صرْنا في زمن ، نتعَجَّبُ فيه ، إذا لم نسْخرْ ، من كثير من الأفعال والأقوال التي سادت في العصور العربية السابقة ..
فقد ولـّى زمن المروءة والنجدة ..
حين انتضى فيه الشاعر عمرُو بنُ كلثوم سيفا ، وقطع به رأس الملك عمرو بن هند ، وقبل أن يعرف ماذا جرى ..
فقط ، سمع صوت أمه من الطرف الآخر من الخيمة ، تستغيث من إهانةٍ مقصودةٍ وَجّهَتـْها لها مُضيفتـُها أمُّ الملك ، صارخة : وا ذلاه ، يا لتغلب !! ..
كانت تكفيه استغاثة من أمه ، ليقطع بها رأس مُضيفه الملك ..
وصارت الفروسية ضربا من الجنون والتهور ..
كما فعل " عنترة " حين رمى بنفسه في أتون معركة حامية الوطيس ، كي يحظى بحريته ، وبالتالي ، بحبيبته ..
وصارت لفظة " وا معتصماه " مجالا للسخرية والتـَّنـَدُّر ..
وصارت مروءة " السموأل " وأمانته ، التي دفع حياته مقابلهما ، أمرا يستحيل وجوده ، ومسألة تدعو للشفقة على عقلِ منْ يتمسَّك بهما ، في هذا الزمان الأغبر ..
بينما انتشرت مفاهيم أخرى ، كثيرة وجديدة ، سيطرت على عقولنا ، وفكرنا ، وتراثنا ، وعقائدنا ..
رُوِّجَ لها طويلا ، وأوجدوا لها الأنصار والمُعِينين والمُبَشِّرين ، وسَخّروا لها كل أجهزتهم وأبواقهم ، حتى غدت مفاهيمُهم هي :
(( الأصح ، والأبقى ، والأكثر عملية ، والأكثر تحضّرا )) ...
إلى ما هنالك من أوصاف مزيفة ، غسلوا بها أدمغتنا ، وسطـّحوها بما يتناسب مع المرحلة الجديدة ، فرزحْنا تحت سقفها الواطئ جدا ، والقذر جدا ، والغريب عنا جدا جدا ..
وقبلـْنا أن نعيش تحت ذلك السقف الوضيع ، كي لا نـُتـَّهَمَ : بأننا خشبيون في تفكيرنا ، وأننا نعيش خارج الزمان .. وأننا لا نؤمن بالتطور والتقدم البشري .....
وصارت حالنا كحال شخصيات مسرحية توفيق الحكيم " نهر الجنون " ..
لا أعرف إن كانت المقدمة السابقة تصلح لتكون مقدمة للمقال التالي ، لكنها خطرات كتبتها بعدما وقفتُ طويلا عند قصيدة " الأنباري " ، وموقف الوزير عضد الدولة منها ، ومن القتيل ..
والسؤال :
كم من المسؤولين اليوم ـ على تفاوت درجاتهم ـ مستعدون ليدفعوا حياتهم ثمن قصيدة تـُخلـِّدُهم ؟؟!!
لقد عَرَفَ الوزير " عضد الدولة " قيمة الشعر وأهميته ، فتمنى الميتة بدلا من ابن عمه ، ليحظى بقصيدة ... فقط ..
ترى : أحياته كانت رخيصة عليه إلى هذه الدرجة ، وهو الوزير المنتصِر ؟؟ أم القصيدة ثمينة جدًا ؟؟
أيا يكن الجواب .. فلولا تلك المرثية ، لمَا وجدْنا لحادثة اقتتال أبناء العم ، ذلك الأثر المفجع في النفوس ، كالأثر الذي خلـّفتـْه القصيدة نفسُها ..
وشهد تاريخنا ـ وهذه إحدى مخازيه ـ كثيرا من معارك الاقتتال بين الإخوة الأشقاء ، وبين أبناء العمومة ، وبين أبناء العشيرة الواحدة ، وبين الأب وأولاده ، وكل ذلك ـ غالبا ـ كان طمَعًا بالحكم ، والسلطة ..
وغيْرُ " عضد الدولة " هذا ، لم أسمع أن وزيرا يتمنى لو يكون هو المقتول ، وأن تكون القصيدة هذه ، قيلت في رثائه ..
ولعل مقولة " عضد الدولة " هذه ، قد ساهمت ـ أيضا ـ في انتشار القصيدة ، واستحسان الناس لها عبر العصور .. وهي مجرد مقولة لم تلامسْ حَدّ الفِعل لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ ..
وهذا يبيّن أهمية وتأثير ودور الشعر في حياة العرب القديمة .. بكل أغراضه ومعانيه ..
ولعلنا لو أخذنا المعلقات الشعرية الجاهلية نموذجًا لذلك الدور ، والتأثير الذي كان لها في زمانها ، لوجدنا معلقات كل من :
زهير بن أبي سلمى ، وعمرو بن كلثوم ، وطـَرَفة بن العبد ، ولبيد بن ربيعة ، وعنترة بن شداد ، والنابغة الذبياني ، قد خـَلقتْ أجواءً وعوالمَ من التأثير في الزمان والمكان وأهلهما ، مغايـِرة لِمَا بعدها عما قبلها ..
لذلك ، لم يكن صدفة ، أن يُوصَفَ الشعرُ العربي بأنه : ديوان العرب ..
إنه سِجـِلٌّهم الحافلُ بأيامهم ولياليهم ، بجوعهم ، بكرَمِهم ، بمروءتهم ، بشهامتهم .. ببطولاتهم .. بجُبْنهم .. بإقدامهم .. بإحجامهم .. بغزوهم .. بدفاعهم .. باندفاعهم .. بالغنيمة .. بالخسارة .. بالنصر .. بالهزيمة .. بحِلـِّهم ، بترحالهم .. بخوفهم ، بهلعهم ، بفزعهم ، بفرحهم ، بحزنهم وحبهم وعشقهم ، بمدحهم وهجائهم وعتابهم وشكواهم وتذمرهم .. بالرثاء ، بالوصف ، باللهو ، بالخمر، بالقيان ..........
باختصار .. إنه عَالـَمُهم ..
أي : ديوانهم ..
لقد روَتْ لنا كتبُ الأدب والتاريخ والسِّيَر ، كثيرًا من السّجالات الشعرية والحكايات والنوادر والطرائف التي حدثث في قصور الخلفاء والأمراء والحكام ، وعلى مرأى ومسمع منهم ..
واقترن كثير منها ، بالشعراء أو بقصائدهم ، مثلما اقترن الشعراء بالحكام ، فلازموهم ، وسامروهم ، وعايشوهم ، واستظلوا بظلهم ..
ولئن طارتْ شهرة الشاعر ، وشعره ، إلى مكانة عالية ، ظلَّ ذِكـْرُ الحكام والأمراء في مرتبة أدنى .. وصاروا تابعين للشاعر وشعره ، يُذكـَرُون به وبقصائده ..
فلا يكاد يُذكر سيف الدولة ، أو كافور الإخشيدي ، إلا في ثنايا أشعار المتنبي .. ولا يُذكر ملك الحيرة النعمان بن المنذر إلا من خلال اعتذاريات الشاعر النابغة الذبياني .. ولا يُذكر الملك عمرو بن هند إلا من خلال شعر عمرو بن كلثوم ..
إن دور الشاعر قديما ، أهمّ وأكبر بكثير من دور أي وزير إعلام في عصرنا الحالي .. وكانت القصيدة تفعل فِعلها أكثر من البلاغ العسكري رقم (1) ..
أما قصيدة أبي الحسن الأنباري في رثاء " محمد بن بقية " وزير عز الدولة ، وخبرها ، فهي منقولة كما وردت في مصادر كثيرة :
وكانت وقعتْ حربٌ بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة ، ظفـِرَ فيها هذا ، فقبض على الوزير " محمد بن بقية " ، وقتله بين أرجل الفيلة ، ثم صَلبَه ..
وهي من القصائد الطنانة التي بلغتْ من الشهرة والاستحسان ، أعظم مبلغ ..
حتى يُروى أن عضد الدولة لما وقف عليها ، قال :
لقد تمنيتُ أن أكونَ أنا المصلوب ، وتكون هذه القصيدة فيَّ ..
وهي قوله :
عُلـُوٌّ في الحَياةِ وفي المَمَاتِ لـَحَقٌّ ، تلكَ إحدى المُعْجـِزاتِ
كأنَّ الناسَ حَوْلـَكَ حينَ قامُوا وُفودُ نـَدَاكَ أيَّامَ الصِّلاتِ
كأنكَ قـائِـمٌ فيهـِم خَطيـبـًا وكـُلـُّهُمُ قِيــامٌ للصَّـــــلاةِ
مَدَدْتَ يدَيْكَ نحْوَهُمُ احتِفاءً كـَمَدِّها إليهم بالهـِبَــــاتِ
ولمَّا ضَاقَ بَطنُ الأرض ِعن أنْ يَضُمَّ عُلاكَ من بَعْدِ الوَفاةِ
أصَارُوا الجَوَّ قبرَكَ واستعاضوا عن الأكفان ِثوْبَ السَّافِياتِ
لِعُظـْمِكَ في النفوس ِبَقِيْتَ تـُرْعَى بـِحُرَّاس ٍ وحُفـَّاظٍ ثِـقـاتِ
وتـُوقـَدُ حَولكَ النيرانُ ليلا كذلكَ كنتَ أيَّام الحياةِ
ركبِْتَ مَطِيَّة ًمن قبلُ ، زيْدٌ عَلاهَا في السنينَ الماضياتِ
وتـِلكَ قضِيَّة ٌ فيها تـَأسٍّ تـُباعِدُ عـَنكَ تـَعْبيـرَ العُدَاةِ
ولم أرَ قبلَ جـِذعِكَ قـَط ُّجـِذعًا تمكـَّنَ من عِناق ِالمَكرُماتِ
أسَأتَ إلى النـَّوائبِ فاسْتـَثارَتْ فأنتَ قتيلُ ثأر ِالنـَّائباتِ
وكنتَ تـُجيْرُ مِنْ صَرْفِ الليالي فصارَ مُطالِبًا لكَ بالتـِّراتِ
وصَيَّرَ دهرُكَ الإحسانَ فيهِ إلينا من عظيْم ِالسَّيـِّئاتِ
وكنتَ لِمَعْشـَر ٍ سَعْدًا ، فلمَّا مضـَيْتَ ، تـَفـَرّقوا بالمَنـْحَسَاتِ
غليلٌ باطن ٌ لكَ في فؤادي يُخـَفـَّفُ بالدُّموع ِ الجارياتِ
ولو أنـِّي قـَدَرْتُ على قِيام ٍ بفـَرْضِكَ ، والحُقوق ِ الواجباتِ
ملأتُ الأرضَ من نـَظـْم ِالقوافي ونـُحْتُ بها خلافَ النائحاتِ
ولكنـِّي أصَبَّرُ عَـنكَ نـَفسي مَخـَافـَة َأنْ أ ُعَدَّ منَ الجُناةِ
وما لكَ تـُرْبَة ٌ ، فأقولُ تـُسْقـَى لأنكَ نـُصْبُ هَطـْل ِالهاطِلاتِ
عليكَ تحيَّة ُ الرَّحمن ِ تـَتـْرى بـِرَحْماتٍ غـَوَادٍ رائِحاتِ
الأحد ـ 07/11/2010
التعليقات (0)