أن تظاهر الحمقى والاغبياء المشهود له بذلك هو مدعات للضحك والسخرية، حتى لو كان الولايات المتحدة بكلّ عظمتها وجبروتها، فإدارة هذه الدولة الباغية تسعى لإقناع العراقيين أنّها تريد مشاركتهم في الدفاع عن وجودهم ضدّ الإيرانيين، وربّما ضدّ الكويتيين! وتسعى في الوقت نفسه لإقناع الإيرانيين أنّها تبغي التعاون معهم ضدّ الأخطار المحدقة بهم، المتمثّلة بالعراقيين، أو الأفغانيين! إنّها تقول لكلّ واحدة من دول المنطقة أنّها تريد مساعدتها ضدّ الأخرى!
لكن الإدارة الأميركية الصلفة المتغطرسة، الحمقاء بدليل صلفها وغطرستها، تحاول عبثاً ممارسة ما عرف عن الاستعمار البريطاني المندثر من خبث ودهاء، فلا تكتفي بمحاولة وضع كلّ دولة من دولنا في مواجهة شقيقتها، بل تعرض خدماتها على الأطراف المحلّية داخل كلّ دولة، فهي مع “حقّ تقرير المصير” لكلّ فئة أو جماعة قومية داخل الوطن الواحد، وهي مع “استقلال” أصحاب الدين الواحد عن أصحاب الأديان الأخرى داخل الدائرة القومية الواحدة، وأبعد من ذلك هي مع استقلال المذهب عن المذهب داخل الجماعة الدينية الواحدة..الخ، على الطريقة الإنكليزية القديمة!
وكان الصهاينة الجدد في إدارة بوش قد صرّحوا غداة احتلال العراق أنّ من حقّ واشنطن، بصفتها المركز الإمبراطوري العالمي، أن ترتّب أوضاع العراق بالصورة التي تتفق مع مصالحها، مثلما فعلت لندن عندما كانت المركز الإمبراطوري العالمي في نهاية الحرب العالمية الأولى! وعلى هذا الأساس انطلق نائب الرئيس الحالي، السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن، يعدّ الخطط في الكونغرس، في عهد بوش الجمهوري، لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات على الأقل تجمع بين الصفتين القومية والدينية، ويعمل بنشاط منقطع النظير لإقناع الكونغرس بإقرارها، وهو ما حدث بالفعل لاحقاً، وفي عهد الإدارة السابقة!
بالطبع، إنّ العمل على تقسيم العراق، أو أيّ بلد آخر منكوب بالاحتلال أو بالنفوذ الأجنبي، ليس هدفاً في حدّ ذاته بل وسيلة لتحقيق الأهداف، وليس غريباً أن يعمل المحتلّ على تحقيق التوحيد (الشكلي) إذا ما اقتضت مصالحه ذلك، الأمر الذي يستدعي أن ندقّق جيّداً في مضمون وأهداف العمل الوحدوي مثلما نفعل مع العمل الانفصالي، فلربّ “وحدة” مريبة ملغومة منعت وحدات (على وزن ربّ وجبة طعام منعت وجبات!). ولقد كانت لاحتلال العراق أهداف عديدة خطيرة، عراقية وإقليمية ودولية، وإذا كان تحقيقها قد تعثّر ولم ينجح في تجاوز خطوته الأولى، بفضل بطولات الشعب العراقي المقاوم، فإنّ ما يحدث اليوم يدلّ على أنّ الإدارة الأميركية الجديدة لم تتخلّ أبداً عن تحقيق هذه الأهداف، إنّما بطرق ووسائل شكلية أخرى، أبرزها المراوغة بالهدوء وبليونة الخطاب السياسي والعلاقات السياسية داخل العراق المحتلّ وخارجه.
لقد كانت أبرز أهداف المحتلين الأميركيين عراقياً هي الاستيلاء على النفط العراقي الذي تفوق كميته الإجمالية الأربعمائة مليار برميل، والسيطرة الدائمة على أرضه للاحتفاظ بنفطه من جهة ولاستخدامها كقاعدة انطلاق عدوانية للهيمنة على مجمل البلدان الواقعة ما بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي من جهة أخرى، وتحويله من بلد خطر على الكيان الاستيطاني الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة إلى واحدة من صمّامات الأمان لهذا الكيان! وقد كان واضحاً منذ البداية أنّ تحقيق مثل هذه الأهداف العظمى يقتضي تجزئة العراق رسمياً، وإلاّ فواقعياً إن لم تكن التجزئة الرسمية ممكنة بعد! ويقتضي تشكيل حكومة عراقية وجيش وقوات أمن عراقية موالية بل تابعة! ويقتضي إقامة قواعد عسكرية أميركية، إستراتيجية ثابتة، في أماكن بعيدة عن المدن! ويقتضي حماية حقول وأنابيب النفط العاملة وزيادة إنتاجها للمساهمة في تمويل عمليات تحقيق الأهداف جميعها! ولقد كان دور عشرات ألوف المرتزقة الأجانب، ولا يزال، ضرورياً لتنفيذ هذه الإجراءات التأسيسية، بخاصة على صعيد محاولة تفكيك وتدمير اللحمة الوطنية، سواء بالفساد والإفساد أم بعمليات النسف والتدمير الغامضة للأحياء الشعبية والمساجد والكنائس وقتل الأبرياء من دون تمييز مفهوم ولا سبب معقول، بل الإيحاء بأنّ الدوافع طائفية وقومية، الأمر الذي يعني ضرورة تقسيم العراق!
هل يجهل العراقيون هذا الذي عرضناه بإيجاز شديد وغيره كثير؟ ليس أسخف من الذي يظنّ أنّهم يجهلونه، لكنّ الجنرال راي أوديرنو، قائد قوات الاحتلال الحالي، صرّح مؤخّراً لوكالة “أسوشيتدبرس” بما يدلّ على استخفافه بوعي العراقيين، أي بما يدلّ على حماقته وسخفه، فقد قال: “إنّ هدفنا هو قيام عراق مستقرّ، وإنّ التوتّر بين العرب والأكراد خطر يفجّر العنف، وهدف واشنطن هو تحويل بغداد إلى شريك قويّ طويل الأمد يساعدها في ضبط أمن منطقة الشرق الأوسط.. هذه هي أهدافنا، ولذلك لن ننسحب في وقت مبكّر من العراق”! (الصحف/4/8/2009). هذا ما صرّح به الجنرال، أمّا ترجمته الحقيقية، التي عرضنا بعضها أعلاه، فليست خافية بالطبع على أيّ تلميذ عراقي في مدارس العراق الابتدائية!
التعليقات (0)