أتى حفظ المال ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة الرئيسية، وهذا الحفظ يتأتى من خلال الدور الذي يقوم به المال على مستوى الفرد والمجتمع؛ فكما أن مال الأفراد محفوظ ومصون فكذلك المال العام له الكثير من الأطر التي تحميه حتى يؤدي دوره. فالمال في المجتمع -سواء أكان للأفراد أو الدولة- منوط به أداء واجب العمارة وتوفير حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع، ولا يكون ذلك عن طريق الهبة أو المعونة ولكن من خلال توظيف طاقات الأفراد وقدراتهم حتى يتسنى لهم الحصول على عوائد لأعمالهم، كل حسب أدائه، ومن تعجز به قدراته عن تحقيق ذلك فهناك من الوسائل التكافلية وواجبات الدولة ما يصون كرامة الفرد ويجعله منضبط الأداء الاقتصادي وكذلك في باقي نواحي الحياة.
ولكن على مدار ربع قرن مضى، وكذلك في فترات زمنية متفاوتة، وجدنا بعض الأفراد والجماعات قد اختطت لنفسها نهجًا اتسم بالعنف، والخروج عن منهج الوسطية الذي اتسم به الإسلام، ولم يقتصر هذا السلوك على أبناء الدول الفقيرة فقط أو أبناء الفقراء والطبقات المهمشة بها، ولكنه تواجد أيضا في بلاد تتسم بقدر من الوفرة ومتوسط دخل مرتفع.
فقد وجد هذا السلوك في كل الدول العربية. ويرجع هذا السلوك لعوامل مختلفة، منها ما يتعلق بمرجعيات أيدلوجية أو سياسية، ومنها ما يتعلق بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية... ولكننا في هذه السطور نتعرض للنواحي المتعلقة بالسياسات الاقتصادية الدافعة لتبني سلوك العنف، من خلال تناول الآتي:
أخطاء السياسات التنموية
بالاطلاع على الأدبيات الاقتصادية المعنية بتصنيف وضع الدول وتقسيماتها على مستوى العالم نجد أن جميع بلدان العالم العربي والإسلامي تقع في دائرة الدول النامية، بل من بين دول العالم الأقل نموًا والبالغ عددها قرابة 50 دولة نجد أن من بينها 35 دولة إسلامية.
والمقصود بالسياسات التنموية هنا هو صناعة الإنسان وتعدد خيارات الحياة الأفضل أمامه، من خلال التعليم والصحة والحصول على الماء النقي والصرف الصحي الآمن، وكذلك حقوقه السياسية وتوافر سبل الاتصال والمواصلات المناسبة. ولكن يلاحظ أن معظم البلدان الإسلامية والعربية تتجه نحو نظم تنموية لا تبني الإنسان أو الفرد بشكل يؤهله للقيام بواجبات العمارة التي كلف بها، ويتضح ذلك على سبيل المثال من خلال معدلات الأمية والتي تصل في العالم العربي لنحو 50% ونحن في القرن الحادي والعشرين، في حين اليابان قضت على الأمية في مطلع القرن التاسع عشر.
جيوش البطالة.. قنابل موقوتة
ومن مظاهر الخطأ في السياسات التنموية أنها تعتمد في البلدان العربية والإسلامية على الأنشطة الريعية أو إنتاج السلع والخدمات الأولية، ومن هنا لا تحقق قيمة مضافة عالية ولا تساعد على فتح مجالات للتوظيف تتناسب مع حجم الداخلين الجدد لسوق العمل، فضلاً عن استيعاب العاطلين الحاليين الذين يصل عددهم حاليا لنحو 18% من قوة العمل، والأخطر أن هذا المعدل بين الشباب العربي يصل لنحو 40%، وهو من أعلى المعدلات على مستوى أقاليم العالم. وتبني الاتجاه الريعي هو ما يفسر وجود تبني لسلوك العنف في البلدان العربية. فالسياسات التنموية تقضي مثلاً بأن يكون هناك تنسيق بين مخرجات المؤسسات التعليمية واحتياجات سوق العمل، في حين الواقع أن معظم العاطلين بالدول العربية من أصحاب المؤهلات العالية؛.
سياسات مالية مولدة للسخط
يأتي في مقدمة أدوات السياسة المالية أمران مهمان وهما الموازنة العامة للدولة وكذلك الضرائب بأنواعها المختلفة (المباشرة وغير المباشرة). وبخصوص الموازنة العامة للدولة نجد أن معظم الدول العربية والإسلامية -باستثناء دول الخليج- تعاني من عجز دائم. وفي ظل تبني ما أطلق عليه برامج الإصلاح الاقتصادي لم تعد هذه الموازنات تشتمل على توجيه مخصصات لاستثمارات جديدة تعمل على خلق فرص العمل، بل الملاحظ هو الاتجاه لتبني برامج للخصخصة وخروج العديد من العاملين للمعاش المبكر والانضمام لصفوف العاطلين، ولا يقتصر هذا الأمر على الجانب الإنتاجي فقط بل يشمل جانب الخدمات، حيث أصبحت الخدمات العامة في مجالات التعليم والصحة والنقل وغيرها في حالة من السوء تستجلب سخط محدودي الدخل وأبناء الطبقات الفقيرة، بل وتساعد على تقليص الطبقات المتوسطة، وأصبحت هذه الخدمات في القطاع الخاص تقدم خدمات أشبه بالفندقة على حساب الجانب الفني والمهني...
الضرائب.. طاحونة الفقراء
أما الضرائب فالمعروف أن النظام الضرائبي في البلدان النامية يميل إلى تبني الاتجاه نحو الضرائب غير المباشرة بشكل كبير لارتفاع التهرب الضريبي وذلك فيه غبن كبير للفقراء؛ حيث إن الأغنياء والقادرين لديهم من الطرق والوسائل ما يمكنهم من التهرب الضريبي، ولكن الفقراء والموظفين فإنهم لا يستطيعون التهرب؛ لأن الضرائب تخصم من المنبع، من خلال المرتبات أو من خلال الضرائب غير المباشرة التي تفرض على السلع والخدمات، والمعروف أن الفقراء والطبقة المتوسطة ميلهم للاستهلاك مرتفع، في حين الأغنياء على العكس ميلهم للادخار أعلى من الاستهلاك، وبالتالي يدفع الفقراء ضرائب أكثر. والأشد غرابة أن المستفيد بشكل كبير من إنفاق عوائد الضرائب من خلال الموازنة العامة هم الأغنياء من خلال المرافق الأساسية أو دعم الطاقة أو الصناعة وغيرها.
والنتيجة هي مزيد من عدم عدالة توزيع الدخل؛ فبعد أن كانت الضرائب تؤخذ من الأغنياء لخدمة الفقراء وأداة لإعادة توزيع الدخل، أصبحت الضرائب تحصل من الفقراء بشكل كبير ومن الأغنياء على استحياء لتنفق على خدمات يستفيد منها الأغنياء بشكل أكبر؛ وهو ما يدفع لسخط الأفراد على مثل هذه السياسات ومحاولة الخروج عليها وتغييرها عبر تبني منظومة العنف والتطرف كأداة وحيدة للتغيير.
سياسة نقدية عرجاء
في مجال السياسة النقدية نلاحظ عدة ملامح متعلقة بالدفع لتبني سلوك العنف لدى الأفراد، وهي: ارتفاع معدلات التضخم وعدم السيطرة عليه، والمضاربات على أسعار العملات الوطنية، والاستمرار في العمل بالأدوات المالية المعتمدة على سعر الفائدة، وعدم التوسع وتفعيل الأدوات المالية الإسلامية القائمة على نظام المشاركة.
بالنسبة للتضخم، يلاحظ أنه من السلبيات التي يلمسها رجل الشارع بصفة دائمة؛ حيث إن انخفاض القيمة الشرائية لنقود معظم بلدان العالم العربي والإسلامي مستمر، كما أن تكاليف الإنتاج بهذه البلدان مرتفعة؛ فيطبق التضخم بنوعيه -جانب العرض وجانب الطلب- على رقبة المستهلك في هذه البلدان. ومن هنا فلا بد أن تكون لدى بلدان العالم العربي والإسلامي قواعد إنتاجية تقوي قيمة عملاته وتساعد على استقرارها والحفاظ على قوتها الشرائية، وتخفض من تكاليف الإنتاج بها. وبذلك يوجد لدينا نظام جامد للأجور والرواتب ومعدلات تضخم مرتفعة، وتكون المعادلة نتيجتها مزيد من السلوكيات المنحرفة مثل الرشوة والسرقة والغش لكي يستطيع أن يلبى الأفراد احتياجاتهم الأساسية، وبالتالي مزيد من السخط الذي يؤدي لتبني سلوكيات العنف. يبرهن على ما نقوله من ارتفاع معدلات التضخم بالبلدان العربية التي تعاني من الفقر والعوز؟
المضاربات.. رفع للأغنياء وحط للفقراء
من الظواهر السلبية أيضا المضاربات داخل البلدان العربية والإسلامية على عملاتها في الداخل في مواجهة العملات الأجنبية الأخرى، ويشجع هذا السلوك على الانصراف عن ثقافة العمل والكد وبذل الجهد؛ حيث إن الحصول على ربح عال وسريع يتحقق من نشاط المضاربة على العملات، ومن هنا تظهر طبقات غير مسئولة في المجتمع حصلت على المال بسهولة ولا تملك توظيفا جيدا له، وبالتالي يكون إنفاقها متسما بالبذخ؛ وهو ما يستفز الفقراء ويضيع عليهم الفرصة البديلة، وهي خلق فرص عمل حقيقية ووجود نوع من عدالة التوزيع للدخل بين أفراد المجتمع.
. أما الظاهرة السلبية الثالثة، في مجال السياسات النقدية، فهي استمرار العمل وفق آلية سعر الفائدة في الإقراض، ووجود فرص ضيقة ومحدودة في مجال الصيرفة الإسلامية التي تعاني هي الأخرى من نقص في الإمكانيات وفقر في التجديد. فمعظم المؤسسات المالية لا تهتم باحتياجات الفقراء ومحدودي الدخل -بما فيها المؤسسات الإسلامية- أو حتى أبناء الطبقة المتوسطة، ولكنها تركز على تلبية احتياجات كبار العملاء الذين يتوفر لديهم ضمانات الاقتراض من هذه المؤسسات، هذا فضلاً عن أن العمل وفق آلية سعر الفائدة يتخوف منه الغالبية العظمى من أبناء العالم العربي والإسلامي باعتباره دربًا من دروب الربا.
والنتيجة في ظل معدلات عالية للتضخم، وشيوع اقتصاديات المضاربة، وغياب التمويل لطالبيه خاصة الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة، تبني سلوك العنف كأداة للتغيير.
السياسة التجارية وجنون الأسعار
تنقسم السياسات التجارية بطبيعتها إلى قسمين: الأول: ما يتعلق بالتجارة الداخلية. والثاني: ما يتعلق بالتجارة الخارجية. ودون الدخول في تفاصيل هذا التقسيم فإننا نعرج إلى السلبيات التي تكتنف العمل بهذه السياسات والتي ترتبط بموضوعنا وهو الدفع لتبني سلوك العنف، باعتباره نوعًا من التعبير عن السخط وعدم القبول بهذه السياسات.
. على صعيد التجارة الداخلية تشهد الأسواق تفاقم ظاهرة الهروب الحكومي من الرقابة على الأسعار ومحاربة الاحتكار، وتعكس أسعار السلع والخدمات ما تحتويه من جودة ومكونات حقيقية، وهذا صلب دور الدولة في اقتصاديات السوق التي تتبناها معظم البلدان العربية والإسلامية بعد سيطرة العولمة الاقتصادية في مطلع تسعينيات القرن الماضي. فهناك سلع أساسية تمارس بها احتكارات على مستوى كبير، كما أن الرقابة على الجودة شبه معدومة.
. يوجد نوع من العشوائية في تنظيم السوق على الصعيد الداخلي، من حيث شرائح المتعاملين بالسوق الداخلية، والعمل على تثبيت أوضاع متوسطي وصغار التجار، بما يساعدهم على البقاء في الأسواق وعدم تركها لكبار التجار، ومتاجر السلسلة الشهيرة التي عادة ما تكون تابعة لإدارات ومشاركات أجنبية.
الاتفاقات الدولية.. رمال متحركة
. أما على صعيد التجارة الخارجية فيلاحظ أن البلدان العربية والإسلامية قد تسرعت في التوقيع على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية شأنها شأن كل البلدان النامية التي وجدت نفسها أمام أجندة مصالح للدول المتقدمة تنفذها البلدان النامية وتتهرب منها البلدان المتقدمة تحت زعم الأوضاع الاجتماعية، وهو زعم كان الأولى به الدول النامية. فأصبحت الصناعات المحلية لا تستطيع المنافسة في ظل معدلات الجمارك الجديدة وشروط التجارة الدولية؛ فتراجعت الصناعة وما بقي منها لا يقوى على المنافسة، ولكنه لا يسعى لأكثر من حصة متواضعة من الأسواق الداخلية. كما أن بلدان العالم العربي والإسلامي لم تستفد من الفترات الانتقالية التي أتاحتها لها منظمة التجارة العالمية، بحيث تؤهل قطاعاتها الإنتاجية والخدمية للدخول في منافسة حرة. وبلا شك فإن هذه الاتفاقيات قد حرمت الصناعات الوطنية من الحصول على أي نوع من الدعم أو الحماية؛ فكانت النتيجة النهائية هي دخول السلع والخدمات الأجنبية بكميات وأسعار لا تقوى عليها الصناعات الوطنية؛ فوجدنا حتى الصناعات التابعة للقطاع الخاص تسعى لبيعها للأجانب أو التخلص منها والاتجاه للأنشطة الخدمية أو المضاربات على العقارات أو في البورصات أو العملات الأجنبية.
غياب المشاركة يضخم الحاجة للعنف
ثمة ملاحظة مهمة تتعلق بأداء السياسات التنموية والاقتصادية في بلداننا العربية والإسلامية، وهو غياب مشاركة الأفراد في صنع وتنفيذ هذه السياسات؛ فالعادة أن الحكومات تشرع في تنفيذ ما تراه من سياسات، سواء أكانت من بنات أفكارها أو من وحي المؤسسات الدولية، فيغيب عنها إيمان الأفراد بجدوى هذه السياسات. فإذا ما تم مشاركة الأفراد في صنع هذه السياسات عبر مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الفنية المعنية، وجعل قضية التنمية قضية جماعية تعبر عن طموحات وتطلعات المجتمع، فبلا شك لن يكون هناك سياسة اقتصادية تؤتي مردودا ثقافيا وسلوكيا سلبيا ينتهي بتبني منهجية العنف من أجل التغيير...
التعليقات (0)