تطورت الأحداث بصور متلاحقة .. تهديدات الخاطفين لوالد معاذ تصاعدت إلى درجة التنويه بقتل الطفل أو بيعه لمن له قدرة أشد على المناورة أو الابتزاز ..وتم تضييق الوقت على الأب .. الأمر الذي حدا بالكثيرين إلى التدافع لمعاونة الأب الشاب على تجميع المليون ونصف المليون جنيه مبلغ الفدية ..
خلعت نساء العائلة مصاغهن الذهب وتطوع المتعاطفون مع الأب في محنته بدفع ما في وسعهم من أموال .. صديق أعرفه دفع مبلغاً ليس هيناً ربما ضيق عليه حسن سير أعماله .. وفي نفس اليوم ضاعف المبلغ تقريباً .. وتم إكمال مبلغ الفدية ..
ثم حدثت تفاصيل مثيرة ومتلاحقة لكن نتجاوزها للأهم .. وهذا الأهم حدث أثناء تواجدنا نحن صحبة العمر بمكان التقائنا المعتاد ..وقبيل منتصف ليل شتائي بارد .. ونحن متحلقون حول نار التدفئة .. دق جرس المحمول .. جاءنا صوت متهدج تخنقه الدموع .. ابني معي .. معاذ معي .. انتفضنا جميعنا من أماكنا وقوفاً .. كان المتحدث الأب الشاب والد "معاذ " سألته أين أنت الآن ؟.. أجاب أنه قد خرج من دائرة المكان المختطف فيه معاذ .. وأنه في طريقه إلى مصنعه الكائن به مسكنه ..وأسمعنا صوت "معاذ" ..
والله بكى الرجال بقلوبهم قبل أن تدمع عيونهم فرحاً وابتهاجاً بتحرير "معاذ" وعودته إلى حضن أمه .. أما أنا فقد جن جنوني .. قررت أن ألحق بالأب .. إلا أن الباقين رأوا أن الوقت متأخر وأن علينا أن ندع "معاذ " لأمه وأهله ليشبعوا قلوبهم وأعينهم بفرحة رؤيته ولنذهب نحن في وقت آخر ..
دقائق معدودات .. وفوجئنا بالزغاريد تنطلق وتقطع سكون الليل من شرفات منازل وبيوتاً لا تربط أصحابها "بمعاذ" ولا أسرته ثمة صلة أو معرفة .. إنها زغاريد الأمهات في بيوتهن حينما تناهى إلى أسماعهن خبر عودة معاذ إلى أمه الذي سرى بين الناس كالنار في الهشيم .. تحول الليل الساكن إلى لوحة صاخبة من الفرحة ..
فما بال الأم المكلومة ..
يا إلهي .. أي نوع من جنون الفرح أو من فرح الجنون الذي يجتاحها الآن حين علمت بأن طفلها المخطوف سيعود على حضنها ؟!
يا إلهي .. أي صبر أفرغته على قلب تلك الأم المفجوعة في صغيرها طوال أربعين ليلة لتتحمل براكين الرعب والهول والفزع كل ثانية وطفلها بعيد عنها في قبضة خاطفيه ؟!!
يا إلهي .. أي صبر ستفرغه على قلبتلك الأم المكلومة لكي تتحمل طغيان الفرحة "المميتة" برؤية طفلها مرة أخرى بعد عودته إلى حضنها ؟!
الأمومة ... ما سر تلك الغريزة الرهيبة التي أودعها الله قلب المرأة نحو أبنائها ؟!
إذا كانت الأمهات اللائي لا يعرفن الطفل المخطوف معاذ ولا أمه قد انفجرن بالبكاء وبالزغاريد وبالفرحة العارمة لمجرد سماعهن خبر أن الطفل المخطوف في طريق عودته لحضن أمه .. فما بال قلب أمه حين لقائها به ؟!!
كنت أتمنى أن أشهد هذه اللحظة الرهيبة ..
كنت أتمنى أن أرى أم الطفل لحظة وقوع عينها على صغيرها حين عودته .. والله بكيت لمجرد تخيل تلك اللحظة .. فما بالي لو كنت هناك حقيقة ؟!! ربما لن أتحملها ..
حاولت تقدير مسافة وصول الأب الشاب وبصحبته "معاذ" إلى منزله .. ثم أجريت اتصالاً بأحد أقاربه المحتشدين هناك منذ حدوث الواقعة .. وكما توقعت .. لم نستطع تبين صوته وسط زخات الأعيرة النارية وزغاريد النساء وتصايح الرجال وأصوات صرخات الفرحة العارمة والهستيرية لعودة "معاذ" ..
إذا كان هذا هو جنون فرحة الأهل والأقارب فما بال جنون فرحة الأم لحظة لقائها بطفلها ؟!! كان أصحابي معي يستمعون - بعد أن فتحت "سماعة" التليفون - لهدير الأصوات الفرحة الصاخبة للأهل والأقارب عقب رؤيتهم لمعاذ وهو ينزل من السيارة تتعارك على حمله أعناق الرجال وصدور النساء .. حينئذ مال عليَّ صاحبي قائلاً وهو يبتسم فرحاً .. هل تعرف لماذا ضاعفت المبلغ لوالد معاذ رغم ظروفي ؟ قلت له لماذا؟ قال لقد بكت زوجتي وفوجئت بها تهوي على يدي لتقبلها وتحثني على دفع أي مبلغ آخر للمساهمة في إكمال مبلغ الفدية رغم أنها لا تعرف معاذأً ولا أمه ولا أبيه .. تأثرت لبكائها . ثم اتصل بها ليبلغها بخبر عودة معاذ لحضن أمه .. وضع التليفون على أذنه فترة من الزمن ثم أغلقه دون أن يتحدث .. نظر لي .. قال .. إنها تبكي بهيستيريا .. فقد علمت بالخبر ..
هناك تفاصيل كثيرة عن وقائع رحلة الأب الشاب لدفع الفدية واستعادة ابنه "معاذ" حول اشتراط الخاطفين تحرك الأب الشاب بمبلغ الفدية وحده ورصدهم إياه طوال خط سيره المتعرج والمتداخل حسب توجيههم إياه و تطويل مسافات لقائه بهم لضمان تضليل المباحث في حالة متابعتهم له ثم إدخاله في منطقها موحشة تخشى العفاريت دخولها على حد قوله .. ثم هجومهم عليهم وتغطية عينية وتقييده بالحبال ونقله إلى منطقة أخرى لحين إحصاء مبلغ الفدية والتأكد من اكتماله .. ثم طقوس تسليم ابنه "معاذ" له بعد فك قيوده .. وانكفاء الأب على وجهه مرتين وهو يعدو تجاه طفله بمجرد رؤيته ..
وأخيراً .. عاد "معاذ" ..
عاد معاذ إلى شقيقه الصغير الذي كان رفقته وقت حادثة الاختطاف .. حيث أفلت الصغير من أيديهم وفتح باب السيارة وانطلق يعدو على الطريق كجرو صغير لينجو من أيدي الخاطفين.. بينما سقط معاذ في قبضتهم بسهولة ..
عاد "معاذ" لتقر به عين أمه بعد عذاب فوق طاقة واحتمال البشر عاشته وعانته طوال أربعين ليلة فترة خطف وبعد ابنها عن حضنها ..
سبحان الله على غريزة الأمومة الرهيبة ..
التعليقات (0)