صباح الإثنين 05/06/1967 وقبل أن نذهب إلى اليوم الثالث من الامتحان النهائي للشهادة الإعدادية ، أعلن عن تأجيل الامتحانات العامة ، لقيام الصهاينة بشن عدوان حربي على سورية ومصر والضفة الغربية ..
كانت الأيام الأولى للحرب مشحونة بالإعلام الذي كدنا من خلاله " نحرر فلسطين كاملة " ، ونلقي بالصهاينة في البحر ..
لكن الحقيقة كانت مغايرة ومعكوسة ومؤلمة وفاجعة ، حتى سميت الحرب : نكسة حزيران ..
وبعد انتهائها ، عدنا إلى الامتحان ، لكننا فقدنا حماسنا واندفاعنا والمخزون العلمي الذي حصلنا عليه طيلة فترة التحضير له ، كما كنا أشلاء حزانى محبَطين مهزومين أيام الحرب وما تلاها وصولا للموعد الجديد للامتحان ..
وزاد على ذلك ، أن القيادة العامة للجيش أبلغتنا بفقدان أخي في الحرب ، لانقطاع الصلة به في الجبهة السورية ، " ولم تؤكد خبر الاستشهاد إلا بعد أشهر " الأمر الذي ساهم في مزيد من الألم والاضطراب داخل البيت ، كوننا لم نرسُ على بر حقيقي يطمئننا عن أخي ، وعانينا جميعا وبشكل فعلي من التنفيذ العملي لمقولة أن : أمّ القتيل تنام ، وأم المُهَدَّدِ لا تنام ، وابن أمي ـ رحمهما الله ـ " مفقود " كالمهدد ..
وظلت ـ حتى وفاتها بعده بأربع وعشرين سنة ـ تنتظر عودته ، ولم تصدق يوما أنه لن يعود ..
ولاقت وجهَ ربها في عصر يوم ذكرى ميلاد ابنها البكر 19/06/ رحمهما الله وجميع الشهداء وأموات المؤمنين ..
نجحت في الامتحان بالحد الأدنى من الدرجات ، ولم تؤهلني لدخول المدرسة الثانوية العامة ، فانتسبت لمدرسة خاصة ..
كان الجو العام ، السياسي والوطني ، متلبدا بالأوضاع الصعبة والقاسية التي نتجت عن الحرب ، سواء في سورية أو مصر أو الأردن وفي المنطقة كلها .. بينما كان الصهاينة يحتفلون بعصرهم ونصرهم الذهبيين ..
في المدرسة الثانوية الخاصة التي انتسبت إليها في حلب ، اختـُرْتُ لأكون أحد أعضاء اللجنة الطلابية فيها ، فساهمت في نشاطاتها من خلال الإشراف على إذاعة المدرسة ومجلتها الدورية ، وتحرير اللوحات الجدارية .. بالإضافة إلى بعض النشاطات المسرحية التي قدمناها على مسرح المكتبة الوطنية ..
وكان شريكي في كل ذلك ، طالب عراقي مقيم في حلب ، يسبقني بعامين دراسيين ، ويكبرني بثلاثة أعوام ، ولا أعرف شيئا عن ظروف وجوده بيننا ..
فذلك لم يكن غريبا أو غير مألوف ..
محسن نصيف السعدي .. شاب أسمر البشرة ، طويل ، نحيف ، أنيق ، مثقف ، واع ، ناضج ، له موقف قومي واضح ..
أمضينا العام الدراسي كله في تعاون وانسجام ودودَيْن ، وكانت لمساته أكثر بروزا مني في ساحة النشاط السياسي وقتذاك ..
كتب على بطاقةِ تهنئةٍ وصلتني ونحن في المدرسة :
" عيدنا عيد العودة ، وانتصار الأمة العربية "
وبعد أن نال الشهادة الثانوية ، صار يستعد للعودة إلى العراق ، فتكثفت لقاءاتنا وسهراتنا ، وترك لي صورته الشخصية مع أطيب أمنياته ، وعنوانه وتوقيعه ، مؤملا أن أزوره قريبا في بغداد .. " لكن هذا القريب لم يأت بعد " ..
ثم ، ومن أوائل الطلاب الذين عرفتهم في الجامعة :
نجاح الصكبان وأكرم الجبوري ..
وهما في الكلية والقسم متقدمان عليّ بعامين ، ربما ..
كنت أذهب باكرا إلى الكلية ، وغالبا ما كان أحدهما يسبقني إليها .. نلتقي على طاولة مستديرة في المقصف .. أو نقف على شرفته المطلة على المدينة وهي تستحم بالمطر وشمس الصباح ..
لم أجرؤ يوما على توجيه سؤال لأحدهما ، عن المشاعر الأليمة التي أراها في عينيهما وهما يستقبلان الشمس بعيدا عن الوطن .. لكني كنت أرى المعاناة في وجهيهما ، وأدرك معنى أن يكون الإنسان بعيدا عن أهله وأرضه ووطنه .. ولم أستفسر إن كانا موجودين بيننا طوعا أو كرها .. ولم أسألهما عن المدينة التي جاءا منها ، ولا عن خلفيتهما السياسية أو انتمائهما الفكري أو الديني ..
ولم أمتنع عن ذلك لأنها " خطوط حمر أو من المحظورات الممنوعة " .. إنما لم نكن نهتم لها ، ولا يعنينا شيء منها .. وخطابنا العقائدي معاكس تماما ، ولا يوجد في ثقافتنا السياسية والفكرية ما يجعلنا نفكر بتلك الجزيئات التي لا نراها بالعين المجردة ..
طبعا ، تخرّج أكرم الجبوري قبلي ، وظل يتردد على الكلية ، وقد عمل في إحدى شركات القطاع العام السورية ، ثم انقطعت أخباره عني إلى مطلع التسعينيات ، لتشاء الأقدار بتجاورنا في المبنى الذي يقطنون فيه ، لكن ، مع الأسف ، بعد فوات الأوان ..
فقد زارتنا زوجته " الحلبية " ، وولدهما الوحيد ، وروت لنا ظروف وفاة زوجها أكرم ـ رحمه الله ـ قبل سنة ، قالت :
دخل البيت محملا بكمية من الأغراض ، وضعها في الممر ، وأسرع إلى غرفة النوم ، تمدد على السرير ، وطلب مني كأس ماء ، ولاحظت عليه الإرهاق الذي صار يلازمه من صعود الدرج ، وحين عدت إليه ، وجدته نائما ، لكنه مفارق الحياة ..
ولم يكن زار العراق منذ أن خرج منها أوائل السبعينيات ، ولا دفن في ثراها بعد وفاته ..
وفي الصيف الماضي ، جمعتني ليلة رمضانية بالأخ نجاح الصكبان .. تعانقنا بعد غياب طويل جدا ، وقال : تعال معي لنرى إن كانت حماتي ستذكرك وتعرفك أم لا ..
"" قبل ربع قرن تقريبا ، كنت أزور صديقا في مكتبه في مديرية التربية بحلب ، حين دخلت علينا السيدة أم منتصر ، (( وهي موجهة تربوية ، ونعرف بعضنا بحكم العمل والجيرة )) ..
" نجاح وفهمي ورهف "
.
سألتني ونحن نشرب القهوة : أتريد فعل الخير ؟ أجابتها الآنسة " مزين " بالنيابة عني قائلة لها : لن تجدي من يسبقه لذلك .. اطمئني .. فقالت أم منتصر : أشعر أن الله سبحانه وتعالى قد سخر لقاءنا هنا ، لينقضي الأمر على يديك .. وطلبتْ أن أرافقها إلى مكتبها ..
كان فيه رجل خمسيني عليه ملامح النعمة والوسامة ، تجلس بجانبه صبية رقيقة ، وثمة أخريات في المكتب الواسع ، يستمعن له ، وقد بدا عليهن التعاطف معه ومع أسرته ..
طلبت أم منتصر منا أن نتعارف ، وقالت له : إنك محظوظ جدا بهذا الرجل ..
كان أبو علاء وأسرته قد أبعدوا من العراق إلى إيران إبان الحرب العراقية الإيرانية ، ولم يجدها مكانا مناسبا له ولأسرته ، فاصطحبهم إلى سورية قبل أيام ، وليس معه أي وثيقة رسمية تؤهل ابنته " وئام " لإكمال دراستها في قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة ، وكذلك ، ليس معه الوثائق اللازمة لتسجيل ولديه علاء ومصطفى في المرحلة الثانوية .. و " لا يريد شيئا آخر من الدنيا " ..
اصطحبتهما على الفور إلى كلية الآداب ، وكانت تربطني بمعظم أساتذتها وموظفيها علاقات مميزة منذ أن درست فيها ، وباشرنا إجراءات التسجيل المؤقت ، وتواعدنا في الغد أن نذهب لمباشرة إجراءات تسجيل ولديه ..
تمت المعاملات المبدئية على ما يرام ، وباشر الثلاثة دوامهم مشروطا باستكمال ثبوتياتهم ، وقد أخذتْ وقتا طويلا ، خلالها تبادلنا كثيرا من الزيارات العائلية ، وتخرجت وئام ، ونال الشابان الثانوية ، وأسس أبو علاء مشغلا صناعيا يكتسب عيشه منه ، إلى أن أخبرني الصديق نجاح أنه قرر الارتباط بالآنسة وئام ، فزارنا برفقة الأسرة ، وكنت شاهد عقد قرانهما بحضور فهمي الشالجي وزوجته """ ..
وحين وصلنا أنا وأبو سلام إلى مكان وجود زوجته وأمها ، عاجلتانا بالترحيب والدهشة باللقاء بعد كل هذه السنين .. ثم فصّل أبو سلام بالحديث عن عمه وولديه وظروفهم وأحوالهم ..
أما فهمي الشالجي ..
فهو حكاية مختلفة .. كنت أعرفه من بعيد وهو طالب في كلية الاقتصاد بجامعة حلب ، حين عملت في دائرة شؤون طلابها قبل تخرجي .. ولا أعرف شيئا عن خصوصياته ..
ثم التقينا في عدة جلسات ولقاءات عبر نجاح ، فبدا شخصية منفتحة متصالحة مع نفسها ومع العالم .. هادئ ، متزن ، ودود ، دائم البشاشة ، يحب كل شيء في الحياة ، ويهوى الطموح ..
وبعد أن تخرج في كلية الاقتصاد ، اقترن بفتاة سورية ، وصارا أليق عروسين ، ثم علمت من عمة زوجته حين كنت أحاضر في كلية الهندسة ، أن فهمي سافر إلى أوكرانيا ـ كما أذكر ـ ليدرس الطب البشري ، وفي مرة أخرى قالت لي عندما سألتها عنه : لقد عاد ، وهو يقوم بإجراءات الانتقال من هناك ليستكمل دراسته هنا في كلية الطب ..
وفي ساحة الجامعة ، توقفت بجانبي سيارة ، نزل منها فهمي ، كانت ضحكته الأزلية هي نفسها التي لا تفارق كل وجهه ، تعانقنا (( ولم أكن أعلم أنه اللقاء الأخير )) ، وتعاتبنا على تقصيرنا باللقاء ، وقد تخرج طبيبا ورزقه الله بمولودين ..
ثم أرسلنا قذائف صاروخية باتجاه " نجاح " لتقصيره أيضا ، واتفقنا أن نقتطع من المشاغل المتراكمة وقتا نلتقي فيه ..
وحين سألت نجاح ـ الصيف الماضي ـ عن أخبار فهمي .. وجم ، واحتقن وجهه الأسمر وهو ينقل لي خبر وفاته المؤلم .. رحمه الله ..........
ومن أشهر أطباء الجراحة العامة في حلب ، وصاحب أحد أرقى مراكزها الطبية ومستشفياتها الخاصة ، الدكتور جواد التركي ..
وهو الذي تخرج في جامعتها واختص في مشفاها الجامعي ، فبادلته المدينة وأهلها حبا جما ..
وربما لم يحن الوقت للحديث عن الوشائج والصلات التي جمعتنا منذ أن كان طبيبا مقيما في مستشفى جامعة حلب في منتصف السبعينيات من القرن الماضي .. وكيف توطدت علاقتنا وتفرعت حتى شملت العائلتين والأصدقاء والإخوة ، وما تزال هذه العلاقة نموذجا استفاد من أريحيتها كثيرون من المرضى وغيرهم ..
وعُرفَتْ عن الدكتور جواد المهارة والدقة والإتقان والإخلاص لعمله ، والثقة بآرائه وأفعاله الطبية ، والتفاني في خدمة مرضاه ، إلى جانب اللطف والدماثة والبشاشة وحسن المعاملة .. فكسبته مدينة إدلب صهرا لها ..
وفي موقف ليس غريبا عليه أبدا ، وقف معي برجولة وشهامة ـ هو وآخرون كثيرون أصدقاء وأحبة ـ فغمرونا بعنايتهم ولطفهم ولهفتهم ، حين تعرض أحد أولادي لحادث سير أليم قبل اثني عشر عاما ..
وما يزال الدكتور جواد علامة فارقة في الطب الجراحي في حلب ، وما يزال مبضعه نشيطا وحادا ، يؤدي كثيرا من الحقوق والواجبات بصمت ورضا وقناعة ، حتى بات جزءا حقيقيا من النسيج الحلبي بكل تفاصيله وألوانه ..
رحم الله البطن والظهر اللذين أنجبا كل تلك الكوكبة الرائعة من الأحبة العراقيين الذين التقيتهم في مراحل مختلفة من سنوات العمر الآفلة ..
وأعدُّ نفسي الرابح الأكبر منها ، ومحظوظا بها ، فأغبطها بتلك العلاقات الإنسانية الصادقة والمميزة ..
وبعد أعوام من " سن اليأس " ، وبلوغي " من العمر عِتِيّا " .. وقياسا بـ : رُبَّ أخ لك لم ...
فقد رزقتُ مؤخرًا بأروع ابنتين بغداديتن غاليتين :
الأولى أصغر من أصغر أولادي ، جمعتنا الرغبة بتطوير مهاراتنا التقنية قبل بضع سنوات ، وهي في بغداد الآن ، ونحن على تواصل ..
والثانية أكبر من أكبر أحفادي بسنتين ، ربما .. لم نلتق ، ولا أعرف ظروف تعارفنا ، كما أجهل مكان إقامتها وأي شيء عنها .. لكنا احتفلنا بتفوقها قبل أيام ، وقد سعت مشكورة أن نبقى على تواصل أيضا ..
وفي وقت ليس ببعيد إن شاء الله ، لا بد من أن أتحدث عن تلك الوشائج البغدادية ..
دمتم بألف خير ..
الثلاثاء ـ 17/05/2011
التعليقات (0)