وأنا بعدُ في مرحلة المراهقة الأولى، قبل أن تغتال قذائف الجهل وحرائق الحرب الطائفية، ما يثبت أني كنت طفلة و مراهقة يوما ، حين إحترق منزلنا ، إحترق كل ماضيّ الأول، وأضحت كلّ صوري رمادا، كما إحترقت أيضا أول رواية قرأتها، وكنت قد إستأجرتها في البداية من العم "حسن الملاح" وهو( رجل عجوز كان يملك مكتبة ,عبارة عن متر في متر يعرض فيها كتبه القديمة التي كانت تمتاز بلون اوراقها الصُفر للبيع او للأيجار) ثم من إفتتاني بها قررت جمع ثمنها وإقتناءها وكانت للكاتب الروسي" دستويفسكي".بعد كل تلك المتراكمات من السنوات حرقت ذاكرتي التفصيلية لصوري للأشخاص ، هل أصبحت الكتابة فعلَ حشو على الورق، وملءالفراغ بجمل لا تضيف الى القارىء جديدا ،يُغيرعلى فكره يغير استراتيجيته، هل باتت الكتابة ترفا والقراءة ضجرا أم أن ما حدث هو أعمق مما يبدو في ظاهره تراجع حضور الورق وقراءة الكتب الحقيقة، إنها مسألة شائكة وخطيرة معظمنا يتجاهلها حتى في مناهجنا التربوية التي لم تعد تشجع على القراءة الحرة، عبر المكتبات المدرسية معظم الطلاب يقرأون ما يجبرهم المنهج عليه ،وبعض المناهج لم تعد تتبع الطريقة التقليدية في حصول الطالب على المعلومة بل مكننة المكتبة وحوّلتها الى أجهزة كومبيوتر، تقدم للتلميذ عبر الانترنيت ما يرغبه من معلومة، وغالبا ما تكون معرفته آنية ،مرتبطة بحاجته في الحصول على علامة مرتفعة ، اذا ، ما الذي حدث وتقهقر الكتاب، وتقلصت المكتبات وانتشرت المقاهي، التي تقدم النت المجاني؟ كثرٌ يقولون هذا التطور جعل الكتاب جليسا مملا ، لا يرغب هذا الجيل في هدر وقته حتى لمجرد تصفحه أو الإطلاع عليه، كلنا يعلم أن أي تطور له وجهان ,وجه ايجابي وآخر سلبي ومن سلبيات الواقع المعاصرسهولة الحصول على المعلومة من مؤشر البحث "غوغل" وسهولة نسيانها، فالمعلومة جاهزة بالكاد ترسخ في ذهن قارئها وفي معظم الأحيان هو يشعر بنوع من الإتكال،ان محرك البحث موجود والمعلومة تنتظره ، بينما فيما مضى كان الباحث او القارىء يقصد المكتبات العامة والخاصة ليمضي بها معظم وقته باحثا عن المعلومة، التي يبذل في سبيل الحصول عليها وقته وجهده . ومن جهة أخرى، المكتبات هي جزء من حضارة الشعوب ، تضم وثائق ومخطوطات وكتب نادرة بعيدة كل البعد عن الإنسان المعاصر ،الذي يحرق وقته على شبكات التواصل، من "فيس بوك" إلى "واتس أب" والمجنون "التويتر"، نحن فعلا لسنا بعصر الورق وعبقه المعتق النافذ الى أعماق ذاكرتنا ،حتى انتشار الكتب اليوم يسلك طرقا مختلفة ، لا يمرّ في المطبعات بل في كونه مضغوطا ومنشورا على الإنترنيت بنظام pdf، لا نرى في أيدي أولادنا كتبا بل أجهزة ذكية، غزت كبارنا وصغارنا حتى باتت تستهلكنا. نحن شعوب تمضي أوقاتها في المطارات وفي أماكن الانتظار تتحدث على الهاتف، أو تثرثر على صفحات التواصل الاجتماعي، تحصي اللايكات بينما بمقارنة بسيطة ، نجد الانسان الغربي، يحمل دائما كتابا ليقرأ في المطارات والقطارات وعلى البحر، وفي اي مكان عليه الإنتظار ،لم تستعبده التكنولوجيا ولم يسقط في غواية الأجهزة الذكية، فقد عرف كيف يستغلها بشكل يسخرها لتطوير نفسه،علميا وثقافيا ،لكننا كعرب علينا ان نقر، أننا غير مؤهلين للعولمة ،فسقطنا وأسقطنا جيلا بأكمله في حضارة لم تبن على حضارة ،بل أجرت إنقلابا حضاريا ،غير في المفاهيم والقيم الانسانية وطرق التواصل بين البشر.
في وسط كل هذا هل سيبقى للقراءة أملٌ بأن يحمل لواءها راغبٌ ينشد العلاقة الخاصة المميزة في قراءة الكتاب الورقي ، التي هي علاقة حسية تقوم على الحواس، فالقارىء يلمس الورق يشمه ويتابعه فيتحول بين يديه الى زهرة حية تنشر عبيرها في ذاكرته .. لعلنا نصحو من غفلتنا ونعيد تلك العلاقة الخاصة بين الذاكرة وعطر الورق..
التعليقات (1)
1 - yona281@yahoo.com
يونس - 2015-12-08 06:41:27
و من قال أنّ الكتاب مجرّد جماد فهو جاهل