أحيانا يعمَد السّجان إلى محاولة إرضاء مأمور السجن ، بزيادة قمعه للمساجين ، بإستفزازهم ، وشتمهم ، وركلهم ، وصفعهم .. دون الأخذ في الحسبان أن صفعة من تلك في سبيل إدخال الغبطة لقلب كبير السّجانين ، قد يتحوّل تأثيرها على خدّ المسجون المظلوم والمقهور ، إلى ثورة عارمة تهزّ حصن السجن المنيع ، وتطيح بطاقم السّجانين ، وتزجّ ببعضهم في الزّنازين التي كانوا يبصقون على جدرانها وعلى وجوه مَن (كانوا) فيها ، وتدوس على بعضهم الآخر ، فيما يلوذ البعض الآخر بالفرار .. لتنتقل تلك الثورة إلى باقي السجون المُجاورة أيضا ؟!..
وذلك مُختصر حكاية الثورات العربية ، ومُختصر حكاية التمرّد التي تشهدها السّجون العربية ، والمُستمرّة حتى سقوط آخر سجّان سفّاح وظالم ، وحتى إخلاء سبيل آخر سجين بريء ومظلوم !..
وبداية الحكاية كانت إمرأة .. كما كل خير يُمِدّنا بدافع الحياة وبالأمل ، وكما كل شرّ يصيبنا بالإحباط وبالقنوط !.. وأيضا كما كل نزاعٍ في حياتنا بين الخير والشرّ ، يُفضي إلى وقوف الجانب الخيّر في وجه الجانب الشرّير وردعه ، وتحويله ـ بقدرة قادر ـ إلى صالح عام للخلائق !.. كما حدث لـ (الصّفعة الشّريرة) التي تحوّلت ـ بفضل الله ـ إلى (شعلة مباركة) !..
وحكاية المرأة أنها لم تكن تعلم ـ يقينا لحظتها ـ أنها ستمسي إمرأة عظيمة ( مِن منظور ما) ، تقف وراء البوعزيزي الثوري العظيم ، وأنها ستكون سببا رئيساً في جلب الخير الكثير إلى تونس من الحرية والإنعتاق من الأصفاد والإستعباد والإستبداد ، رغم أن ما أقدمت عليه كان عملا شرّيرا !.. ولم تكن تعلم أنها ستجعل من ضحية غطرستها بطلا قوميا ، ورمزا خالدا للكرامة والإباء !.. ولم تكن تعلم ـ أو لم تكن مقتنعة حتى لحظتها على الأقل ـ بأن الخير هو مَن يفوز في النهاية دائما !..
ففي تونس (السّجن الكبير) ، كان بن علي مأمورا قاسيا ، وأيضا جميع أعوانه من قوات الرّدع والشُّرَط ، وحتى تلك التي لاتتعدّى مهامها وصلاحياتها تنظيم المرور ، فكانت هذه الأخيرة تصادر ما يُعجبها من عربات حديثة بعد تهديد أصحابها وإشباعهم سبًّا وشتما .. وتحرق عربات الباعة الشرفاء المتجوّلون القديمة والبالية ، بعد أن تُشبع أصحابها ضربا وركلا ، وصفعا مصحوبا بأقذر المعاني والوُصوف والنعوت !.. و(فادية حمدي) كانت فردا من تلك العصابة التي لم تكن تخشى (في الظلم) لومة لائم ، مادام الرئيس نفسه ظالما ويوصي بممارسة تلك الطقوس في أرجاء تونس ، حتى ولو كان ذلك لأتفه الأسباب كجرٍّ لعربة الخضار في الشوارع بلا تراخيص !..
فادية حمدي كانت شرطية غسل نظام بن علي دماغها ، وأنساها بأنها (إمرأة عربية ) ، في بيئة عربية تظل الثورات تنبعث من عطورها ومن روائحها .. ومن أناملها الرقيقة ، لو أنها أشارت بها ـ بعين النقيصة والإستهزاء ـ إلى الشرف والنخوة والرجولة والكرامة العربية !.. فكيف لو أنها أساءت بها السلوك ، وأساءت بها التصرّف بصفع رجل ؟.. حتى ولو كان ظِلّ رجل مُتلاشيا ومُنتهيا .. وليس رجلا يقف على قدميه ـ رغم التهميش الذي جعلها ترتدي بزة الشرطية ، وجعله يجر عربة الخضار رغم مؤهلاته العلمية ورغم شهاداته ـ ويحاول أن يشق طريقه في الحياة بالمثابرة على الكسب الشريف ؟!..
فادية حمدي ـ بتعريف أكثر دقّة ـ هي (شرطية) تونسية في عهد نظام بن علي البائد ، قامت بصفع (المواطن) محمد البوعزيزي ، فقط لأنه كان يقوم بجر عربته في الشوارع ، ويبيع الخضارعليها بلا ترخيص كتابي شكلي (في الوقت الذي كانت فيه عائلة الطرابلسي تستولي على أموال وأملاك العامة بلا أي تراخيص كتابية أوأخلاقية) !.. فقام البوعزيزي بإضرام النار في جسده ، لينتفض سكان سيدي بوزيد (مدينة الضحية والجاني ، ومسرح متلازمة الخير والشر) !...... وبقية الحكاية معروفة وصولا إلى اليوم ! ..
واليوم : بعد صفعة الشرطية (التي كانت تعمل لصالح النظام الظالم) ، والتي حرّضت المواطن البوعزيزي على إحراق نفسه ، لتنتفض تونس على إثر ذلك ، وتنفض عنها غطرسة نظام بن علي !.. وبعدما إستشرت تلك (الحُمّى الصحيّة) في الجسد العربي ، وبعد أن تهاوت أنظمة ساديّة شبيهة بنظام بن علي .. فإن محكمة سيدي بوزيد تحكم (بالبراءة) على المرأة المستقوية بالنظام ، والتي دفعها جانبها الشرّير إلى صفع الرجل المقهور ، لأن شرّها تحوّل إلى خيرٍ للديمقراطية والحرية والكرامة يعُمّ أرجاء تونس والوطن العربي ! ..
ومحكمة سيدي بوزيد نظرت قبل إصدار حكمها ، إلى نتائج العمل الشرّير الخيّرة ، وأسقطت بموجبه تصرف فادية حمدي الشرّير ، لتكون فادية بذلك المرأة التي تقف خلف كل الثورات العربية ، وليس البوعزيزي (رحمه الله) وحده (الرجل العظيم) الذي فدَى نفسه بنفسه ، وفدَى العالم العربي بنفسه ، بل إن (وراء كل رجل عظيم إمرأة) وبأي شكلٍ من الأشكال !.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاج الديــن | 20 . 04 . 2011
التعليقات (0)