وزانية :
وُلدت بمدينة وزان المغربية ذات أكتوبر حزين وقررت منذ صغري ألا أعيش نفس حياة والدتي ونساء المدينة اللائي كـُنّ يتـّشحن بالبياض وكأنهن في حزن دائم (البياض هو لون الحداد في المغرب). قررتُ ألا أحيا الحياة الرمادية التي لم تكن تسمح بالألوان ولا بالفرح، قررت ألا أكون مستسلمة لمجتمع لا يرغب سوى أن يراني راكعة مستسلمة مُغيـّبة ويريدني في الوقت نفسه أن أكون جميلة مغرية ومثيرة كي يُشبع ذكورته المريضة.
في وزان الصغيرة، المحافظة والحزينة أدركت أن العالم الذي يمتد خلف شبابيك النوافذ الحديدية لمنزلنا أوسع مدى من حجرات المدرسة التي كنت أشتاق للذهاب إليها هربا من سجن البيت وأن الحياة أكثر شقاوة من السويعات التي كنت أقضيها في مشاغبة إخوتي الثمانية.
حصلت على البكالوريا من ثانوية إبراهيم الروداني بالرباط سنة 1998وعندها فقط فهمت مغزى ابتسامة مُعلّم الرياضيات عندما كان يقول لنا في المدرسة الابتدائية "أغبطكم لأنكم مازلتم صغارا ولا همّ لكم غير الدراسة، لا تفكرون في كيفية ملأ القـُفـّة قبل أن تعودوا إلى البيت ولا كيف ستتمكنون من شراء أحذية جديدة لأولادكم لأن أصابع أقدامهم باتت تظهر من الأحذية القديمة ولا حتى فلوس الإيجار وثمن الكتب..." وكانت القائمة تطول في كل مرة. أدركت مغزى تلك الابتسامة لأنني حينها فقط أدركت بأنه قد قـُذف بي إلى هذه الحياة بعد سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية ولم يكن في رصيدي المعرفي غير الأفكار المثالية التي قرأت عنها في كتب الثورة الفرنسية والنهضة الأروبية وعصر الأنوار أما معلوماتي الدراسية فلم تكن تتجاوز نصوصا كانت تصر أستاذتي في التربية الإسلامية ألاّ أناقشها رغم أنها كانت مليئة بالغموض وبعض الأحاديث التي كانت تعتبرني كامرأة مجرد حرث ومتاع بل ناقصة عقل ودين!!
اختارتني الصحافة كتخصص حين نجحت في اجتياز مباراة المعهد العالي للإعلام والاتصال في السنة نفسها وقضيت السنوات الأربع التالية أنهب المعلومات أينما وجدت وأبحث عن الأفكار المحرّضة على استعمال العقل وليس طويه ووضعه في الجيب كما كانت أستاذة التربية الإسلامية تريدني أن أفعل.
تعلّمت خلال سنوات البكالوريوس الأربع أن المغاربة ليسوا متساوين وأن إسمهم العائلي هو ما يُحدّد كيفية تعامل الآخرين معهم. تعلمتُ أيضا بأنك كلما انبطحت وقبّلتَ أيادي الأسياد تتقدم وترتقي وكلما رفعت رأسك ووقفت حاولوا تكسير ظهرك وركوبك. تعلّمتُ بأنك لا تستطيع أن تتناقش مع زملاء الجامعة الملتحين لأنني كلما رفضت أن أبدأ اجتماعا كممثلة نقابية عن طلبة المعهد العالي للإعلام والاتصال بقراءة سورة قرآنية شككوا في إيماني ووضعوا علامات استفهام ضخمة على معتقداتي. تعلمتُ بأنك لا تستطيع أن تتحاور مع طلبة لا يرون في "الخطة الوطنية لإدماج المرأة" غير خطة صهيونية للسطو على إسلام المغاربة وغير وسيلة لتشريع العـُهر والفساد. آمنتُ بالصحافة كوسيلتي للتعبير عن آهات فئات عريضة من الشعب مقهورة مذلولة ومُغـيّبة درّبوها على تقبيل الأيادي وقول آمين و"العام زين" فقررتُ أن أحوّل النظريات الإعلامية التي كنتُ أدرسها في المعهد إلى حقيقة.
آلمني دائما أن أرى أناسا يبيعون لحم أخواتهم وبناتهم وأمهاتهم لمكبوتين جنسيا يستقلون الطائرات من الخليج ويقصدون المغرب شاهرين قضبانهم معتقدين بأن المغاربة جميعهم يبيعون نفسهم مقابل حفنة من الدولارات. قررتُ القيام بتحقيق ميداني عن هذا الموضوع والتخفي تحت جلد مومس واقتحام قصور الدعارة التي تـُجاور مآذن المساجد وقصور سُرّاق المغرب "بطريق زعير" بالرباط. لم يكن الأمر صعبا فجامعاتنا وثانوياتنا بل وحتى مدارسنا الابتدائية أصبحت مرتعا للقوادين والمتاجرين بلحمنا. أنجزتُ التحقيق ورفضَت جميع الصحف نشره حتى شكّلت أسبوعية "الصحيفة" استثناء ونشرته سنة 2003 وبعد نشره اتصل بي صديق عزيز مستنكرا كيف أقوم بوضع اسمي الحقيقي على التحقيق قائلا: "يا مجنونة وهل تظنين نفسك في السويد، نحن في المغرب وسيقولون شيئين لا ثالث لهما إما إنك عاهرة وتعرفين تلك القصور خير معرفة وبالتالي سهُلت عليك مهمة القيام بالتحقيق وإما إنك كاذبة وأن التحقيق غير حقيقي وأنك اختلقته." وصدقت نبوءة صديقي فلم تمض ساعات على نشر التحقيق حتى تحول بعض الزملاء في المهنة إلى خبراء في الدعارة وقالوا إن تفاصيل التحقيق مبالغ فيها لأنهم يقضون سهرات مع الخليجيين ولكنهم لم يروا مثل الأمور التي ذكرتْ. خجلتُ من أن أرد عليهم، فصحفيون يقبلون أن يباع اللحم المغربي بتلك الطريقة المهينة المذلة أمامهم ولا يحرك ذلك فيهم أي إحساس بالكرامة أو النخوة أو حتى الرجولة هم لا يستحقون ردّي. بينما تحوّل البعض الآخر إلى مشروع عشيق يتصل بي ويسألني هل صحيح ذهبتِ ورأيتِ وقالوا لك وفعلوا لهن، وهل فعلوا لكِ أنت أيضا؟؟. كنت أشفق على خيالهم المريض وأهرب من أسئلتهم العاهرة بالتذكير بأن شيوخ الخليج يتبولون على بنات المغرب ويطفئون السجائر بين أفخاذهن وأن القضية معروفة للجميع لكن بعض المغاربة يصرون على العيش كالنعامة... مؤخرة مرتفعة عالية في السماء ورأس صغير محشور وسط الرمال.
حصلتُ في نفس السنة على جائزة اتحاد كتاب المغرب عن مجموعتي القصصية "شيء من الألم" لكن الألم الذي أصاب قلبي حينها من أوضاع وطني كان كبيرا. النفاق الذي يغلّف حياتنا والنهب الذي يُمارَس على ثرواتنا والتحقير الذي تمرّغ فيه كرامتنا الجماعية كانوا سياطا تجلد ظهور البسطاء من المغاربة الذين رغم ذلك كانوا يصرون على الابتسام والانقضاض على الحياة... انتقلتُ إلى مجلة Telquel"" التي منحني مديرها فرصة كي أحقق حلمي في التخصص في صحافة التحقيق الميداني وقمت بتجربة جديدة حاولت خلالها أن أكشف عورة جديدة هذه المرة وأدينها عبر تقمصي لشخصية ضحاياها وهي ظاهرة استعباد الخادمات وعملتُ كخادمة لمدة أسبوع وكتبتُ عن يوميات خادمة مطلوب منها أن تكون كل شيء إلا إنسانة من لحم ودم... نُـشر التحقيق هذه المرة باللغة الفرنسية، لغة من يحكمون المغرب ولا يفهمون لغة غيرها وأتبعتُ التحقيق بآخر عن ظاهرة التسوّل التي تشوّه وجه المغرب وتجعل منه معرضا كبيرا لأصحاب العاهات والأسمال البالية والمتاجرات بالرضع والأرامل وفيه تعرفت على مغرب جديد، مغرب القاع الفقير في مادياته وأخلاقه و... مباشرة بعد نشر التحقيق حصلتُ على فيزا للدراسة بالولايات المتحدة. لم أحس بالأمل في حياتي كما أحسست يومها. كنت لا أزالُ طالبة في سنة التخرج من المعهد العالي للإعلام والاتصال لكن كان بجعبتي الكثير من الألم والمرارة... دعوى في المحكمة ضد رجل مريض اعتقد بأنه فوق القانون لأنه يحلق شعر أحدهم بالأسرة الملكية وشعر وزير العدل واعتدى علي بالسب والشتم والعنف أمام زملائي ذات صباح رافضا أن أذكره في ربورتاج عن الأسعار بمدينة العرفان حيث يسكن ويدرس أكثر من ستة وعشرين ألف طالب اشتكى بعضهم من ارتفاع السعر الذي يطلبه ذلك الرجل مقابل حلاقة شعرهم، اعتدى علي قائلا أنت لا تعرفين من أنا أيتها الحقيرة أنا حلاق صاحب الجلالة. دعوى أخرى من سفارة الإمارات ضدي بتهمة الإساءة إلى رئيس الدولة بسبب إشارتي في تحقيقي عن الدعارة إلى أن الليالي الحمراء تقام بمزرعة الشيخ زايد التي تقع خلف قصره بالإضافة إلى رغبة الملحق الثقافي بالسفارة السعودية في الرباط بأن يجرني من شعري داخل قاعة التحرير بالصحيفة التي قصدها ذات صباح مزمجرا أبن هي تلك ال... التي تجرأت وذكرت اسمي في تحقيق الدعارة...
إحساس عميق باليـُتم في وطن تنكر لي ولم يوفـّر لي غير خيار ركوب طائرة قاصدة بلدا يمكن أن يشجعني على المضي قدما في حلمي المهني وليس إعدامه، بلدا يوفر لي لقمة عيش كريمة دون أن أضطر لحمل بطاقة حزب سياسي مفلس في كل شيء إلا في شعاراته، بلدا لا يتحرش بي فيه رئيسي ولا يساومني على لحمي مقابل الزيادة في المرتب الذي لم يكن يكفي حتى لسد مصاريف التنقل من وإلى الصحيفة فبالأحرى إعالة أسرة كانت ترى فيّ أملها في الخلاص.
أمريكا كانت ملاذي، منذ 2003 وأنا أعيش في هذه البلاد التي يزداد احترامي لشعبها وقيمه الإنسانية المتسامحة كل يوم، لم يسألني أحد هنا عن اسمي العائلي ومهنة والدي وأملاك أمي وهل أعرف أحدا بالقصر الملكي أو بوزارة الداخلية أو في أية مقاطعة حقيرة من مقاطعات البلاد التي تمتهن تحقير كل من ليس له "لالاّه" أو "سيدو".
في هذه البلاد أعيش بطموحات شامخة وبأحلام أن أرى وطني يوما واقفا وليس منبطحا وأن يستر بعض المغاربة مؤخراتهم العارية التي يلعب فيها كل من هب ودب وأن يتخلصوا من دخان الجهل والذل الذي يغلف أدمغتهم.
في هذه البلاد ألعق جرح كرامتي وأضمدها لكن فؤادي لازال واقفا في صف المسافرين بمطار محمد الخامس يأبى أن يغادر...
التعليقات (0)