(الحلقة الثالثة)
عبد الهادي فنجان الساعدي
يقال بان العيش في سوريا في شقة يكلف في اقصى الحالات (250) الف دينار في الشهر أما نحن فقد كلفنا المبيت فقط في كوردستان لسبعة ايام اكثر من (500) الف دينار عراقي . يقول الامام علي (ع) (اللهم اعذنا من وعثاء السفر) . واشهد باننا شهدنا وعثاء السفر الذي انسانا جمال الطبيعة في كوردستان الحبيبة.
في طريق العودة من دهوك الى اربيل وكذلك من اربيل الى المصايف شاهدنا الكثير من المزارع والبساتين والاراضي الزراعية المسيجة باسيجة حديثة .. وهناك تذكرنا مزارع عدي وقصي وسجودة وبرزان ووطبان والحاشية الكريمة وكل املاكهم ومزارعهم التي تركوها لياكلها من جاء بعدهم (باردة) وليعيد التاريخ نفسه على شكل كوميديا سوداء .
لقد سن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قانون (من أين لك هذا) ولكن هذا القانون الانساني للاسف لم ياخذ مجراه وإلا لأخذ كل ذي حق حقه .
عدنا الى اربيل وصعدنا الى القلعة الشهيرة التي بدت اكثر مبانيها ايلة الى السقوط وبالخصوص المباني التي تشكل سياج القلعة حيث جرت ترميمات عديدة في العهود السابقة ولكنها تركت في الفترة الاخيرة ولا ندري ما المقصود .. هل هو الاهمال ام عدم الاختصاص .. أم انها تعود الى امة غير الامة العراقية . ان الالم يعتصر الانسان وهو يرى اثاره التي تمثل كيانه الحضاري تنهار وكأن البلد لا أهل له .
في اليوم التالي ذهبنا الى المصايف في اربيل وكانت تمثل الجانب الساحر من هذه المدينة الجميلة وكانت كذلك تشكو فقر السياحة وقلة السياح في هذه المناطق الرائعة . ذهبنا الى شلالات بيخال الهادرة ومالا حظناه هو انقضاض اصحاب المرافق السياحية على هذه الشلالات الجميلة وتغطيتها بالمسقفات التي حجبت الكثير من جمالية هذه المياه التي تهدر منذ الازل . اما الاسعار فكانت عالية جدا ازاء خدمات فقيرة بحيث ان الاسعار كانت تساوي سعر الكراسي والمنضدة التي كانت توضع للسياح دون ان يكلف العمال انفسهم عناء النظافة والترتيب .
جمال فائق يقابله جهل في استغلال هذا الجمال وتحويله الى قطعة من المرافق السياحية المتطورة . كل هذه المظاهر تدلل على عدم وجود حس سياحي او تجاري متطور . انها الحضارة.. كيف تولد .. وكيف تموت !!!
عدنا بعد ذلك الى شلالات كلي علي بيك الشهيرة ولم يكن بجمالية شلالات بيخال الكبيرة . كان شلالا واحدا يهدر والجميع يستمع الى هذا الهدير الجميل . هناك مسقفات وغرف بدائية يعوزها الكثير من الوعي السياحي والفكر التجاري . اعتقد بان السبب هو عدم تشجيع السياحة . ومنع المرور الى كوردستان لغير الاكراد من قبل السلطات بدواعي امنية في زمن فقد فيه الوعي الامني والوازع الوطني والمعالجات الامنية كانت بدائية ولا تتسم باي حس حضاري . فهاهي اوربا تتلقى التهديدات والتفجيرات ولكنها لم تضع هذا العدد الهائل من الكتل الكونكريتية. والسيطرات الامنية التي تدمر الانسان واقتصاد البلد وتعيده الى قرون انسان نياندرتال وعصر الكهوف .
ذهبنا بعد ذلك الى مدينة شقلاوه وهي مدينة حديثة رائعة بكل مفاصلها الحياتية وكانها ليست تلكم المدينة القديمة ذات الطابع الجبلي . تقع على سفح جبل رهيب وتنحدر الى وادي جميل وهي نائمة طيلة فترة الصباح والظهيرة ولا تستيقظ الا في المساء فتراها مدينة مكتظة بكل انواع الخدمات وتلتقي هناك بالوجوه الجميلة التي انحدرت من الوسط والجنوب نتيجة التهجير وفقدان الامن لتختلط بوجوه ابناء كوردستان الحبيبة والقريبة الى القلب طلبا للعيش والامان الذي وفرته سلطات كوردستان مقابل القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد (للسياحة) واقتصاد البلد .
عندما تغادر أي مرفق او مدينة من هذه المدن الجميلة فبالتاكيد تحس بانك تترك قلبك وكل احاسيسك هناك . (شقلاوة .. ايتها المدينة الرائعة اعيدي لي قلبي الذي تركته في شارعك الوحيد الجميل).
كلما حاولت أن تنسى وتتفاعل مع هذه المدن الجميلة والطرق الساحرة ، تتذكر فجأة (عجوز منببج)(1) وتتأسى ، وفجأة توقظك سيطرة تدفع لها الكثير من راحة اعصابك وتحرق الكثير من دمك القليل .
لقد المتني معاملة المسؤولين في احدى السيطرات فهم لا يقرأون العربية ولا يقراون الكوردية وكانهم آتون من احدى قبائل الزولو . لم استطع التخلص منهم الا بعد أن جئنا بمترجم يتكلم الكوردية بلهجة غير اللهجة التي يتكلم بها سائقنا ، وقال لهم باننا ذاهبون الى جهنم فاتركونا .. وعندها تركونا نرحل دون عودة .
لقد لاحظنا بان المناطق التي ليس فيها مرافق سياحية وهنالك مناطق ساحرة اكثر من المناطق السياحية ولكن لعدم وجود الماء لم تصبح سياحية وهنا ذكرت الاية الكريمة (بسم الله الرحمن الرحيم وجعلنا من الماء كل شيء حي)(2).
بالامكان استغلال هذه المناطق للتسلق او اية فعالية سياحية اخرى وتوفير الماء اللازم لها او نصب (تلفريك) بين الوديان والجبال لاحياء السياحة. ولكن الظاهر ان هذا البلد .. لا اهل له .
في الطريق بين لبنان وسوريا محطات استراحة صغيرة وخصوصا في الجانب اللبناني من الطريق كانت تمتلك كل مقومات المدينة المصغرة حيث تجد كل انواع الماكولات والمعلبات والمشروبات والدخان والكماليات والمقبلات وتحس بانك تنزع جلدك لتلبس جلدا اخر اكثر شفافية وراحة .. اما القائمين على الخدمة فيها فهم يملكون حس الفكاهة وروح النكتة وعنصر الحكمة في السكوت والاجابة. انهم سكان الموانئ وورثة اجيال خلقت السياحة والتجارة والسفر وصنعتهم اقناع الناس بالتعامل معهم بروح الحضارة وتعليم الاخرين (الصنعة) دون معلم.
لم اجد انسانا واحدا في كل هذا البلد يمتلك هذه المواصفات لكي يعلم الناس (الصنعة) دون معلم . لقد بدأنا نتعلم القتل العمد لكل ما هو جميل وانساني في حياتنا وفي بلادنا وفي نفوسنا من دون معلم .
عندما ذهبنا الى اربيل في الطائرة كنا قد قطعنا تذكرة للذهاب والاياب ولكن عند العودة لم نستطع الحجز في الموعد الذي تنتهي فيه اجازتنا ولذلك الغينا حجز العودة وعند مراجعتنا لمكتب الخطوط الجوية العراقية في بغداد قالوا بانهم يستقطعون (25) دولارا عن كل تذكرة عند الغاء الحجز عن الرحلات الداخلية و (50) دولار عن الرحلات الخارجية . هل عدنا الى عصر الجزية أم هي (كوده) ورثناها عن العثمانيين أنك لتقف عاجزا ازاء هذه التصرفات البائسة لمؤسساتنا الحكومية في استغفال الناس والاستهانة بهم وهذا مما يدل على عدم احترام انفسهم وقراراتهم والذي ينعكس على عدم احترامهم للاخرين . سمعنا التهليل الذي صدر في الصحف عن اجراء تخفيض 50% عن التذاكر للصحفيين ولكن لم يكن هناك أي صدى لهذا القرار في مكاتب شركة الخطوط . فهل ان الوزير يكذب ام ان النقيب يكذب ام ان العشو اصاب عيوننا !!
الحياة اخذ وعطاء .. اما ان تاخذ كثيرا لتعطي قليلا فهذا هو الاجحاف بعينه وهذا ما حدث في كل مراحل سفرتنا البائسة الى كوردستان .
سألنا عن الامان في الطريق البري فقالوا بان طريق الموصل غير امن اما طريق كركوك بغداد فهو امن قليلا، اسعار النقل قبل الساعة التاسعة صباحاً هي غير الاسعار بعد التاسعة والنصف حيث يخلو الكراج من سيارات اربيل بغداد ولتذهب الى كركوك ثم الى بغداد . السيارات معظمها غير مكيفة والطريق بائس والتفجيرات تركت اثارها على جوانب الطريق كما قطعت الجسور الصغيرة والقناطر فضلا عن المناظر التي تدمر الذاكرة حيث تم تدمير كل ابراج الكهرباء بين كركوك وبغداد وكأن البلد لا اهل له .
وصلنا بغداد في طريق يقال بان اللحظات تحكمه وليس الساعات ففي أي لحظة من الممكن ان تقف امامك مجموعة من الملثمين قد تغير مسار حياتك بمعدل 180 درجة على مقياس الدائرة.
وصلنا بغداد واحتضنا ترابها المليء برائحة الدم والبارود ثم التفتنا الى الوراء فالتفت السائق من دون ان يعرف السبب ولم يكن يعرف باننا نتمتم مع انفسنا (وداعا كوردستان ومن الممكن ان تكون الى الابد) .
التعليقات (0)