كنا في هياج صبانا نحفظ حول فوائد الأسفار لابتزاز موافقة الأهل، ذلك البيت الشعري المتنازع على قائله وصحة نسبه، ولا نكاد نعدّ إحداها حتى يأتي الرفض؛ فلا نعلم عددها حقاً. كنت أظنها سبع فوائد جريا على ولع العربي بالرقم السحري، لكنني سعدت إذ تبين لي أنها خمس فقط؛ لأن ذلك يجعل مهمتي في هجو الأسفار أكثر سهولة، بعد ما عانيت في سفر طويل أخير، جعلني أشك لا في صحة البيت ونسبه، بل في مضمونه وفحواه. فأية فوائد تجنى اليوم من سفر ترى فيه عجباً، وتبصر ما يلاقيه المسافر المنصاع لنصيحة الشاعر: “سافرْ.. تجد عوضاً، أو سافر ففي الأسفار خمس فوائدِ”، ثم تجد عذرا له ولسواه ممن نظّروا للتغرب والسفر ـ ربط أبو تمام الاغتراب بالتجدد، وأعلن المتنبي استراحته للسفر في الهجير والفلاة عوضاً عن تعبه بالإقامة ـ والعذر يكمن في أن الشعراء والناصحين لم يدر في خيالهم ما يمكن أن يعكر تلك اللحظة المزاجية المليئة بالمفاجآت والتجوال الحر خروجاً عن سياق الجماعة، أو المكان والمحيط.
أستذكر الفوائد، وأنا في طابور من مسافرين حفاة، لأن أحذيتهم ابتلعتها أجهزة الكشف الليزري، يجرون خلف حاويات أشيائهم، أو السلال التي تجمع فيها ما لا يخطر في بال: أجهزة الحاسوب والأحذية والأحزمة والنظارات والساعات والمَحافظ والعملات والمفاتيح والتذكارات الصغيرة وآلات التصوير. ويحدث أن بعض الأمتعة لا تظهر فيتوقف أصحابها منكبين على الطاولات ملاحقين ظهورها وهارعين للبوابات التي تتباعد حتى تحسب أنك ستصل هدفك مشياً أو على سلسلة سلالم كهربائية يتعالى بعضها كسقف خرافي لا ترى أوله وآخره. عليك أن تجري، فالوقت يمر ومآوي الطائرات والخراطيم التي تضعك فيها البوابات متناثرة بين أسواق ومطاعم لا ترى منها سوى أضوائها، لأنك في شغل وقلق على رحلتك.
تدنو مرة أخرى لتفحص الأيدي هذه المرة ما بجوف حقيبتك: ولئن كنت ممن يحملون إشارات وطنهم وترميزات النوستالجيا المسافرة معك، فعليك توقع مشاهد فكاهية تحاكم التمر خلاصة التوق العراقي وتقلّب الزبيب اليمني والزيتون الشامي والقهوة واللبان والمطيبات وتتناثر الأطعمة على الطاولات، وعليك أن تلمها مسرعاً، فثمة تدقيق آخر، بعد أن ثبتت براءة التمر من حشوات ناسفة أو سموم قاتلة.
تنصت للأسئلة من أين وكيف وكم ومتى.. وتنظر في ساعتك: لن تلحق الطائرة وستغفو ساعات على كرسي.. حتى يحين موعد الطائرة التالية لتجد مجددا من يحرس البوابات، وكأنه موكول بالحشر وتقرير مأواك جنة او جحيماً.. يداه تجوسان جيوبك وجوانبك وفروة رأسك، لكنك إذ وقفت مشرع اليدين في جهاز يصور أجزاء جسدك تذكرت اللوحات المرسومة بالأشعة لجماجم ووجوه وعضلات تنفر منها، وتحسبها عظام موتى. وأنت تدخل الطائرة في زحام ممراتها ومخابئ الحقائب وضيق الكراسي وتلاصقها تتذكر أنك فقدت حاسوبك، أو حزامك أو كتابا تعلق بالجهاز، وعلى غلافه مدوّنة ساخرة عن خسائر السفر السبع.
مقالات للكاتب حاتم محمد الصكر
التعليقات (0)