وصف واستشراف
ثورة العولمة " فوضى خلاّقة أو خرّاقة "
لقد تم بناء العالم الحديث بكل ما يحمله من تكنولوجيات وتقنيات على أساس غاية في البساطة، معلومة تُرسَم على شكل صفرٍ وواحد تحملها شحنة كهربائية، لِتتعقد الفكرة كلما زادت وتشابكت الأصفار والآحاد، أما ثورة هذه الفكرة فتكمُن في إمكانية تقليص مساحة الوصلات التي تمر من خلالها الشحنة بالتوازي مع ترجمة هذه الشحنة المُحمَّلة بالمعلومة إلى ترددات يتسع مدى حركتها في أفق الفضاء اللامتناهي.
بقدر هذا التبسيط للعملية الأكثر تعقيداً في تاريخ الإنجاز البشري، سأُعرج على حال كوكبنا وواقعه البشري بعد أن عولمته التكنولوجيا، وسأفتح الأجواء لكلماتي لتصول وتجول بدون حدود على غرار دعه يعمل دعه يمر، أما لضمان فعّالية ما أقوله فسأستند على بعضٍ مما استند عليه منظرو العولمة حين قالوا فكّر عالمياً وأنجز محلياً، أما آلية وأدوات مقالي فمفاتيح على شكل كلمات، والكلمات تحمل معاني جُمَل طوال يجب تحميلها كل ما تحتمل، مع تحليلها وقراءة ما وراءها، إلى جانب الإطناب في إعمال الفكر حين تُختصَر الكلمات ويختزل العالم في قرية، فنحن في عالم العولمة نحاول أن نستشرف إلى أين المسير.
جَفّت حناجر العلماء بمختلف اختصاصاتهم من الحديث عن ما آل إليه كوكبنا، وقد استفاضوا في شرح أن حالة الكوكب تستلزم تكاتف كل الجهود اليوم وليس غداً، على أمل أن يبقى صالحاً كموطن للسلالة البشرية، لكن العالم مازال يتعامل مع هذه القضية بخطاً محتشمة مقارنة بالتحدي الذي يهدد الحياة على هذا الكوكب، ولعل أهم أسباب ذلك هو العقلية التجارية التي يدير بها المسئولون التنفيذيون للمؤسسة الأرضية، فمع أن الخطاب المُعلن لإستهلاك القواعد الشعبية يحمل مفردات بيئية وإيجابية، إلا أن الواقع أظهر إستغلال أصحاب النفوذ العالمي لهذه القواعد الشعبية التي فاق عددها اليوم السبعة ملايير نسمة، هذه القواعد المُهَدَدة في مستقبل وجودها هي التي تدفع ضريبة الثراء الفاحش لأقلية لا تتردد في إعلان حروب دامية لجني الدولارات، ناهيك عن التلاعب بمقومات حياة الملايين بتلويث هوائهم، أو برمي أطنان الطعام مع شحّه في البحار والناس تموت جوعاً.
ليست أزمة الغذاء العالمي سوى أول الكوارث في طريق من لا يعتبر بقول يوسف(عليه السلام) ناصحاً "وما حصدتم فذروه في سنبله" ولن تكون آخر الأزمات مادام أصحاب البطون الشرهة لا يعون "إلاّ قليلاً مما تأكلون".
نفس الشراهة هي ما ألحق النظام الإقتصادي والمالي إلى الطريق المسدود، فإذا كان العالم يلعب بألفاظه في تشخيص الحالة المالية الأمريكية بتسميتها أزمةً سنة 2008 والحديث آنذاك بملايير الدولارات، لينتقل الحديث في 2011 وبعد ثلاث سنوات فقط عن الترليونات في أمريكا وبعدها في أوروبا دون وجود أيّ بوادر حل حقيقي وجذري، فالحديث ليس عن أزمة وإنما عن طريق مسدود قد يستلزم ثورة إقتصادية فكراً وتطبيقاً مهما حاولنا أن نُغطي الشمس بغربال.
أياً كانت الأسباب فإن مُحصّلة الجرد المالي العالمي هو غرق الدول المتقدمة في الديون إلى الرقبة، ودولاً متخلّفة كثيرة تُكدّس المليارات في خزائنها، وبينهما دول البريكس ( البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تسحب البساط تحت إقتصادات الدول العظمى.
إختصر هذا العصر العالم في قرية، وسُمح لدولة كاليونان أن تُعلن إفلاسها، وأخرى كثيرة قد تم الشروع في خياطة كفن مؤسساتها المالية، وجنازات نقدية تُحضَّر، ولم يعد المسعفين وصناديق إنقاذهم ذو جدوى وسط الهرج الإقتصادي والمرج المالي.
عادة الإقتصاد المؤثر في السياسة والمتأثر بها كان أحد العوامل التي جعل السياسة تدور بدورها في فَلَك الأفق المسدود، ولن يطول الوقت لنرى قوافل الرؤساء المتجهة لتجمعات هياكلهم الثُمانية والعشرينية غير قادرة على تجنّب الجموع المحتلة للساحات، ولن تحتاج الشعوب الغير مبالية بسياسات هذه الهياكل أياً كانت مشاريعهم ومخططاتهم للإعلان عن سخطها سوى كتابة كلمات قليلة يتكفل الطائر العجيب تويتر بنشرها والسيد فايس بوك بإستضافتها، ولو فكر أحد الأغبياء الكبار بقطع رأس الطائر أو السيد، فتلك قنبلة لا يكفي ذكاء أينشتاين إستيعاب أو توقع خسائرها.
رغم ندائها للشعوب بالتحرر، لم تستطع الترسانة السياسية التي حشدها العالم بعد مجيء أوباما مخلص البشرية من الحروب وعبودية البشر بأشكالها الحديثة سوى الرقص على أنغام الطبل البلدي الذي تعزفه هذه الشعوب بنفسها، وإن اُبقيت عصا الشومة مرفوعة عالياً ضد من يرفض الرقص على إيقاعات العصر الحديث، وأكاد أجزم بأن الهواية المفضلة لأوباما الذي أعلن منذ أوائل أيام حكمه عن إختيار إستراتيجية السياسة والدبلوماسية بدل الحروب لحل الأزمات هي لعبة البلاي ستيشن وألعاب الانترنت لإستراتيجيات الحروب، فالرجل يخرج في كامل هيلمانه كرئيس للولايات الأمريكية المتحدة ليعلن أن بلده مازال أقوى دولة في العالم بدليل رمي بن لادن في البحر، ثم مرة أخرى بدليل مقتل القذافي، وإن أوحت هذه التصريحات والأدلة بشيء فهو أن الإختراع الأمريكي للانترنت قد شرع في هضم الحلم الأمريكي مادام أوباما ينتصر في ألعابه خائضاً حروبه خلف شاشاته الإفتراضية بعيداً عن الميادين.
بالحديث عن الألعاب وبغض النظر عن شخصياتها في إسرائيل وأمريكا، لم يصعب على كل حر في العالم فضح أقذر الألعاب ممارسةً عبر التاريخ، ومع عدم الحاجة لمسعىً فلسطينياً لإعتراف دولي في مؤسسات الأمم المتحدة كي تُستوعب إباحية اللعبة وعُهرها، إلا أن اللعبة القديمة الجديدة بدأت تتغير قوانينها، فالدور الأمريكي في عالمه الإفتراضي المنسحب من العراق وأفغانستان لن يتعدى الدعم السياسي للكيان الصهيوني، ولعل أيادي الفيتو المرفوعة بقوة في وجه الإرادة الدولية تحمل رسائل بين أصابعها لإسرائيل بضرورة البحث عن حليف ميداني آخر لأرض المعركة القادمة.
في مسيرة بحثها عن الخصم في المواجهة القادمة، لم تجد إسرائيل أحسن من بلاد فارس، فولاية الفقيه بشكلها الجمهوري الإسلامي يُشبع الإسلاموفوبيا التي عملت إسرائيل على تغذيتها في الغرب طويلاً، كما أن لإيران ملفاً نووياً لا يستهان به، وهو يوقظ مخاوف ومضاجع الكثير من الدول، ناهيك عن التلاسن والتهاوش اللامنقطع بين الطرفين، فما يلبث أن يهدأ حتى تعود إسرائيل لتهدد إستقرار إيران وتلوّح بضربها، أو تتوعد إيران بفناء إسرائيل وتجزم بقروبه، وكأن الخصمان يعزفان على أوتار الحرب بتناغم يزيد من جاذبية كل طرف نحو الآخر.
تُعيد دول العالم في هذه الأثناء تموضعها على خريطة النظام العالمي الجديد، واللافت في هذا التموضع هو إستقلالية الدول في قراراتها السيادية وما يتصل بأمنها مقارنةً بأيام قليلة خلت، فمع كثرة اللقاءات والتشاورات والتعاون بأشكاله المتنوعة، بدءاً بالمحادثات السرية وإنتهائاً بالأعمال العسكرية المشتركة، إلاّ أننا نلاحظ عداوة شرسة بين الأصدقاء، وتحالفاً حميماً بين الأعداء حسب معادلة المصالح الداخلية وتداعيات كل ملف حسب خصوصيته، مما ينذر بحساسية الوضع وخطورته، فالجميع يعايش الأزمة منتبهاً ومُحضِّراً لمواجهة ما هو آت.
إختلفت توجهات وخطط الأطراف الدولية وآليات عملها لمجابهة ما يحمله القادم من الأيام، فروسيا والصين مثلاً تحلمان بإعادة الإستقرار العالمي، لتُعيد فيه الأولى بناء هياكِلها وفعّالياتها، وتعمل الثانية على الإمساك بخيوط اللعبة الإقتصادية وما ينجم عن ذلك من ريادة، أما فرنسا فيقودها ساركوزي ماضياً بخطاً ثابتة وشرسة في خلط الأوراق ونشر الفوضى بإسم الحرية، ربما على أمل تبرير سِكّينه الملطخ بالدماء والجاهز للظفر بجزء من كل كعكة جديدة تُطهى في أفران النظام العالمي الجديد (وإن كان لسِكّينه مآرب أخرى كثيرة، لن يتأخر الزمن في فضحها)، قَبِلت بريطانيا في محاولة لتقليل مخاطرها السياسية التَخلف عن الريادة، ولذلك فهي ترتضي السير خلف فرنسا وخلف إسرائيل وأمريكا، بل وخلف كل قيادة تسمح لها أن لا تمسك بالجزرة من الأطراف، ربما لأكل الجزرة إذا إقتضت الظروف.
وسط تمخُض النظام العالمي الجديد، تحمل الثورات العربية في وجدانها من الطاقة ما يكفيها للمرور عبر الدول العربية كافة، أما إذا أضفنا لكرتها الثلجية المتدحرجة بعضاً من قوة الرمال وجَلَد الصحارى التي تمر بها، فَقُطر الدائرة الثائرة قد يتسع حينئذ ليصبح بطول خط الإستواء الممتد على أفق المعمورة، وبالرغم من كثرة الأيادي النابشة في ديناميكية هذه الثورات، إلاّ أن زمام المبادرة على أرض الواقع تبقى للثوار، ومهما أقررنا بأجزاء من نظريات المؤامرة التي تحاك في غرف العمليات المتناثرة بين واشنطن وباريس وتل أبيب، أو حتى في دمشق والدوحة، فإن ترنُح خطوات الجميع بين التقدم والتأخر يُظهر إلتباس وتخبط كل الأطراف الفاعلة، في حين وضوح رؤية الثوار وإصرارهم الذي يعيد توجيه الأجندات نحو إنجازاتهم أو ضدها.
إذا أردنا قراءة واقعنا في هذا الخِضَم المُعولم ، فإنه يتوجب علينا تسليط ومضات على العقارب المضطربة للبوصلة الجغرافية والتاريخية لمنطقتنا العربية والإسلامية، فها هي قطر تلعب دور الواجهة المعبّرة والمنفّذة لمبادرة الأرض مقابل السلام السعودية، وهذه البادرة هي العنوان الذي فتح آفاق الريادة القطرية القائمة بشقها السياسي المتحرك دبلوماسياً وإعلامياً وحتى رياضياً، كما قد نرى تنامياً لشقها العسكري بعد التمرس في المعركة الليبية، ربما تحضيراً لدور يُلعب بالتنسيق مع تركيا والأردن والإمارات في اليمن أو سوريا، أو حيث يكون إرسال بث الجزيرة وخلاياها الناعمة قوياً، فشواهد تصاعد العسكرة الميدانية للخليج بارزة، تسلّح سعودي هائل، وقاعدة عسكرية فرنسية في أبوظبي بدأت أسباب إيجادها تتضح، ودرع للجزيرة يُستدعى في البحرين التي يزور ملكها القاهرة مرتدياً بزته العسكرية، كل ذلك دون إغفال اصطفاف دول الخليج وممالك العرب خلف اللواء القطري المُدجج بسلاح التنمية المستدامة.
كمؤشر للديموقراطيات القادمة فازت النهضة بإنتخابات تونس الأكثر علمانية في المنطقة، وهذا يؤكد غباء المندهشين وعدم رضا المتوجسين من صعود الإسلاميين لسدة الحكم في ليبيا ومصر أو في كل دولة يتم دمقرطتها هذه الأيام، وهي دول خرجت من النفق وتجلّت على الأقل بعض تقاسيم وجه مستقبلها، في الوقت الذي تبقى دول أخرى حبيسة التجاذبات الإقليمية، فاليمن عالق بين سلام توكل كرمان وحرب أهلية ينجح علي عبد الله صالح في إشعالها كإحدى الورقات ثقيلة العيار للثورة المضادة في وجه الربيع العربي، والصومال رهينة تظافر قوى العالم في العمل الإنساني كعنوان لإنقاذ البشرية أو ربما بداية رمزية لفنائها، كما يعتمد المستقبل السوري على مدى الضغط على الزناد بإعتباره مفتاح الحرب الشاملة في المنطقة.
الأطراف الجغرافية لمنطقة التوتر لا تخلوا بدورها من التحركات المشبوهة، فباكستان لا تنقطع التُهم الموجهة لإستخباراتها بدعم الإرهاب كأحد ملفات الضغط والمساومة، فهي دولة يبقى الغرب واضعاً صوب عينيه قنبلته النووية المسلمة، وإستقدام نزار باييف رئيس كازاخستان الدولة القارة في آسيا الوسطى لتوني بلير كمستشار للسلام غير مطمئن، هذه شُبهٌ في الشرق، أما صوب الغرب فالقلاقل المؤججة بين الجزائر والمغرب لا تتوقف، وخلع باغبو المُبكِر تحضيراً لساحل العاج كحديقة خلفية لدول الساحل لم يكن صدفة.
في محاولة حثيثة لإختزال مقالي لم أتطرق للسودان الأعرج بتقسيمه، ولا لتركيا أردوغان، ولا للبنان وولاءاته، ولا لبرادعة العرب، ولا لمفاوضة واشنطن لطالبان، ولا للحرب الإلكترونية المندلعة.
بدأت مقالي من منطلق الحديث عن ثور العولمة، لكن الواقع أضاف ثورة العالم ضد هذه العولمة، وبين الثورتين فوضى أكيدة لم نعايش سوى بدايتها إلى الآن، ولن يتضح إن الفوضى القادمة خلاّقة هي أو خرّاقة، إلاّ بمدى إرتباطها بإحدى الحسنيين.
"بين السلام وحرب دُقّت طبولها"
عنوان لسلسة من مقالات الإستشراف، وما مقالي السابق سوى المقدمة
مع إلتزامي بالإختصار الصارم فيما هو قادم
سمير بن سالم
الجزائر في: 2011.11.11
التعليقات (0)