاتك مقارنة بشقيقاتها العربيات؟
وهنا رفع المتهم رأسه، وانبسطت أسارير وجهه معبرة عن فخر واعتزاز بسجون ومعتقلات تملأ الوطن كله، وقال ضاحكا: لعلي، سيدي القاضي، أثرت حفيظة وغيرة زملائي الزعماء العرب، فــ( بيوت الأشباح ) السودانية التي كان جعفر النميري وعمر حسن البشير يفتخران بها في عهدين منفصلين أكثر رحمة من سجوني وحتى من مراكز الاعتقال المتناثرة من حدودنا مع الجزائر إلى حدودنا مع الجماهيرية العظمى.
ويمكن لليبي أن يتحمل التعذيب في سجون العقيد رسول الصحراء فالنهاية ستكون بتصفيته واطلاق صحيفة الزحف الأخضر عليه صفة واحد من الكلاب الضالة، وأن يقضي المغربي ربع قرن منسيا في تزمامارت المخيف، وللسوري أن يجرب جحيم تدمر فلا يخرج حيا ولا يكترث لرجائه مَلَكُ الموت أن يقبض روحه، وللأردني الجفرة مع ملف من الاستخبارات لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وللمصري أن يجهر بالدعاء مع عشرين ألف معتقل في سجون الرئيس حسني مبارك ولن تصل صرخاتهم للسماء الرابعة، وقس على هذا في وطننا العربي الكبير الممتد من جوانتانامو إلى أبو غريب. إذا كان الملك الحسن الثاني، رحمه الله، قد عَلّمَ المغاربة كيفية الزحف على بطونهم والتذلل له، فإنني علمت التونسيين أن يبتسموا وهم يتلقون الصفعات.
القاضي: كراهيتك للاسلاميين لم يعرفها أي نظام عربي آخر اصطدم معهم، حتى تدمير مدينة حماة اثر معركة الحياة والموت بين الاخوان المسلمين ونظام الرئيس حافظ الأسد لم تجعل الاستخبارات السورية الأكثر رعبا في الهلال الخصيب كله تطارد أي فتاة محجبة أو شخصا يصلي بانتظام، أما أنت فأسلوب في كراهية الاسلاميين ليس له نظير، كيف حدث ذلك؟
المتهم: ما فشل فيه أتاتورك كان يمكن أن ينجح فيه زين العابدين بن علي.
كنت أريد أن أجتث الفكر الديني من جذوره، وأجعل المتمسك بالاسلام يخشى ذكر الله لئلا ينزل عليه مقتي وغضبي.
كان الدبلوماسي الذي لا يعاقر الخمر يُستدعى إلى تونس، فقد أعطى اشارة بأن بذرة للتدين قد تنبت فجأة فتنتصب شوكة في حلق نظامنا الحاكم.
كانت أجهزة أمني تراقب البيوت عند صلاة الفجر، ومن يستيقظ عدة مرات وتشي أضواء نافذة مسكنه بأن التزاما متشددا بتعاليم الاسلام ستخرج من هذا البيت فإن رجال أمني قادرون على استدعاء هذا الذي يقوم الليل لله، أن يستيقظ أمام ضابط التحقيقات فربما نكتشف في صدره قلبا يتعاطف مع بن لادن أو الظواهري، وفكرا متأثر براشد الغنوشي.
القاضي: لم يسلم الليبراليون واليساريون من قبضتك وزبانية معتقلاتك، ما أسباب خصومتك معهم؟
المتهم: إنهم، سيدي القاضي، متأثرون بمنظمات حقوق الإنسان، وأكثرهم من المثقفين والشعراء والكتاب والإعلاميين والأكاديميين، وقد فرضنا عليهم قيودا شديدة، وحجرنا على حرية التظاهر والاجتماع والسفر للخارج، وتعرضوا لكل أنواع التعسف والاضطهاد ، وسلطنا عليهم رجالنا يخربون بيوتهم ويسرقون أمتعتهم ويطاردونهم في كل مكان.
القاضي: كيف كان موقفك الأخلاقي من الغزو العراقي للكويت؟
المتهم: حاولت من بعيد افشال القمة العربية التي عقدت في القاهرة، واعتذرت عن الحضور لأنني كنت متعاطفا تماما مع الرئيس العراقي صدام حسين، وأوحيت لاتحاد الكتاب التونسيين باصدار بيان تهنئة لعودة الكويت للوطن الأم العراق.
القاضي: ولماذا غضبت على الدكتور منصف المـرزوقي عنـدما حضـر مؤتمـر الكراهية في أوسلو في 25 أغسطس عام 1990 ؟
المتهم: لقد علمتُ أنه ألقى كلمة هامة، وأدان الغزو العراقي للكويت، وطالب بانسحاب فوري غير مشروط، فأوعزت إلى وسائل اعلامي، وهي كمعظم وسائل الاعلام الرسمية في العالم العربي، تتلقى التوجيهات، وينظر رؤساؤها ومديروها إلى الأرض خوفا وسمعا وطاعة، ثم يتحولون إلى ببغاوات تسب وتلعن وتشتم وتتهم من يحل عليه غضب الزعيم العربي.
كنت أعلم أن الدكتور منصف المرزوقي رفض الغزو والعنصرية وأدان صدام حسين واسرائيل وألقى مُداخلة رائعة عن الحضارة العربية واشراقاتها، وعندما عاد اتهمناه بأنه حضر مؤتمرا صهيونيا في العاصمة النرويجية، وتحول الاعلاميون والكُتّاب إلى ذئاب تنهش لحم الرجل الذي كانت حقوق المواطن التونسي هَمَّهُ الأولَ والأكبر.
القاضي: ولكن كراهيتك له أعمق من ذلك بكثير، فهو أكبر منك علما وخلقا ومباديء رفيعة وثقافة، وقد دفع من حريته وكرامته ثمنا باهظا من أجل الدفاع عن كرامة المواطن في تونس، ألهذا السبب تحمل له الضغينة؟
المتهم: ربما لأنه ساوى نفسه بي وظن أنه يملك الحق في الترشيح لرئاسة الجمهورية، فأحببت أن ألقنه درس الأسياد للعبيد، لكنه للحق صلب عنيد يملك عزة نفس وكرامة على الرغم من أنني رئيس الدولة الذي تخضع له الأعناق.
القاضي: يؤكد كل المحكوم عليهم بتهم باطلة أنهم تعرضوا للتعذيب، وانتزعت منهم الشهادات بالقوة، وفشل الادعاء في تقديم أدلة ادانتهم، ومع ذلك لم يُسمح لأحد أن يستأنف أو يعترض، وحتى وسائل الإعلام تم منعها من حضور عشرات المحاكمات التي لفقتموها ولم تتقوا الله في أوطانكم، هل لديك دفاع؟
المتهم: إنها، سيدي القاضي، مسألة صراع على السلطة، ولم يكن من الجائز أن يضعف نظامُ حكمي من أجل تلميع وجه تونس أو عدم اغضاب منظمة العفو الدولية أو الحصول على شهادة حسن سير وسلوك من هيومان رايتس.
هؤلاء الغوغاء عبيدي الذين أملك حق دفنهم أحياء لو أردت، وليحمدوا ربهم أنهم عاشوا في ظلي، وأكلوا وشربوا وناموا دون أن أنصب لهم المشانق أو أقوم بتصفيتهم كما فعل أخي العقيد معمر القذافي في سجن أبو سليم عندما قتل 1200 مواطن ليبي في وجبة واحدة، أو أخي رفعت الأسد الذي تفضل، مشكورا، بدفن أكثر من 700 سوري في حفرة كبيرة بالقرب من سجن تدمر بعد تصفيتهم، ولم يتركهم للطيور الجارحة في الصحراء.
القاضي: الغدر من شيمتك، فقد بدأت برئيسك ومعلمك وزعيمك الحبيب بورقيبة، وجعلت الغدر سياسة تونسية تتناقض تماما مع طبيعة شعبنا، حتى ترقب وصول العائدين التونسيين أصبح سمة ملتصقة بنظامك، فلماذا لم تترك هامشا أخلاقيا للمناورة؟
المتهم: لأن الخديعة إذا أصبحت هوية للنظام الحاكم يسري على اثرها الرعبُ في أوصال كل مواطن في الداخل والخارج، فنحن اعتقلنا عائدين كثيرين ظنوا أنهم في أمان، بل إن أكثرهم يحملون جنسيات دول أوروبية.
هناك آخرون تلقوا رسائل مطمئنة من الأمن الوطني مثل جابر الطرابلسي الذي سلم نفسه للسلطات في ايطاليا، فلما عاد إلى وطنه قمنا بتأديبه بمحاكمة عسكرية لم نسمح للصحفيين بحضورها وحكمنا عليه بالسجن ثمانية أعوام.
هل رأيت، سيدي القاضي، على وجه الكرة الأرضية نظاما يرسل رجال أمنه لاختطاف متهمين من داخل قاعة المحكمة قبيل نطق الحكم؟ إنه نظام حكمي الذي بصق على عدالة المحكمة، وأخرج المتهمين في تنظيم الحزب الشيوعي، وذهب بهم إلى محكمة أخرى تابعة لأمن الدولة وأصدرت حكما جائرا عليهم بتهمة تحريض الجمهور على مخالفة قوانين البلاد
القاضي: لماذا وضعت عددا كبيرا من أعضاء حزب النهضة الإسلامي قيد الحبس الانفرادي في ظروف قاسية وتعسفية ومجحفة ومهينة على الرغم من أن السجن العادي وهو أيضا ظلم كان عقابا وتقييدا لحريتهم؟
المتهم: لأن الحبس الانفرادي، سيدي القاضي، لفترات طويلة يؤثر على القدرات النفسية والعقلية للمغضوب عليهم، وتصل الرسالة إلى كل المعارضين فيزداد الشعب خوفا من نظام حكمي، وقدرة على الخنوع، ورغبة في الطاعة العمياء.
سجوننا تقع تحت سلطة وزارة العدل، ونحن غالبا ما نمنع الزيارة فالعقوبة لدي جماعية، وينبغي أن تنسحب على الأهل بمنع الزيارة، أما الذين يضربون عن الطعام في أي سجن تونسي فيتعرضون لكافة أنواع الضرب والانتهاك والتعذيب وقد ينتهي الأمر إلى الحبس الانفرادي. ولا مانع أن يتذكرهم ملك الموت كما حدث مع عبد الوهاب بوساع الذي أضرب عن الطعام، ثم لحق به الأخضر الصديري وكان الاثنان متهميّن بالانخراط في نشاطات حزب النهضة. أما حبيب السعدي فقد قمنا نحن باستعجال عزرائيل لاصطحابه قبيل موعد اطلاق سراحه.
القاضي: وماذا عن المفرج عنهم بعد قضاء فترة العقوبة؟
المتهم: أنا، سيدي القاضي، لا أقبل التوبة، ومن يكون غضبي من نصيبه يصبح مطاردا ما بقي له من عمر، والمفرج عنهم لا يجدون عملا، ويتم استدعاؤهم لقسم الشرطة للتحقيق بين الحين والآخر ولتذكيرهم أن الحرية الظاهرة هي أيضا سجن مبطن، وأن تونس كلها تقع تحت حذائي.
القاضي: قسوتك في تعذيب أبناء شعبك تتحدى كل غلظة الملك المغربي الراحل الحسن الثاني الذي وضع أسرة محمد أوفقير في سجن معزول عن العالم، ثم قَسّم الأسرة َإلى قسمين متجاورين لم تشاهد الأمُ خلال ثمان سنوات بعضَ أبنائها ويفصلها عنهم جدارٌ امعانا في الاذلال، وأراك فعلت نفس الشيء، أليس كذلك؟
المتهم: إذا كان الملك المغربي الراحل من نسل الشياطين فإنني أتحداه في قبره أن يكون قد فعل بشعبه أكثر مما فعلت أنا. أما بالنسبة للتفرقة بين أبناء العائلة الواحدة فقد تم الافراج هنا في تونس السجن عن عبد الله زواري بعدما قضى أحد عشر عاما خلف القضبان، لكن الرجل المفرج عنه أراد الالتقاء بعائلته، وزبانية سجوني قرروا أن يغادر العاصمةَ بدون رجعة إلى الجنوب، فأصر صاحبنا أن يجتمع بأسرته لكن عدالة قضائنا كانت له بالمرصاد فحكمت عليه بالسجن ثمانية أشهر.
القاضي: يبدو أنني أمام طاغية لا مثيل له، تحكمه نوازع عدوانية وكراهية شديدة لشعبه، واستئثار بالسلطة يتفوق على لذتها لدى كل طغاة العالم. هل كان رجال أمنك وحمايتك يراقبون الانترنيت أيضا؟
تبسم زين العابدين بن علي وعرف أنه دخل دائرة أكثر الطغاة مراقبة ورصدا لكل تحركات أبناء شعبه وقال بفخر: نعم، سيدي القاضي، فالتطور العلمي المدهش الذي تعكسه الشبكة العنكبوتية لم يمنعني من جعله في خدمتي، فنحن نراقب البريد الالكتروني، ونعتقل من يتصفح مواقع سياسية، حتى الكاتب زهير يحياوي الذي نشر مجلة ساخرة على الانترنيت باسم مستعار عثرنا عليه، وأحلناه لمحاكمة سربعة، وقامت قوة أمنية بتفتيش بيته بدون إذن النيابة، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين.
يحدث أحيانا، سيدي القاضي، أن يعود تونسي مقيم في فرنسا أو كندا أو ايطاليا لسنوات طويلة، ويظن في مطار تونس الدولي أنه في مأمن فيكتشف عبقرية رجال أمني الذي يلقون القبض عليه لأنه اشترك، مثلا، في مظاهرة بباريس ضد نظام حكمي، أو أرسل من كندا رسائل بالبريد الالكتروني باسم مستعار وانتقد فيها نظام حكمي، أو حضر واشترك في ندوة للمعارضة في مدينة صغيرة وظن أن استخباراتي لا تملك عيونا تخترق الحجب.
القاضي: لماذا إذن لم تظهر عبقرية رجال أمنك واستخباراتك عندما قامت أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية بتصفية القيادات الفلسطينية على أرض تونس العربية؟
المتهم: ولماذا نحمي هذه القيادات؟ إن اسرائيل لا تمثل خطرا على تونس، ونحن نتعاون مع أمريكا وأنا ،كما قلت سابقا، تعلمت وتدرّبت في مدرسة الاستخبارات الأمريكية فلا تظنن، سيدي القاضي، أنني أحتمي بواشنطون وأُعَرّض أمنَ اسرائيل إلى الخطر!
القاضي: أين كنت تأمر باعتقال أبناء شعبك؟
المتهم: أنا أفضل دائما سجون بنزرت وتونس والمهدية وصفاقس، أما سجن قفصة فله وضعية خاصة وفيه يتم منع المحكوم عليهم من الاجتماعات في الفناء أو داخل قاعات الطعام أو حتى صلاة جماعية، فنظام حكمي لا يحرمهم فقط الحرية الدنيوية لكننا نمنعهم من الصلاة الجماعية خشية أن تزداد الصلابة وقوة الإيمان، ويتماسك المعتقلون.
إنني، سيدي القاضي، أملك كلابا بشرية تقوم على حراسة المعتقلين وتستطيع أن تبهجني وتسعدني بفنونها الراقية في اذلالهم، فهناك حرمان من الدواء، ومنع من زيارة الطبيب، وتحديد الموضوعات التي يحق للمعتقل أن يتحدث فيها مع أهله خلال الزيارة، ونادرا ماتكون هناك زيارات، أما الكتاب فهو عدوي اللدود، وخصمي الدائم، وهو الذي يعيد الروح للذين نحاول أن نسلبهم إياها، لذا نمنعهم من المطالعة الفكرية.
القاضي: ماذا كانت توجيهاتك في حال الاضراب عن الطعام الذي يلجأ إليه المعتقلون كحل أخير لرفع بعض الغبن والظلم عنهم؟
المتهم: بعضهم كان ينجح في الاتصال بمحامين ولجان حقوق الانسان وهذا يرجع إلى العائلة وقوة اتصالاتها واصرار أفرادها على ايصال قضية المعتقل المضرب عن الطعام إلى الصحافة الأجنبية مثلما حدث مع عبد المؤمن بالعانس من الحزب الشيوعي العمالي وتوفيق الشايب من حركة النهضة، وهناك آخرون اضربوا ولم يكترث لهم إلا القليل مثل عبد اللطيف بوحجيلة وفتحي كرعود وأحمد عماري وشكري القرقوري والبشير عبيد وعبد الله إدريسة والبشير بوجناح.
هناك اضرابات كانت تقلقني كثيرا لأنها أكثر سرعة في الوصول إلى الرأي العام الدولي وأعني بها الاضرابات الجماعية مثلما حدث في 11 يونيو 2000 وفي 10 يوليو ، ثم اضراب 8 نوفمبر والذي شمل سجون الهوارب وسوسة والناظور وصفاقس والمهدية والمسعدين.
إنني أراهم حشرات لا تساوي أي قيمة تُذْكَر ولكنني كنت مضطرا للتعامل معهم بطريقة مختلفة أمام الرأي العام الغربي، خاصة الفرنسي الذي توسط رئيسه من قبل في معتقل تونسي كان يحمل الجنسية الفرنسية وتمكن رجال أمن المطار من القبض عليه رغم أنه لم يمارس أي نشاطات سياسية في العشر سنوات التي سبقت اعتقاله.
القاضي: عندما يكون الاضراب عن الطعام حلا وحيدا فإننا نفهم أن الظروف التي تجعل المعتقل يضحي بحياته لابد أن تكون قاسية وقاهرة ولا يحتملها بشر فيرى الموت حلا نهائيا وحيدا يخرجه من عذاب الوطن السجن، ألم يكون بين جنبيك قلب يَرق ويضعف بين الحين والآخر لمواطنيك ورعاياك وأبناء بلدك؟
المتهم: لو أنني، سيدي القاضي، احتكمت إلى العواطف لما تمكنت من الاحتفاظ بالسلطة كل هذه السنوات. كنت أعرف ما يدور في السجون والمعتقلات، وأتابع تفاصيل مشاهد التعذيب والاغتصاب وانتهاك الحرمات ، وأكاد أسمع صرخات المعتقلين وهم يتعرضون للتنكيل والضرب والركل والحرق والاهانة، لكن شهوة السلطة قادرة على التسلل لمسارب النفس، والتوجه إلى القلب والعقل، ثم التحكم في المشاعر وجعلها جامدة كجلمود صخر، أو حجر لا ينبجس منه ماء.
القاضي: في بداية فترة حكمك وعدت أبناء شعبك بأنك وفقا للدستور لن تجدد لولاية ثالثة، والآن يبدو أنك كباقي الطغاة التصقت بكرسي الحكم، لماذا لم توف بوعدك وتترك الحُكمَ لغيرك بعد الفترة الثانية التي بدأت عام 1994؟
انفجر المتهم في ضحكات هستيرية متوالية اضطرت القاضي أن يطرق بشدة بمطرقته طالبا منه الهدوء.
هدأ المتهم قليلا ثم قال ساخرا : ألم أقل لك، سيدي القاضي، منذ لحظات بأن شهوة السلطة تستطيع أن تتحكم في كل همسة ولمسة وفكرة وعاطفة، ويمكنها أن تُغَلّظ قلبً أكثر الرجال رقةً فتجعله ذئبا لا تهتز فيه شعرة لو افترس بين أنيابه قطيعا كاملا؟
كيف أترك الحكم والكرسي والسلطة والقصر ورقاب العبيد والمال ثم أعود مواطنا عاديا؟
جنون هذا أم رومانسية حالمة؟
وهل تظن، سيدي القاضي، بأن حَرَمي المصون السيدة ليلى بن علي كانت سترضى وستخضع لرغبتي لو أنني عرضت عليها هذا الأمر؟
كانت ستتهمني بالجنون.
لقد فهمتُ في أول يوم خضعت لي تونس كلها لماذا اختصر الحبيب بورقيبه الطريق فجعل من نفسه رئيسا مدى الحياة وهو المناضل العنيد في شبابه الذي دفعته الرومانسية وحب الوطن وكراهية الاستعمار الفرنسي أن يهب عمره لشعبه من أجل الاستقلال .
ليتك شعرت، سيدي القاضي، ولو لبرهة واحدة بما يشعر به الطاغية عندما يأمر، وينهى، ويتفوه بكلمة فتسمعها الآذان قبل أن يدفعها اللسان.
الاستبداد لا يتحقق إلا عندما يثمل من كأس العبودية التي يشرب منها الرعايا طواعية.
والسادية تحقق قمة لذتها عندما تلتقي بأسفل درجات المازوخية، فتخضع الرقاب، ويخفض أبناء الشعب رؤوسهم وأصواتهم فلاتسمع إلا همسا.
القاضي: لكنك مزيف وكاذب وتعلم جيدا أن نتائج الانتخابات الهزلية في تسعينيتها العربية الخالصة والتي لولا الخوف من سخرية كل وسائل الإعلام الأجنبية لجعلتها مئة بالمئة كما فعل الرئيس الأسير صدام حسين . ألم تقم بتزييف إرادة الشعب التونسي؟
المتهم: أرجوك، سيدي القاضي، فقد فضحتني أكثر مما يجب، وحتى الآن فاتهاماتك لي قد تصل بالحكم علي إلى الاعدام عدة مرات أو السجن بعدد سنوات عمر سفينة نوح.
ثم إنني لم آت بجديد، فنحن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وما ينطبق على زملائي الزعماء العرب ينسحب علي تماما.
أكثرهم مزورون، ومزيفون، وتخرج من قصورهم صناديق الاستفتاء أو الانتخاب جاهزة بالنسبة التي يحددها الزعيم.
الرئيس الأسير صدام حسين كان يرى أن أقل من 100% تعتبر اهانة له، وتقليلا من شأنه، وهو يفضل أن يسخر من الشعب في صناديق الاستفتاء عن أن يبحث الشعب عن معارض واحد قال لا للقائد المهيب.
والرئيس حسني مبارك يفضل نسبة 96% ويترك هامشا لمثقفي القصر للتحرك والادعاء بأن الرئيس سعيد بالمعارضة والتأكيد على نهج التعددية.
والرئيس عبد العزيز بوتفليقة قرر منافسوه كلهم الانسحاب من مسرحية الانتخابات، فاستمر صوتا وحيدا مدعوما من جنرالات الجيش ورؤوس الفساد في اتفاق جنتلماني يصمت هو بمقتضاه على اغتيال الوطن، وتتركه مافيا العسكر على رأس السلطة.
والعقيد الليبي الذي يتهم شعبه بأنهم كالماعز يكاد يقسم بأنه سيحول الليبيين لمتسولين في شوارع تشاد والنيجر وتونس، ويدعي أنه لا يحكم لكنه القائد الروحي للثورة، لذا فهو لا يحتاج لانتخابات واستفتاء وصناديق جاهزة تخرج من خيمته الملونة.
والرئيس اللبناني المشبع بمشاعر الحرية وهي التي تجري في روح اللبناني فتضحى توأما لها يقرر على استحياء يخفي خلفه صوتا قادما من القصر الجمهوري بدمشق أن يمد في عمر وجوده بقصر بعبدا ثلاثة أعوام جديدة أسوة بالزملاء في مهنة الزعامة العربية.
والرئيس السوداني عمر حسن البشير لا يحتاج لصناديق تخرج من قصره وبها أصوات أبناء وادي النيل الطيبيين فيكفي أن يشير إليهم ببيوت الأشباح فيتحول شمال السودان إلى مُلْكٍ خاص يفعل به ما يشاء !
هذه نماذج لبعض زعمائنا العرب، فهل أنا المذنب الوحيد؟
القاضي: هل قامت جهات أجنبية بتسليمك بعض رعاياك؟
المتهم: نعم فقد قام أخي العقيد معمر القذافي بتسليمي مجموعة من المتهمين متجاوزا كل الأخلاقيات في منح ضيوفه الأمن والأمان ما داموا على أرض الجماهيرية العظمى.
القاضي: على بن سالم الصغير .. هل تتذكر هذا الاسم؟
المتهم: معذرة، سيدي القاضي، فلا تسعفني ذاكرتي باسماء كل الذين علّمَتْهم وأدّبَتْهم سجوني التي ما شاء الله تستطيع أن تبتلع في جوفها وأقبيتها وزنازينها كل التونسيين في الداخل والخارج.
القاضي: أنت كاذب، وأرى في عينيك شيئا تخفيه، لكنه في الحقيقة ليس تقريع الضمير.
علي بن سالم الصغير هو السجين السياسي الذي أقفلت مخابراتك في وجهه كل أسباب العيش الكريم بعد خروجه من السجن الذي دخله ظلما وعدوانا وبغيا، فلم يجد عملا، ولم يستطع شراء الدواء، وطاردتموه في كل مكان فقرر في أحد الأيام التاريخية المشؤومة في زمن زين العابدين بن علي أن يعرض ولديه للبيع، وبدلا من أن يبكيك ضميرك على أحد رعاياك إن كان لا يزال حيا، فإن هذا الضمير الذي لم يستيقظ قط راح في سبات مرة أخرى، وتم اعتقال الرجل المسكين وعاد إلى السجن ومعه المحامي نجيب حسني فعدالتك لم تتحمل أن يدافع عن الرجل محام وفقا للقانون مهما كانت درجة الظلم والعدل فيه.
والآن هل أحدثك عن المواطنين الذين أصابتهم أجهزة أمنك الظالمة ونظامك المستبد والارهابي بالجنون؟
المتهم: كفاك، سيدي القاضي، فلو تذكرت سجلي الحافل بالجرائم بتفاصيله فإن جماهير الشعب التونسي ستقتحم قاعة المحكمة وتأخذ بثأرها مني سحلا في شوارع تونس.
القاضي: هل أُذَكّرك بفيصل قربوع ومنير الأسود وعبد العزيز البوهالي؟ إنهم ثلاثة من رعاياك اصابتهم لوثة عقلية من جراء القمع والاضطهاد والسجون والتعذيب!
وهل تتذكر السيدة حياة المدنيني؟
المتهم: نعم، سيدي القاضي، إنها السيدة التي تخضع للمراقبة الأمنية وعليها أن تبلغ الشرطة في كل يوم أنها لم تغادر صفاقس ولم تتجرأ في عهدي على زيارة زوجها شكري القرقوري المعتقل في سجن تونس.
القاضي: وهل كنت تشعر بلذة وأنت تبالغ في اضطهاد أبناء شعبك؟
المتهم: حاولت العثور على طريق آخر لاجبار رعيتي على الخضوع الكامل لنزواتي ومزاجي ورغباتي فلم أجد غير اسهل الطرق التي سلكها جل طغاة الدنيا .. أي القمع بكل أشكاله.
القاضي: وهل تسعفك ذاكرتك باسم علي الرواحي؟
المتهم: أليس هذا هو الرجل الذي اعتقلناه اثر عودته من ليون بفرنسا حيث يعيش مع أسرته، وألقيناه في غيابات السجن تسع سنوات كاملات، ولم يزره أحد قط خلال أعوام السجن الرهيب لأن عائلته كلها في فرنسا، وبعد خروجه أجبرناه على الذهاب لقسم الشرطة للتوقيع في كل يوم؟
القاضي: أرى أن ذاكرتك تضيف متعة لساديتك في قهر أبناء شعبك، والآن كيف كنت ترى الاعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
المتهم: كنت أدوس عليه بحذائي، فهو مكتوب للأحرار، أما أبناء بلدي فهم ملكية خاصة بي تماما كما كان الأمريكيون يملكون رقيقهم الذين جلبهم التجار والنخاسون من أفريقيا السمراء.
الاعلان العالمي لحقوق الانسان لا يستحق في نظري قيمة الورق المنشور أو المنثور فوقه مهتديا بكرامة البشر.
القاضي: الرئيس الحبيب بورقيبة كان أيضا مستبدا وطاغية وملأ سجون تونس بعشرة آلاف معتقل، فلما أزحته أنت عن الحكم زادت متاعب وعذابات وأوجاع التونسيين أضعافا مضاعفة، فكان هناك أكثر من ثلاثين ألف مواطن يعانون الظلم البَيّنَ في سجون كئيبة وغير آدمية تنفر منها الحشرات.
هل لديك تبرير لانفجار القسوة في تعاملك مع رعاياك حتى بدا الأمر كأنك تنتقم من التونسيين؟
المتهم: ليست كراهية بقدر ما هي مشاعر تغوص في أعماقي وملَكتْ عليّ كلَ كياني وهي أنني أرفع مقاما وأكثر شرفا ونقاءَ دمٍ من هؤلاء المتخلفين الرعاع.
لعلي لا أبالغ، سيدي القاضي، لو قلت لك أن احساسا بأنني نائب الله على الأرض ينتابني فأطالب بعبودية كاملة غير منقوصة من شعبي. أعني من عبيدي!
القاضي: لماذا كانت تحدث حالات وفاة لمواطنين خلال استجوابهم في مراكز التوقيف؟
المتهم: لم يكونوا يتحملون الوجبة الأولى من التعذيب التي تسبق الجحيم الحقيقي في سجوني ومعتقلاتي مثل بدر الدين الرقيعي الذي أوقفه رجالي في 2 فبراير 2004 ولم يتحمل الرجل سبعة ايام وسبع ليال من التعذيب المستمر ففاضت روحه بين أيدي كلاب أمني.
القاضي: لكن بيان الشرطة ذكر أن الرجل انتحر.
المتهم: إننا، سيدي القاضي، لا نختلف عن معظم الأنظمة العربية فالانتحار اكليشيه جاهز في معظم أقسام الشرطة العربية وقد تفوقت فيها علينا أجهزة الأمن المصرية فهي الطريقة التي يفضلها أخي الرئيس حسني مبارك لاعطاء مزيد من جرعات الرعب لشعبه حتى يستأنسوا المذلة ويستعذبوا الخنوع ويتقدم ابنه جمال مبارك بخطى ثابته ناحية قصر العروبة حاكما وحيدا وفرعونا لم يهبه النهر الخالد لأرض الكنانة.
القاضي: حدثني عن نتائج انتخابات 24 أكتوبر 2004، أليست تلك وصمة عار في جبين نظامك؟
المتهم: كنت أعلم عندما حددتُ النتائجَ سلفا أن أصدقائي في الغرب وأمريكا سيستلقون على أقفيتهم من الضحك وهم يعرفون أنها مسرحية هزلية ودراما مأساوية يختلط فيها البكاء بالضحك، والدموع على شفاه مبتسمة، ومع ذلك فالغرب كله صامت وعلى استعداد لأن يغمض العين عن كل جرائمي ما دامت هناك مصالح بيضاء تحميها أجساد سمراء سَخّرَها لهم رجالهم الطغاة في قصور العالم الثالث.
ألم يقلب الغربُ الدنيا عاليها سافلها لأكثر من عقدين من الزمان على قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة باعتباره ارهابيا ومجرما تصفويا يطارد الأبرياء، ويزرع الرعب والفزع في القلوب، فلما قرر تسديد ثمن جرائمه من أموال شعبه، وقام بتسليم الوثائق والأسرار والملفات الخاصة بكل المنظمات العربية والاسلامية والأفريقية وقوى النضال إلى أجهزة استخبارات الغرب وأمريكا، تحول فجأة إلى وديع وطيب وتائب، واستضافت خيمته زعماء أوروبيين ومعهم عقود شركات تبحث عن المال ولو كان في أفواه الجائعين في العالم الثالث؟
القاضي: أنت تصور كل التونسيين على أنهم خاضعون لارادتك، وخانعون لأوامرك، ومستكينون لنزواتك، ومطيعون لكلاب قصرك وأمنك، وهذا ليس صحيحا بالمرة. اين الحقيقة؟
المتهم: لقد قضيت فترة حكمي كلها أكذب على الشعب، أما الآن فأنا مضطر لأجهر بحقيقة أمام عدالتكم وهي أن القوى المعارضة في الداخل والخارج سببت لي أحيانا كثيرة أرقا وقلقا واضطرابات نفسية لم أكشف عنها لأحد باستثناء سيدة تونس الأولى لأنها تشاركني في سحق هامات أبناء هذا البلد.
نعم، سيدي القاضي، كانت هناك معارضة قوية لنظام حكمي، والتونسيون بحكم قربهم من أوروبا، ونسبة التعليم المرتفعة، ومتابعة الكثيرين لقضايا الثورة والتمرد والحرية في الناحية الأخرى من الأزرق الكبير، قاوموا استبدادي، ودفعوا ثمنا غاليا لطغياني، وسددوا من دمائهم لتحرير وطنهم من نظام حكمي.
القوى الفكرية والثقافية والسياسية والفنية رفعت صوتها عاليا، ومنهم الدكتور منصف المرزوقي والسيدة سهام بن سدرين والصحفي توفيق بن بريك والقاضي مختار يحياوي.
القاضي: ماذا عن المادة 39 التي تحظر على رئيس الدولة التمديد لأكثر من مرة واحدة؟
المتهم: إنه الدستور، سيدي القاضي، وهو لا يشكل لي أكثر من خربشة ديكة، وأنا فوق الدستور، وقبل الوطن وأحصل على نسبة لو أرسل اللّهُ نبيا للتونسيين فقط لما حصل عليها.
كنت قد أزمعت أن أظل رئيسا مدى الحياة لولا وقوفي الآن أمام عدالتكم.
القاضي: ألم تكن خائفا من أي انقلاب على القصر يدبره أحدُ أعْوانِك؟
المتهم: لقد أقْصَيّت كُلَّ الأصوات الحرة، وأزحت من يتوسم فيهم التونسيون شجاعة وشرفا ونزاهة، وجعلت المقربين والأصدقاء يحيطون بي كما يحيط الصقليون بالأب الروحي في مشهد مافيوي تصغر بجانبه اخطبوطيات كل الطغاة الآخرين.
القاضي: ما هي أهم قوى المعارضة لنظام حكمك؟
المتهم: أظن أن النهضة لراشد الغنوشي كانت الأقوى في التسعينيات، ثم العصبة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، والمجلس الوطني للحريات في تونس، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وجمعية المحامين الشباب، والاتحاد العام لطلاب تونس، هذا غير عشرات المواقع على الانترنيت التي استقطبت معظم التونسيين في الخارج، أما في الداخل فقد وضعنا نظاما صارما للدخول على مواقع الانترنيت ولو اشترك تونسي في حوار سياسي باسم مستعار وهو يقيم في مكان ناء في قرية مجهولة فإن أشباح رجال أمني قادرون على الوصول إليه.
القاضي: لكنهم غير قادرين على الوصول إلى نشاطات الموساد في بلدك، أليس هذا صحيحا؟
المتهم: ربما لأنني لم اعتبر الموساد في يوم من الأيام خصوما لي، أو أعداء لنظام حكمي، ولو أرادت اسرائيل تصفية أحد الارهابيين على أرض تونس فسيغمض رجال الاستخبارات التونسية العين عنهم، لكن لا مانع من بيان إدانة شديد اللهجة لامتصاص النقمة الشعبية.
القاضي: كم عدد التونسيين الذين غرقوا في البحر وهم يتكدسون في مراكب قديمة وبالية ويحملون معهم حلم الهجرة والهرب من القمع والفقر والوطن السجن؟
المتهم: لكن المصريين والليبيين والمغاربة يبعثون لقاع البحر أو بطون الأسماك أكثر مما نفعل نحن!
القاضي: إنني أحدثك عن التونسيين من رعاياك وأنت تحكم بلدا صغيرا يستطيع في موقعه الجغرافي وكفاءات أبنائه أن يجعل من تونس بلدا تستقطب العمالة لا أن تطردها.
كيف كان رد فعلك عندما تضامن مئات من المثقفين والمفكرين وقدموا عريضة تطلب منك أن لا تجدد لولاية رابعة؟
المتهم: هذه المعارضات السخيفة لا تثنيني عن عزمي، ولم أحد قيد شعرة عن تخطيطي لاستعباد واستغفال واحكام الطوق على رقاب التونسيين حتى يقوم ملك الموت بزيارتي.
القاضي: من اين كنت تستمد الحماية التي جعلتك بمنأى عن غضب الشعب طوال سنوات الذل والقهر التي وقعت فيها تونس الخضراء في قبضتك الحديدية؟
المتهم: لم يكن الأمر بمثل تلك الصعوبة التي تتصورها، سيدي القاضي، فهناك مئة وثلاثون ألف شرطي، وعشرات الآلاف من الخلايا الحزبية والتي تشبه شبيبة الحزب الوطني الديمقراطي في مصر والتي كونها جمال مبارك لتحميه من غضب الشعب، وهناك تقسيمات أمنية ومنظمات تنضوي تحت مسمى الجاسوس النائم وهي التي تُبَلّغ عن أي تونسي يرتفع صوت انفاسه أكثر مما يتحمل النظام.
ولا تنس، سيدي، أن شبكة أمنية قمعية منسوجة بهذه البراعة تستطيع أن تسيطر على عشرة ملايين تونسي حتى لو دفن المواطن رأسه في مخدعه واحتمى بالعزلة في غرفة مغلقة.وهنا بدا الارهاق واضحا على وجه القاضي، وشحب قليلا، وضاقت أنفاسه، وخانت صلابتَه دموعٌ تأمّل فيها المتهمُ وعرَف أن حكما قاسيا وعادلا سيصدر بعد قليل.
نظر القاضي إلى المتهم بازدراء واحتقار وغضب شديد، ثم صاح بصوت حشرَجته تنهيدةُ حزنٍ قائلا: الحُكم بعد المداولة!
وخرج مسرعا من الباب المجاور للمنصة قبل أن يلحق به مستشاراه فالدموع كانت غزيرة!
ولأول مرة في تاريخ تونس لا تتملك الحيرة ُأياً من مؤرخيها وهو يستعد للكتابة عن مذبحة وطن في عهد زين العابدين بن علي
التعليقات (0)