يختلف المهتمون والدارسون بشأن وضعية اللغة العربية لغة رسمية لعدد من دول العالم العربي، واختلفت تقييماتهم بين التفاؤل والتشاؤم. والحق أن العربية توجد اليوم في وضعية لا تحسد عليها، لأسباب تاريخية، وتقنية وتعليمية وأخرى ذاتية تتصل بنظرة أهلها إليها، وهو الذين يمثلون خمس سكان العالم.
وتبقى العربية اليوم وللأسباب الأنفة متعثرة بين أبنائها، ورغم من انتهاء تداعيات الاستعمار الذي هم المس بلغة وهوية البلدان العربية، بحيث تعرضت اللغة العربية باعتبارها جوهر الهوية، إلى التشويه والإقصاء والنعت بكل النعوت المنحطة. ولا تزال اللغة العربية اليوم تعاني في الوطن العربي من عقدة العُصَب الحاكمة تجاه لغة المحتل، حيث تتقاسم اللغتان الإنجليزية والفرنسية جغرافية العرب وتحتلان مواقع متقدمة في تفكير النخب التي تدير مختلف شئون هذه الدولة، فبدت هذه الحالة غير السوية وكأنها امتداد طبيعي للأحقاب السابقة، مما أثر سلبا على الانتشار اللغوي الواجب حدوثه في تنمية المجتمع العربي من أجل استعادة لسانه وهويته، ومن ثم المرور السلس إلى مستقبله. وجعل النخب المنتجة تصاب بالكسل والخمول عن الإنتاج والإنجاز العلمي باللغة العربية، وتجسد ذلك في أن ما يناهز الأربعين عاما لم يزد إثراؤهم للغتهم من اللغات الحية الأخرى عن سبعة آلاف بحث فقط، احتلت العربية بهذا الكمّ الهزيل المرتبة السابعة والعشرين من بين لغات العالم، رغم أنها مصنفة من طرف منظمة اليونسكو السادسة عالميا من حيث الانتشار وعدد المتكلمين بها.
وتستمر تحديات اللغة العربية في النظم السياسية العربية إلى اعتبار لغة المحتل غنيمة حرب وجب استثمارها، إلا أن هذه اللغة سرعان، ما تحوّلت إلى جدار لغوي عنصري، زاد في رفع عدد المنفيين داخل سجن لغة الاستعمار، حتى كادوا أن يصبحوا جالية لغوية تشكل خطرا على نسيج الوحدة الوطنية.
وبدأ عدد من المستلبين اللغويين العرب يروجون أن الانجليزية والفرنسية لغتا الدنيا وأن العربية هي لغة للآخرة، غير أنه وبعد سنين عديدة على استقلال البلدان العربية، لم يتحقق تقدم الأمة العربية بلغات المستعمر، بل ضعف أداؤهم اللغوي للغتهم الأم، في وقت تؤكد فيها كل الدراسات العلمية أن لمستقبل لأي شعب بدون لغته الأم. فكان ذلك بمثابة القشّة التي قصمت ظهر اللغة العربية داخل وطنها، لتعزز فلسفة اتفاقية سايس بيكو اتساع النزعات القطرية، بإيجاد تصنيف لغوي قسّم النخبة العربية إلى ُمعرَّبين وُمفرنَسين، و ساندت السلطة هذا الأخير، وعززت مواقعه بالوافدين من ساحة تخلو من المبادئ والقيّم، مما أثر على المطالب الشعبية بتعميم استعمال اللغة العربية، ومن ثم حدّ من تمددها التلقائي، كي لا تكون لغة وظيفية وإنتاجية وبحثية.
ومعلوم أن هذا الوضع قد جعل من اللغة الأجنبية الانجليزية والفرنسية لغة أقلية فاعلة أو معرقلة، راحت توسّع نشاطاتها على حساب اللغة الوطنية والرسمية، لا في حديث المسؤولين وتعاملهم الإداري والإعلامي اليومي بها، ولا في إدارتهم للاجتماعات والملتقيات والبحوث بهذه اللغة.
إن الاستعمال الشحيح للغة العربية من طرف أهلها، جعلها تنكمش في أفواه أبنائها بعدما تقلصت في تفكيرهم، وتحوّلت بذلك إلى عملة كاسدة في سوق يتداول أصحابة عملة أخرى، على حد الوصف الدقيق الذي قدّمه المفكر الكبير الدكتور العربي ولد خليفة رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، وأنا هنا أتساءل: ألم يسأل الراكنون إلى ُعقَد التمسك بآخر بقايا الاحتلال أنفسهم: لماذا لم ُتطرَح المسألة اللغوية في ألمانيا واليابان، الأكثر تقدما بلغتيْهما بعد محو كاد يكون كاملا إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا لم نجد إشكالية اللغة عند الكوريين الجنوبيين والفيتناميين، الخارجتيْن بلغتيْهما من بين أنقاض أبشع احتلال؟ بل لماذا لم تعق المسألة اللغوية الاتحاد الأوروبي، وهو الذي يتخاطب أعضاؤه بأكثر من خمسة عشر مترجما على الأقل، دون أن يفرّط أحد في لغته، وقد حكّموا مصالحهم الاقتصادية وقيّمهم المسيحية اليهودية فيما يظهر بينهم من إشكال؟
وإذا كان من مبرّر في إبقاء اللغة الفرنسية في الدول المغاربية علميا عند البعض، فإنه لا يصمد أمام اللغة الإنجليزية التي تسيطر على الشبكة المعلوماتية، بينما لا يتعدى المحتوى بالفرنسية على الانترنت سوى 4 في المائة، من حجم المعارف والمعلومات المتداولة، في حين تهيمن اللغة الإنجليزية، على ما يفوق السبعة والأربعين(47) في المائة من تلك المعلومات، أما إذا كان السبب هو وجود لهجات وطنية مختلفة عند البعض الآخر فإننا نتحدث- منذ أن اختار أجدادنا الإسلام- لغة موحِّدة، تعتبر لغاتنا المحلية فيها روافد، أما إذا كان ذلك رغبة مبطنة للنخب المتسللة إلى مواقع غير مؤهلة لها، فتلك مشكلة أعوص وأخطر، علينا الاعتراف بها أولا ثم إيجاد الحلول المستعجلة لها قبل أن يستفحل داؤها، خاصة بعد أن انتقل حديث القلة القليلة من النقيض إلى النقيض.
التعليقات (0)