في السنة العاشرة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم للحج (حجة الوداع) في أكثر من مائة ألف من المسلمين وعند جبل عرفات ألقى على مسامع المسلمين خطبته الخالدة التي تُعد دستور الإسلام ولا غرو فقد بين فيها قواعد الإسلام ومبادئه الأساسية ونادى بالمساواة بين الناس ، لا فرق في ذلك بين العبد الحبشي والشريف القرشي : (أيها الناس ! إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) .
وقد أكتمل نزول القرآن بنزول قوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممتُ عليكم نعمتي ، ورضيتُ لكم الإسلام دينا) سورة المائدة( 5:3).
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :
(أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رؤوس أموالكم ، لا تَظلمون ولا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم أبن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل فهو أول ما ابدأ به من دماء الجاهلية أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبد بأرضكم هذه أبداً ، ولكنه يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم ، أيها الناس : إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ، ويحرموا ما احل الله ، وان الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فروشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فأعقلوا أيها الناس قولي قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، أمر بيناً كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس اسمعوا قولي وأن المسلمين أخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت).
ولم يمض على حجة الوداع ثلاثة أشهر حتى مرض الرسول عليه الصلاة والسلام وكان مبتدأ شكوى مرضه الذي قبض فيه أنه خرج إلى شهداء بقيع الغَرْقد في جوف الليل ، فاستغفر لهم ثم رجع إلى أهله فلما أصبح ابتدأ وجعه في ذلك اليوم .
عن أبي مويهبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال : (يا أبها مويهبة، إني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع ، فأنطلق معي) ، فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم قال (السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى). ثم أقبل عليَّ فقال : يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنَّة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)، قال : فقلت : بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، قال : (لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي والجنة) فاستغفر لأهل البقيع ،ثم انصرف فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبضه الله فيه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع ، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي ، وأنا أقول وارأساه فقال: ( بل أنا والله يا عائشة وارأساه) ، قالت :ثم قال: (وما ضرك لو مُتِّ قبلي فقمتُ عليك وكفنتك ، وصليتُ عليكِ ودفنتك) ، قالت: والله لكأني بك ، لو قد فعلت ذلك ، لرجعت إلى بيتي ، فأعرست فيه ببعض نسائك ، قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتام به وجعه ، وهو يدور على نسائه ، حتى استعزَّ به وهو في بيت ميمونة ، فدعا نسائه فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي ، فأذنَّ له . (إسناده صحيح وصححه الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز . ص 67) .
مرض الرسول بالحمى فلما رأى الأنصار اشتداد المرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أحاطوا بالمسجد، فأخبره الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب بذلك فخرج متوكئاً على علي والعباس والفضل بن العباس - رضي الله عنهم - أمامهم وكان الرسول معصوب الرأس يخط برجليه ، فدخل المسجد وجلس في أسفل مرقاة من المنبر وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ، قال : إن عبداً من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله . قال: ففهمها أبو بكر رضي الله عنه فبكى وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رِسْلِك يا أبا بكر ثم قال : (انظروا هذه الأبواب اللافظة في المسجد، فسدوها إلا بيت أبي بكر ، فإني لا أعلم أحداً كان أفضل في الصحبة عندي يداً منه) .
وكان من جملة ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة أيها الناس ! (بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم ، هل خلد نبي قبلي ممن بعث الله فأخلد فيكم؟ ألا إني لاحق بربي ، وأنكم لاحقون بي ، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً وأوصي المهاجرين فيما بينهم فإن الله تعالى يقول: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . (سورة العصر) ، وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عزَّ وجلَّ ولا يعجل بعجلة أحد ، ومن غالب الله غلبه ،ومن خادع الله خدعه ، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ؟ وأوصيكم بالأنصار خيراً ، فإنهم تبوءوا الدار والإيمان من قبلكم ، وأن تحسنوا إليهم ، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار ؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة ؟ ألا فمن وليَّ أن يحكم بين رجلين ، فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم ، ألا ولا يستأثرون عليهم ، ألا وإني فرط لكم وانتم لاحقون بي ، ألا فإن موعدكم الحوض، يعني (حوض الكوثر) ألا فمن أحب أن يرده علىَّ غداً فليكفف لسانه إلا فيما ينبغي) .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مرضه قد أعد جيشاً وأمَّرَ عليه أُسامة بن زيد وأمره أن يؤطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين . فحث الناس في خطبته هذه بإنفاذ بعث أُسامة بن زبد فقال: (أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقاً لها) . ذلك أن الناس كانوا قد قالوا في إمرة أسامة : أمَّرَ غلاماً حَدثاً على جِلة من المهاجرين والأنصار. فتجهز الناس للخروج إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ثقل في مرضه فأقام أسامة والجيش بالجرف لينظروا ما الله قاض برسوله صلى الله عليه وسلم .
ذكر عن أُسامة بن زيد قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هبطتُ وهبط الناس إلى المدينة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أُصمت فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليَّ فأعرف أنه يدعو لي.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لما اشتد به مرضه قد أمر أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة بالناس، وذُكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصلِ بالناس) . قال أبن شهاب حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ، قال : لما استعِز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين ، قال : دعاه بلال إلى الصلاة ، فقال : (مروا من يصلي بالناس) قال: فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً ، فقلت قم يا عمر فصلي بالناس ، قال: فقام ، فلما كبر ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته ، وكان عمر رجلاً مجهراً ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأين أبو بكر ؟ يأبي الله ذلك والمسلمون، يأبي الله ذلك والمسلمون). قال فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة ، فصلي بالناس . قال عبد الله بن زمعة : قال لي عمر : ويحك ! ماذا صنعت يا ابن زمعة ، واللهِ ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ، ولو لا ذلك لما صليت بالناس . قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم أرَ أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس. (إسناده صحيح وقد أخرجه أحمد (4/322) وأبو داوود (4660). وأبن سعد في الطبقات (2/225) . انظر السيرة النبوية لأبن هشام (ج4/208-209).
وذكر النووي (ج2ص 191) عن علي بن أبي طالب أنه قال : قدم رسول الله صلى الله وسلم أبا بكر يصلي بالناس ، وأنا حاضر غيرُ غائب وصحيح غيرُ مريض . ولو شاء أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله عليه السلام لديننا .
ولما كان يوم الاثنين الذي أنتقل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه إلى المسجد وأبو بكر يصلي بالناس ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الناس وتفرجوا ، فعرف أبو بكر أن الناس لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتراجع عن مصلاه فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده الشريفة في ظهر أبي بكر ، وقال: (صلِ بالناس) ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فصلى قاعداً عن يمين أبي بكر ، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس ، فكلمهم رافعاً صوته ، حتى خرج صوته من باب المسجد ، يقول : (أيها الناس سُعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإني والله ما تمسكون علىَّ بشيء ، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن) .
فلما فرغ الرسول عليه الصلاة السلام من حديثه خاطبه أبي بكر رضي الله عنه قائلاً : (يانبي الله ، إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تُحب ، واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها) ؟ قال : نعم ثم دخل صلى الله عليه وسلم بيته ، وخرج أبو بكر إلى أهله .
وفي يوم الاثنين 13 ربيع الأول سنة 11 هـ . انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه وهو في الثالثة والستين من عمره بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة على أحسن الوجوه وأكملها . وقد وقع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين وقع الصاعقة ، حتى أنهم ذهلوا ونسوا ما نزل من الآيات التي تشير إلى موت الأنبياء كسائر البشر ، فوقف عمر بن الخطاب رافعاً سيفه مهدداً بقتل كل من يقول بوفاة النبي ، ويقول : (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفى وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب كما ذهب موسى بن عمران للقاء ربه ، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه سلم فلَيُقَطِعنَّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله إني لأمشي مع عمر بن الخطاب في خلافته وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدرة ، وما معه غيري ، قال وهو يحدث نفسه ، ويضرب وحشي (يعني خارج) قدمه بدرته قال : إذ التفت إلىَّ فقال : يا ابن عباس ، هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قلت : لا ادري يا أمير المؤمنين ، أنت أعلم ، قال: فإنه والله ، إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية (وكذلك جعلناكم أُمَةً وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيداً) فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت .
فلما أقبل أبو بكر وكان وقتها مع أهله بالسنح نزل عند باب المسجد وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مسجى في ناحية البيت عليه بُرْد حِبَرة فكشف عن وجهه، ثم أقبل عليه فقبله ثم قال: (بأبي أنت وأمي ! طبت حياً وميتاً ! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن يصيبك بعدها موتة أبداً ، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحدٍ من الأنبياء من النبوة ، فعظمت عن الصفة ، وجللت عن البكاء ، وخصصت حتى صرت مسلاة ، وعممت حتى صرنا فيك سواء ، ولولا أن موتك كان اختياراً منك لجدنا لموتك بالنفوس ، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشؤون ، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وإدناف يتخالفان ولا يبرحان ، اللهم فأبلغه عنا السلام . أذكرنا يا محمد عند ربك ، ولنكن من بالك ، فلولا ما خلفت من السكينة لما خلفت من الوحشة اللهم أبلغ نبيك عنا ، وأحفظه فينا).
ثم خرج أبو بكر إلى الناس وخطب خطبته الحكيمة ، فثاب الناس إلى رشدهم قال: ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ، وأشهد أن الكتاب كما نزل ، وان الدين كما شرع ، وأن الحديث كما حدث ، وأن القول كما قال ، وان الله هو الحق المبين . ثم قال : أيها الناسُ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيُ لا يموت ثم تلا هذه الآية : (وما محمدُ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) ، ( سورة آل عمران 3:144) . وإن الله قد تقدم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعاً ، وإن الله قد اختار لنبيه ما عنده وما عندكم ، وقبضه إلى ثوابه وخلف فيكم كتابه وسنّة نبيه . فمن أخذ بهما عرف ، ومن فرق بينهما أنكر . يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ، ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم ولا يفتنكم عن دينكم ، فعاجلوه بالذي تعجزونه، ولا تستنظرونه فيلحق بكم .
فلما فُرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع في سرير في بيته وكان المسلمون قد اختلفوا في مكان دفنه فمنهم من قال يُدفن في مسجده وآخرون قالوا بدفنه مع أصحابه بالبقيع ، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ما قبض نبي إلا دفن حيث يُقبض) فَحُفِر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت فراشه الذي قبض فيه ببيت عائشة رضي الله عنها ، ثم أقبل الناس يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً ، فدخل الرجال حتى إذا فرغوا دخلت النساء ، حتى فرغ النساء أُدخل الصبيان ، ولم يؤم الناس في الصلاة علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
صفات الرسول صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل القامة متوسط الطول ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، كثيف الشعر ، سبط الأطراف ، عريض ما بين الكتفين ، أبيض اللون مشرباً بحمرة ، أكحل العينين أدعجهما . وكان يُعني بنظافة جسمه وثيابه ويحرص على حسن هندامه ، وفي ذلك يقول (النظافة من الإيمان). وكان حاضر البديهة سريع الجواب في أدب ووقار ، كما كان كثير الانشراح والتبسط مع أصحابه وأهله . شديد الحياء إلا في حدود الله ، فإنه لا يخشى في إقامتها لومة لائم ، روي عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذارى .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم سياسياً حكيماً ذا رأي وفكر ثاقب ، وقد بدت مهارته السياسية في التأليف بين أهل المدينة ,هم الأوس والخزرج ، وبين الأنصار والمهاجرين وروي أبن هشام
(ج 3 334-335) أنه لما تفاقمت روح العصبية بين المهاجرين والأنصار في غزوة بني المصطلق بالمريسيع حتى قال عبد الله بن سلول قولته : أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فأمر الرسول صلى الله وسلم بارتحال الجيش وسار في وقت الظهيرة ولم يرح الجيش حتى وصل إلى المدينة لكي لا يترك للرجال فرصة للجدال والانقسام . كما رفض ما عرضه عليه عمر بن الخطاب من قتل (ابن أبي سلول) وترفق بابنه عبد الله إذ طلب إليه أن يأذن له بقتل أبيه إذا أراد ، فقال له الرسول : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا .
وفي غزوة الخندق ظهرت حنكته وحسن سياسته أيضاً في الانتفاع بحسن صلة نعيم بن مسعود بكل من قريظة وقريش وغطفان في الإيقاع بهم والتخذيل فيما بينهم . ذلك أن الرسول صلى الله عليه قد طلب منه قائلاً : (خذل عنَّا فإن الحرب خدعة) .
كذلك موقفه في بث روح الطمأنينة ، وتهدئة نفوس وخواطر الأنصار ، ورفع معنوياتهم ، وكسب ودهم رضاهم ، بعد أن اوجدوا في أنفسهم ، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد قام بتوزيع فيء وغنائم غزوة حنين على سادات القبائل ، ورؤساء وزعماء العشائر ، من قريش وقبائل العرب متألفاً لهم بهذه العطايا دون الأنصار ، فتوجس الأنصار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعد يحفل بهم ، ولا يُعنى بشأنهم كما كان من قبل ، وقد يتخلى عنهم وأنه ربما لا يعود معهم إلى المدينة ، بعد أن منَّ الله عليه بفتح مكة مسقط رأسه ، وعودته إلى أهله وعشيرته وبلده ، فجمعهم وخطب فيهم تلك الخطبة التاريخية التي تجلت فيها حسن سياسته ، وقدرته على جذب النفوس ، وتأليف القلوب إليه .
وكان من أمر هذه الخطبة أن دخل سعد بن عبادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب . ولم يكُ في هذا الحي من الأنصار منها شيء . قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) ، قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي . قال : (فاجمع لي قومك) . فخرج سعد ، فجمع الأنصار ، فأتى الرسول صلى الله عليه وقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : (يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم ، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم !) قالوا: بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل ، ثم قال: (ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله أمن وأفضل، قال صلى الله عليه وسلم : (أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدقتم ، أتيتنا مُكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك . أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم ، في لعلعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار ، أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار . اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً . وغير هذا الكثير من المواقف التي أظهر فيها الرسول مقدرته السياسية وحكمته ، والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا.
وكان الرسول لا يبارى في جوده وكرمه . قال جابر : ما سئل عليه السلام عن شيء فقال لا . وقال بن عباس : كان أجود الناس بالخير ، وأجود ما يكون في شهر رمضان . وعن أنس أن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى بلده وقال أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة . وأعطي غير واحد مائة من الإبل ، وحمل إلى الرسول تسعون ألف درهم ، فما رد قائلاً حتى فرغ منها . وجاءه رجلُ فسأله فقال: ما عندي شيء ، ولكن اتبع علي فإذا جاءنا شيءُ قضيناه ، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه فكره النبي ذلك ، فقال رجلُ من الأنصار : يا رسول الله! أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً فتبسم صلى الله عليه وسلم ، وعُرف البِشر في وجهه وقال : بهذا أمرتُ .
صلى الله عليك يا علم الهدى .. يا كنز العلم والمعرفة .. يا سيدي يا رسول الله صلاة موصولة إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها .. وجزاك الله عن أمتك خير ما جزي به الله تعالى نبي عن أمته .
التعليقات (0)