هذا المقال مرت عليه أقل قليلا من خمس سنوات، وأعيد نشره الآن بمناسبة اقتراب موعد اختطاف الرئيس السوداني ونقله إلى لاهاي الهولندية
Oslo 01.11.2004
لم أكد أفتح عيني بعدما غفوت مرتين ورأيت خلالهما محاكمتين: الأولى كانت ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك) والثانية (وقائع محاكمة العقيد معمر القذافي) حتى غفوت مرة أخرى وبدا لي أن محاكمةً ثالثةً على وشك البدء، وأنني أجلس في الصف الثالث على مقعد قديم متهالك وقريب من قفص حديدي يجلس خلفه الرئيس السوداني عمر حسن البشير.
كانت قاعة المحكمة بنفس لون جُدرانها القاتم والحزين والحاضرون يتزاحمون على الفوز بأماكن تسمح بمشاهدة القاضي والمتهم في نفس الوقت.
وجوه سمراء، وأخرى أكثر سمْرةً وكأنَّ اللونَ يفصل بين السكان، فيظن الغريبُ أن تدرجا يبدأ من الشمال حتى ينتهي مع وجوه سوداء زنجية تلمع فيها أسنان بيضاء جميلة، لكن التدرج هذا لا يشمل ما عُرف عن السودانيين من قلوب طيبة دافئة.
كان المتهمُ يجلس ذليلا خانعا، لكن عينيه كانتا تدوران بحثا عن خصوم حاضرين للشماتة، أو أصدقاء يستعدون للتخلي عنه فور صدور الحكم.
كانت أصوات الحاضرين عاليةً ومتداخلةً فيتحدث خمسةٌ ليسمع واحدٌ، حتى دخل القاعةَ رئيسُ المحكمة يحيط به مستشاران ووقف الحاضرون مرة واحدة ثم جلسوا وقد خفتت الأصوات، ثم خيم صمتٌ عجيب على القاعة، وبدأت المحاكمة التاريخية...
القاضي: اسمك وتاريخ ميلادك ووظيفتك؟
المتهم: عمر حسن البشير، مواليد قرية حوش بانقا ريفي في أول يناير 1944. رئيس الجمهورية.
القاضي: سابقا!
المتهم: نعم، سيدي القاضي، سابقا.
القاضي: كيف وصلت إلى الحكم؟
المتهم: في انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو عام 1989.
القاضي: وهل استوليت على الحكم من حكومة عسكرية وَثَبَتْ بدورها على ظهر دبابة؟
المتهم: لا، سيدي القاضي، فقد كانت حكومة منتخبة انتخابا شعبيا.
القاضي: تاريخك الاجرامي يشهد عليك منذ اللحظة الأولى لاغتصابك السلطة، فقد فتحت المعتقلات لأبناء بلدك، ومارست التعذيب بسادية، واستخدمت الدين الاسلامي في خداع الساذجين، وقمت بعمليات ابادة في الجنوب، وأدعيت أنك تحكم بالشريعة الاسلامية وأنت أبعد السودانيين عن هذا الدين الحنيف، ومارست تجارة بيع وشراء الرقيق، ومنحت الفرصة للقوى الخارجية للتدخل في شؤون السودان، وقمت بالتآمر على جيرانك، وخططت لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا، وكذلك حاولت اغتيال الرئيس الارتيري أسياس أفورقي، وقمت باحراق أراض سودانية بأهلها على طريقة صدام حسين في الأهوار
المتهم: أنا لا أنكر هذه التهم الموجهة لي، لكنني لم أقم بالانقلاب بمفردي فقد وجدت الشعب كله الذي اختار حكومته عن طريق صناديق الاقتراع يدعمني أو يقف صامتا أو ينحاز إلى البندقية بدلا من غصن الزيتون.
القاضي: لماذا أدعيت أن نظامك قائم على تعاليم السماء على الرغم من أن الأرض تنفر منه، وأن الترويع والارهاب والقتل والسحل والاعتقالات العشوائية والظلم الفادح كل هذا ميز عهدك الأغبر؟
المتهم: لم يكن أمامي خيار آخر، فحليفي الدكتور حسن الترابي مُنَظّر الانقاذ، وهو الذى أوحى إلي بفكرة تخدير الشعب بالمقدس.إن استخدام الدين يسمح لي بأن أقدم وعودا للساذجين مقابل تضحياتهم، واستطيع أن أزج بكل خصومي في معتقلات السودان كله بحجة محاربتهم لتعاليم السماء، ويمكنني أن أجد باشارة واحدة مني ملايين من الحمقى والمغيبين في العالم الاسلامي كله يدافعون عني لأنني أطبق شرع الله.
القاضي: لكنك أقمت الحدود على الفقراء والمساكين، وقطعت أيدي نساء لا يجدن طعام العشاء، وجلدت شبابا سرقوا في المجاعة كسرة خبز، وحولت السودان إلى خصم لكل الجيران والغرب والأصدقاء والخيرين.
المتهم: لقد أردت السلطة فقط، وقام الدكتور الترابي بتلميعها وتأهيلها واضافة القداسة عليها، فلم أصدق أن الجيش السوداني الحر الذي يسانده شعب مدرك وواع لخطورة الانقلابات والثورات وقف بجانبي تماما كما فعل مع جعفر النميري الذي دمر البلاد، ثم وضع كتابه عن النهج الاسلامي، وأقام الحدود في قطع الأيدي والرجم والجلد على فقراء الخرطوم وأم درمان والقرى النائية التي يسقط فيها الالاف صرعى الجوع والعطش والجفاف والحروب الأهلية.
القاضي: لماذا لم تحترم وثيقة حقوق الانسان الدولية التي وقعت عليها الخرطوم؟
المتهم: لأنني أحكم شعبا لا يفهم غير لغة السوط والجلد والخوف.
القاضي: هذا ليس صحيحا بالمرة، فأنت مجرم مغتصب للسلطة التي اختارها الشعب عن طريق ديمقراطي، حتى لو حدثت تجاوزات بحكم التخلف الحضاري في العالم الثالث، فإن احترام اختيار الشعب لسلطته كان ينبغي أن تلتزم به وأنت العسكري الذي تعلم أصول الوطنية، ونلت ماجستير العلوم العسكرية ، ثم ماجستير آخر في ماليزيا، وزمالة أكاديمية السودان للعلوم الادارية.
المتهم: لقد أردت صناعة قوة عسكرية واقتصادية وسياسية كبرى من السودان الذي مزقته الحروب الداخلية.
القاضي: لماذا ساندت صدام حسين في غزوه للكويت على الرغم من كراهيتك لحزب البعث العربي الاشتراكي، ومعرفتك الواعية بقوافل الخير الكويتية التي لم تتأخر عن السودان؟
المتهم: لماذا، سيدي القاضي، توجه هذا السؤال لي؟ ألم تكن قيادات فلسطين والأردن وتونس والجزائر وموريتانيا واليمن واقفة تشهد الزور لحساب طاغية بغداد؟
لقد سال لعابي لأموال الكويتيين وذهبهم وفضتهم وثرواتهم التي وعدني الرئيس العراقي بجزء منها لو أنني وقفت بجانبه.
القاضي: ارتكبت قواتك بأوامر مباشرة منك مذابح ضد الأهالي العُزّل الأبرياء في مناطق جبال النوبة، وفي منطقة النيل الأزرق، ولم ترتوي نفسك من دماء الجنوبيين فقمت بتسليح ( الجنجويد ) ليقوموا بأكبر مذابح ضد القبائل التي تمتد لأصول أفريقية، هل لديك تبرير؟
المتهم: إن محاربة أعداء الثورة واجب وطني، وأنا القائد الأعلى لهذا البلد وواجبي يحتم علي الحفاظ على أمن الدولة!
القاضي: وأمن الدولة يعني في رأيك المتبجح بالايمان والتقوى اغتصاب مئات النساء على ايدي جنودك القساة، أليس كذلك؟
المتهم: إن ترويع ومطاردة الرجال تلزمنا أن نغتصب النساء لآذلال الجميع، وأنا فعلا كانت تصلني تقارير عن تفاصيل عمليات الاغتصاب التي كادت تقترب مما حدث في رواندا، لكن الجميع يدفع ثمن الحروب.
القاضي: ما يحيرني في الأمر هي وقاحتك في الحديث عن الاسلام وتعاليم الله، عز وجل، وقوة إيمانك به، ورغبتك في اقامة عدالة دينية تنبع من الكتاب والسنة، وأنت عدو لدود لكل القيم والمباديء الأخلاقية السامية، لماذا لم تترك شعبك السوداني يعيش في سلام؟
المتهم: إن السلام الذي تتحدث عنه، سيدي القاضي، كان يعني حرية وديمقراطية وتقاسم ثروة بين أبناء الشمال والجنوب واعطاء الأفارقة السودانيين حقوقهم المساوية للمسلمين، وهذا سينتهي إلى مطالبة بانتخابات حرة ونزيهة، وبازاحتي عن السلطة.
القاضي: تدمر بلدا كبيرا رائعا كالسودان من أجل شهوة السلطة. لم يعرف السودان في تاريخه كله مخربا مثلك، ومجرما متعطشا للدماء باسم الدين، ومع ذلك فقد حكمت سنوات طويلة. كيف تمكنت من تغييب الشعب؟
المتهم: كنت أملك العصا السحرية، أي الدين وفي هذه الحالة فإن المعارضة تصبح اعتداءا سافرا على أوامر الله، ويصمت الناس، وتتقدم كتيبة متخلفة من أنصاف المثقفين ورجال الدين تبرر الجرائم كلها فلا صوت يعلو فوق الصوت الرسمي باسم السماء، ويستطيع أي شخص أن يسحر الجماهير بالشعارات الدينية، وأي مرشح في الانتخابات في عالمنا العربي يضمن أكثرية أصوات الناخبين لو عَلَّقَ فوق رؤوسهم شعار ( الإسلام هو الحل)، بل يمكنك أن تقتل وتذبح وترتكب كل الجرائم بحجة أن خصومك يخالفون تعاليم الدين، فيلعنهم العامة دون معرفة تفاصيل الحقيقة، ويتلقى القاتل دعوات وتهاني وتمنيات بجنة الخلد.
لم يكن أمامي، سيدي القاضي، غير هذا الحل السحري لاسترهاب الجماهير، واستغفال الحمقى، وتخدير العامة.
القاضي: لكنك جعلت شركاء الوطن من الجنوبيين يكرهون الاسلام، ويخشون تعاليمه، ويرحبون بأي تدخل أجنبي من أجل التخلص من الاستبداد الديني الذي تمثله أنت وزبانيتك.
المتهم: وأنا لم أكن أسمح بهذا الجون جارانجح أن يشاركني الحكم، وكغيري من أكثر زعماء عالمنا العربي لا نسمح لرجل ثان أن يسرق ولو جزءا ضئيلا من سلطتنا.
القاضي: الضغوطات الدولية حاصرت السودان، وكاد الأمر يتطور إلى تدخل عسكري غربي أمريكي كان يمكن أن ينتهي إلى فصل الجنوب تماما وتأسيس دولة تكون مرتعا لاسرائيل، ومطرقة على رؤوس الدول المطلة على النيل، وربما انفصال جديد لاقليم غرب السودان يشهد مذابح مخيفة ضد القبائل العربية، وهذا يعني بالمفهوم الاقتصادي الزراعي أيضا انتهاء أي أمل في وصول السودان إلى بر الأمان، هل تدري ما هي مسؤوليتك؟
المتهم: عندما وَثَبْتُ على الحكم لم أكن أعرف، سيدي القاضي، أن الأوضاعَ بهذا التعقيد والتشابك، وظننت أن الأمور ستجري في غاية السهولة، نظامُ حكم إسلامي يعتبرني فيه السودانيون أميرا للمؤمنين، وسلطة مطلقة لا تحدها حدود، وتبرير ديني من الترابي لأي جرائم أو أخطاء أو تجاوزات، ومنصب روحي في العالم الاسلامي.
القاضي: ألم تفكر باسم الاسلام أيضا في اغلاق المعتقلات والسجون التي لاتليق بآدمية الانسان، خاصة سجن كوبر المخيف، وأن تفرج عن الأبرياء، وأن تمنع التعذيب والاغتصاب وانتهاكات حقوق الانسان، أم أن هذا أيضا من إيمانك بالدين الاسلامي الحنيف؟
المتهم: لكن الحرية لم تكن مطلبا سودانيا بالمرة، وأنا أعطيت توجيهاتي بالاستمرار في عمليات الرقيق بعيدا عن أعين منظمات حقوق الانسان، وكنت أرى ملايين السودانيين يخرجون في مظاهرات أقرب إلى فوضويات المتحمسين للفاتح من سبتمبر العظيم.
أما كرامة المواطن فقد فكرت فيها عدة مرات، لكنني انشغلت في هموم داخلية أخرى ولو استمر حكمي عشرين عاما أخرى فربما كنت قد اتخذت قرارات جديدة في صالح كرامة المواطن السوداني!
القاضي: الجوع والفقر والمجاعات والجفاف تعصف بالمجتمع السوداني الذي يقيم فوق ما عرف ب( سلة العالم العربي) ولو كان في صدرك مثقال ذرة من خير لاهتز كيانك كله بأطفال بلدك وهم يبحثون في القمامة عن كسرة خبز، أو تضغط أسنانهم على أثداء أمهاتهم الفارغة من نقطة حليب واحدة وتحلق قريبا منهم طيور جارحة تنتظر خروج الروح من طفل رضيع لعله يكون صيدا ثمينا لها.
ماذا فعلت بهذا البلد الطيب؟
المتهم: لماذا لا تحاول، سيدي القاضي، تقدير ظروفي، فأنا أيضا إنسان يعشق السلطة والمال والاستبداد، وكانت كل الظروف مهيأة لي لكي أمارس أقصى درجات الطغيان منذ يونيو عام 1989 ولم تهتز الدنيا، وكل جيراني يعرفون ما يحدث، ويستقبلني العقيد في خيمته الملونة وأشرب معه حليب الناقة وأحصل على دعم، ويعانقني الرئيس المصري وهو يعلم أنني خططت لاغتياله، ويصمت آلاف المثقفين، وتخرس الألسنة، وتندفع كل التيارات الاسلامية، تقريبا، تتهم الغرب بأنه يعادي السودان لأننا نطبق الشريعة العادلة، ويغيب العلماء كما غابوا في أربعين عاما استعبد خلالها الحسن الثاني شعبه المغربي، بل إن عشرات من الجماعات الاسلامية التي ينضوي تحت لوائها ملايين من المسلمين، سرا أو جهرا أو تعاطفا، يضربون المثل بالعدل في نظام حكمي لمجرد أنهم علموا بقطع يد امرأة فقيرة أو بجلد شاب سرق بضعة جنيهات ليشتري دواء لأمه التي تحتضر.
القاضي: انقلابك على حكومة الصادق المهدي المنتخبة شعبيا أجهض كل محاولات السلطات السابقة تحقيق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، خاصة اتفاق ( ميرغني/جارانج)، وهذا يزيد الشكوك في أنك مدفوع لاثارة الاضطرابات في السودان، والغاء الاتفاقات والعهود، ثم ينتهي الأمر بتقسيم السودان وتحقيق حلم اسرائيل في منع كوب الماء عن المصريين كما يفعل الأتراك مع السوريين.
المتهم: هذا ليس صحيحا بالمرة فأنا لست مدفوعا من جهة خارجية وهدفي الوحيد كان مزيدا من السلطتين العسكرية والروحية ليصبح السودان كله تحت قدمي.
القاضي: ما هو دور جامعة الدول العربية في الصراع الدائر على أرض السودان؟
المتهم: لم يكن للجامعة أي دور، والمبادرة العربية الوحيدة كانت في أكتوبر عام 2000 وقدمتها مصر وليبيا، ورحبت أنا بها ولكن جون جارانج أدار لها ظهره.
القاضي: لماذا انقلبت على حسن الترابي؟
المتهم: بعد استيلائي على الحكم في يونيو عام 1989 قمت بحل مجلس قيادة الثورة، وشكلت المجلس الوطني الانتقالي عن طريق التعيين مع تركيزي على أعضاء الجبهة الاسلامية القومية، وأضفت إليهم خليطا عجيبا من لاعبي كرة القدم ونجوم المجتمع ( مثل نجم فريق الهلال طارق أحمد آدم، ومدرب المنتخب الوطني شوقي عبد العزيز، ووضعت العقيد محمد الأمين خليفة
رئيسا لهذا المجلس، وعندما جاء برلمان جديد بعد انتهاء فترة الأول، كان نصفه بالانتخاب والنصف الآخر بالتعيين، وهنا برزت أنياب الدكتور حسن الترابي الذي حاول سحب البساط من تحت قدمي وتقليص صلاحياتي، فقمت بحل البرلمان، وأعلنت حالة الطواريء في البلاد.
القاضي: كيف تعاملت مع انتهاكات حقوق الانسان التي يخفيها جحيم السودان في قلب سجن ( كوبر ) الأكثر شهرة في العالم العربي؟
المتهم: كيف يمكن أن أكون زعيما عربيا يهابني الجميع،ويحترمني زملائي، وتخشاني القوى المعارضة دون أن يكون تحت إمرتي سجن ينزل الرعب في قلوب خصومي؟
لقد أردت أن أنافس سجون الوطن العربي، فالأردنيون يسقطون خوفا عندما يأتي الحديث على ذكر معتقل ( الجفرة)،والمغاربة يعتقدون أن جحيم الآخرة أكثر نعيما من سجن ( تزمامارت)، وسجون ( القلعة وأبو زعبل وطره ) لدى الشقيقة الكبرى مصر يتبرأ مما يحدث فيها إبليس نفسه، أما ( تدمر) السوري فهو يفسر الآية الكريمة ( .. ثم رددناه أسفل سافلين )، ولن أحدثك، سيدي القاضي، عن ( سجن أبو سليم ) الليبي، وسجون ومعتقلات لبنان وتونس وموريتانيا والصومال والجزائر وما بقي من عالمنا المسكين.
أما العراق فقد تفوق في عهديه، الصدامي والأمريكي العلاوي، في التعامل مع السجناء والمعتقلين معاملة تنفر منها الحشرات.
إنني لم آت بجديد عندما أمرت جلادي النظام وكلابنا المطيعة من رجال الأمن بتعليم السودانيين أن يكون رقيقا مطيعين لعصا السلطة وأوامر القصر.
القاضي: هل حدثت محاولات انقلابية ضد نظام حكمك؟
المتهم: السودان، سيدي القاضي، مثل سوريا قبيل وصول الرئيس الراحل حافظ الأسد، من يستيقظ باكرا يتسلم الحكم.
عشرات الانقلابات التي حدثت في السودان منذ الاستقلال عام 1956، بعضها نجح، وأكثرها فشل. بعضها وثب قادتها على السلطة، والبعض الآخر تم اعدامه علنا أمام جماهير منفعلة ومهيجة رغم أن هذا يتعارض مع طبيعة الشعب السوداني المسالم.
أول انقلاب نجح كان بقيادة الفريق إبراهيم عبود وحكم البلاد بالحديد والنار لمدة سبع سنوات. وهناك انقلاب 25 مايو 1969 الذي قاده جعفر النميري مع بعض القوميين والشيوعيين، وظل هو أيضا يحكم بقبضة حديدية وحول السودان إلى مكان خصب لعشاق الدماء والقتل إلى أن انقلب عليه رفيقه هاشم العطا في 19 يوليو 1971 واحتل فعلا العاصمة الخرطوم لمدة يومين، لكن النميري قضى على الانقلاب، ونصب المشانق لعشرات الضباط، وظلت الانقلابات هكذا إلى أن جاء حكم ديمقراطي للصادق المهدي، فانتظرتُ ثلاثة أعوام حتى قمت بانقلابي بمساعدة المنظر الديني الدكتور حسن الترابي. وأنا تعرضت لمحاولات انقلاب كثيرة أهمها (انقلاب رمضان) عام 1990 بقيادة اللواء عبد الله الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد، لكنني نجوت بفضل الله وأعدمت 28 ضابطا كبيرا.
في عام 1992 قام البعثيون بقيادة أحمد خالد بمحاولة انقلاب ضدي، وكانت النتيجة مزيدا من المعتقلين في سجوني، ومنذ ذلك الحين وشعبي السوداني يعيش حالة من الخوف، وكبار الضباط يعرفون أنني لا أمزح في هذه الأمور وأن العدالة عندي هي حبل المشنقة أو الاعدام رميا بالرصاص.
القاضي: لماذا يشعر غير العرب والمسلمين في السودان بأنهم مستهدفون؟
المتهم: دعني أعترف لك، سيدي القاضي، وأنا بين يدي العدالة بأنني لم أفهم الخصوصية الثقافية للشعب السوداني، ولم أستوعب فكرة تداخل الهويات والثقافات والأديان والعقائد والمذاهب ليتكون منها نسيج نادر ومتكامل وصحي يثري الوطن.
القاضي: لو شعر السودانيون كلهم على اختلاف أطيافهم وألوانهم ومشاربهم أن حكومة مركزية تساوي بينهم لما رفع أحد السلاح دفاعا عن نهر أو بحيرة أو نفط أو جبال أو مزارع
المتهم: كنت أظن طوال الوقت بأننا أرفع شأنا وفكرا وحضارة من الجنوبيين وغير العرب، ولعلي أقوم بتشبيه وضعنا بوضع التداخل السنغالي الموريتاني الذي لم يستطع الطرفان أن يفهما ثراء الاختلاط فأججت السياسة الحمقاء مشاعر الكراهية.
القاضي: الآن أنت خلقت اشكالية جديدة وهي مشاعر البغضاء والكراهية التي صنعتها سنوات الحرب والقتل والاختطاف والمجاعة، وكذلك تحويلك قضايا المجتمع إلى نزاعات ايديولوجية بدلا من الأسباب الحقيقية وهي سرقة موارد الوطن والاعتداء على ممتلكات الغير واعتبار النفط من حق الشماليين، أليس هذا صحيحا؟
المتهم: لست المجرم الوحيد في تمزيق الوطن فقد كان معي حسن الترابي، وكان يبرر دينيا تجاوزاتنا، ويقوم مع الجبهة الاسلامية بتوزيع الأراضي المغتصبة على الأعوان والأصدقاء والمعارف، وقد حصل الكثيرون على مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية.
القاضي: اعترفت لأول مرة في نهاية شهر سبتمبر 2004 بانتهاكات حقوق الانسان في اقليم دارفور، لماذا انتظرت كل هذا الوقت وأنت تعرف أن عمليات قتل جماعية واغتصاب لنساء الاقليم تجري في كل يوم؟
المتهم: كنت أخشى أن يشمت في خصوم السودان لأنني أنكرت مرات عديدة وكنت أعرف أن عشرين امرأة وفتاة يتم اغتصابهن في كل يوم من قبل عصابات القبائل التي نقوم نحن بدعمها.
القاضي: هل تعرف أن المرأة في دارفور تخشى على زوجها وأولادها الذكور من القتل، فتضطر تحت وطأة الحاجة الملحة للخروج للبحث عن الماء وهي تعلم أنها معرضة غالبا للاغتصاب؟ أي مهانة تشعر بها هذه المرأة السودانية؟
وهل كنت تعرف أن عصاباتك تسحب الفتيات الصغيرات من المدارس وتقوم باغتصابهن؟
المتهم: لم يكن بيدي أي حل، سيدي القاضي، فقد أفلت الزمام والعصابات لم يكن من الممكن السيطرة عليها، والاغتصاب في الحروب اذلال للرجال قبل النساء.
القاضي: قلت خلال الاحتفال بالعيد الخمسين لتأسيس الجيش بأنك قادر على احلال السلام والأمن في دارفور، وأن أعداء الوطن يثيرون الاضطرابات بعد نجاح الحكومة في المحادثات مع الجنوبيين، لماذا إذن استمرت الانتهاكات حتى أن الشرطة السودانية تقوم باغتصاب النساء في مقابل حمايتهن من قبائل الجنجويد العربية؟
المتهم: كنت مضطرا لقول هذا وذلك لرفع الروح المعنوية لجنودي في عيد القوات المسلحة، لكن الحقيقة أن السودان كله كان ينهار أمام عيني، وكنت أعرف أن نهايتي اقتربت، وان الأمر لا يعدو أن يكون عدا تنازليا قبل وقوفي المهين أمام عدالتكم.
القاضي: لماذا لم تقم بمعاقبة رجال الأمن الذين انتهكوا حقوق المواطن، بل إنك منحتهم حريةَ استجواب وتعذيب المواطنين، ثم حبسهم لفترات طويلة دون اللجوء للقضاء؟
المتهم: لأن خصومي أقوياء، وكان لابد من استخدام القوة المفرطة في التعامل مع المتمردين والمشاغبين والمتظاهرين والمعترضين على طريقة حكمي.
إن قوات الأمن القومي تقوم باعتقال العشرات وحبسهم لمدد تزيد على تسعة أشهر دون اللجوء للقضاء أو ابلاغ أهلهم وأقربائهم، ونحن كما ذكرت من قبل نقوم بقطع الأيدي والأرجل وبتر الأطراف والجلد، وحتى أضمن عدم تذمر قواتي الأمنية فإنني لا أحيل أي ضابط للمساءلة ، فهم رجالي.
القاضي: قلت في حديث لصحيفة ( الأهرام ) القاهرية أنك تسعى لاقامة نظام حكم ديمقراطي فأين كنت منذ عام 1989؟
حتى في محنة دارفور كنت تمنع الصحفيين والاعلاميين من تغطية الأخبار الحقيقية لكارثة الاقليم، وكنت تعطي الأوامر للجيش بأن يصاحب عصابات الجنجويد لابادة السكان واحراق بيوتهم ومطاردة المتمردين بقسوة وغلظة.
المتهم: كل الزعماء يتعاملون بهذه الطريقة، أي وضع حقيقي، وآخر لتلميع النظام والتعامل مع العالم والمنظمات الدولية وأنا أظن أنها كانت مؤامرة أمريكية.
القاضي: هل تهجير أكثر من مليون من أبناء الاقليم وقتل مئة وخمسين ألفا واغتصاب آلاف النساء والفتيات وتلميذات المدارس مؤامرة أمريكية؟ لقد كنت أنت المجرم الأول في مذابح العصابات وجنودك ضد أبناء شعبك، وبعض الحقائق لا تستطيع أن تخفيها بأصابعك فالعالم كله شاهد رغم التعتيم الاعلامي من طرفك أكبر عمليات تهجير وقتل واستخدام سياسة الأرض المحروقة. لماذا لم تصل إلى اتفاق نهائي مع جون جارانج؟
المتهم: لأن الحركة الشعبية لتحرير السودان أعني متمردي الجنوب غيرت جلدها مرات كثيرة فقد بدأت حركة يسارية يدعمها منجستو هيلا مريم وتتلقى مساعدات من موسكو، ثم طالبت بتقسيم ثروات البلاد بين الشماليين والجنوبيين، ثم بدأت في وضع لمسات مسيحية على الحركة وفتح الجنوب لحركات التبشير المرتبطة بقوى الاستعمار، وأخيرا كشفت عن وجهها ورفضت حكم الشريعة الاسلامية واعتبار مسيحيي الجنوب غير معنيين بالحكم المركزي في الخرطوم. إن جون جارانج هو الذي يرفض السلام.
القاضي: أنت كاذب كيوم استيلائك على السلطة، فلو عاملت أبناء بلدك من غير العرب والمسلمين معاملة حسنة وتساويهم بالخرطوميين لما خشي الجنوبيون الصلح والسلام. الآن قل لي لماذا أنكر حسن الترابي وجود بيوت الأشباح وبعد الاعتداء عليه في كندا عاد ليؤكد، على الرغم من أنها سجون ومعتقلات سمع بها القاصي والداني ودَوَّنَ بعضُ الذين وُلدوا من جديد، أعني خرجوا منها أنها أكثر رعبا من أشد تخيلات أي مخرج لأفلام الرعب؟
المتهم: لم يكن ممكنا لي الحفاظ على وحدة الوطن وأمنه دون بيوت الأشباح، ففيها يتعلم المعارضون آداب السلوك مع السلطة، ويتردد من هم خارجها سبعين مرة قبل انتقاد السلطة.
القاضي: كيف وصل احتقاركم للانسان السوداني لدرجة جلد طالبات من كلية الأحفاد الجامعية أمام مبنى الجامعة في مشهد مقزز ومناف تماما للقيم والأخلاق؟
المتهم: كنا نبحث عن تعاطف الجمعيات الخيرية الاسلامية في دول الخليج، ونعرف أن مثل هذه الأمور التي ستصلهم على أنها التزام من النظام السوداني بتطبيق شرع الله ومحاربة الرذيلة ومطاردة الفساد فإن التبرعات ستنهال علينا .
القاضي: ومعروف أيضا عنك الغدر، ليس فقط لأنك طعنت الكويتيين في ظهورهم بالتعاون مع شيطان بغداد وتأييد الاحتلال البعثي الفاشي لدولة الكويت التي لم تتأخر في دعم المستشفيات والمدارس والجامعات والمشروعات الزراعية والمساجد وغيرها في السودان، لكنك غدرت بالأفراد وقمت ببيع كارلوس للسلطات الفرنسية، وببيع الشيخ عمر عبد الرحمن للاستخبارات الأمريكية تماما كما يبيع العقيد القذافي كل أصدقائه من أجل أن ينجو من مصير صدام حسين، أليس في قلبك ذرة رحمة أو وفاء تركها إيمانك بالله وبالاسلام الحنيف؟
المتهم: أرجوك، سيدي القاضي، فلم يعد بامكاني تقريع الضمير بأكثر مما فعلت، ولو استمرت الجلسات عدة أيام فسأصبح في كتب التاريخ السوداني لأجيال قادمة أحد الأشباح التي امتلئت بها سجوني ومعتقلاتي.
نعم أنا مجرم وقاتل وقمت متعمدا بتخريب وطن وتمزيق دستوره واستخدام الدين كستار للفساد والطغيان والاغتصاب، وأنا نادم أشد الندم على يوم وسوس لي الشيطان بانهاء الحكم الديمقراطي في السودان في 30 يونيو عام 1989 لأقيم فوقه واحدة من جمهوريات الخوف التي لم يكن عالمنا العربي محتاجا لها فلديه الكثير منها.
القاضي: وحتى لو اصدرت حكما مخففا عليك، فإن نار جهنم ستميز غيظا وهي تتلقفك في حممها، وطرق القاضي على المنضدة، ثم نظر إلى جمهور الحاضرين المتعطش لصوت العدالة وقال: الحكم بعد المداولة.
التعليقات (0)