(الحلقة الأولى)
عبد الهادي فنجان الساعدي
نتيجة الظروف الامنية التي تمر بها العاصمة بغداد نصحني بعض الاصدقاء بالسفر . وقد قررت السفر لفترة قصيرة بالرغم من كل الجذور القوية والعميقة التي تربطني بمكاني وبمدينتي وباهلي وباعمالي وبالقراءة والكتابة والصحيفة وبكل البرامج التي كنت قد رسمتها للايام القادمة لغرض الوقوف الى جانب هذا الانسان العراقي المكافح والذي يقف عاريا على رصيف ساخن في درجة حرارة تفوق احتمال الانسان في أي مكان في العالم .
عندما خيروني اخترت كوردستان الحبيبة للسفر والاستجمام ولانحيازي الشديد نحو بلدي . موضوعنا هو كوردستان وبالرغم من كل ذلك فقد ذقنا الامرين حتى وصلنا مطار بغداد .. تلكم المعضلة التي تحتاج الى ربطها بكل عناصر التخلف واسبابه واعطاء النتائج لنجد أن السفر بالطائرات وصل درجة الصفر بالمعدل العام للتقدم في كل انحاء العالم .
في الوقت الذي تفتخر كل شركات العالم بانها تمتلك مواعيد سفر مضبوطة (We have exacte table time) نفخر نحن باننا نستطيع ان ننزل أربعة ركاب من طائرة لان اربعة ركاب غيرهم قد تم دسهم في قائمة المسافرين من قبل احد الموظفين بحجة انهم يحملون جوازات سفر دبلوماسية او انهم بمهمة امنية او حتى بدون حجة ودون اعطاء أي تفسير لان الانسان في هذا البلد مسلوب الارادة والكرامة وفي بعض الاحيان يحيا في العراء من دون أي سقف .
عندما عرضوا علي تقديم موعد السفر في الطائرة العراقية المتجهة الى اربيل (والعملية لم تتم اصلا) رفضت ذلك لانه يتم على حساب ركاب اخرين وسالتهم هل هي (TATA) أم (KIA).. قالوا أردأ !!
خرجنا من حصار بغداد لندخل في حصار اربيل اذ يتم التدقيق في هويات المسافرين . كان بعض الموظفين في مطار اربيل دبلوماسيين اما البعض الاخر فكانوا يذكروننا بايام البعث وروح الشك التي تصاحب نظراتهم وحركاتهم وقد ذكروني بالجملة الانكليزية المشهورة التي كنا نتداولها في تلك الايام
(you are looking for me by accusing eyes) انك تنظر لي بعيون متهمة . وقد سالني احدهم عن كلمة (جيش القادسية) التي كانت تثبت على هويات الاطفال الذين يولدون ايام (القادسية الثانية) الحرب العراقية الايرانية :- جيش القادسية .. قلت : لم نحصد من القادسية ولم نزرع في اليرموك .
سلمنا هؤلاء الموظفين الى باصات نقلتنا من الصالة الى ساحة في المطار فيها سيارات خاصة للمستقبلين اخذوا اقرباءهم وبقينا نحن تحت الشمس اللاهبة لمدة نصف ساعة جاءت سيارات (تكسي المطار) حيث نقلنا شخص – وكالعادة – تعمد عدم معرفة عنوان الفندق الذي نريد النزول فيه واخذنا الى فندق اخر (كوشكى شاهان) . وهذا الفندق يعتبر من فنادق الدرجة الأولى السياحية الا انه يعتبر مصيدة للمغفلين والذين اخذهم التعب وقسوة الطريق .
ذكرني ذلك بأحدى السفرات في السبعينيات عندما نزلنا في مطار لندن حيث وجدنا حافلات لندن الشهيرة الحمراء وقد اوصلتنا الى قلب المدينة بسعر بطاقة رخيص جدا . وقد حاولت المقارنة بين الامم التي تخلق سياحة في بلدانها وبين الامم التي تدمر نفسها تدميرا ذاتيا. كانت اجرة المنام في كوشكى شاهان (50) الف دينار لليلة الواحدة لغرفة بسريرين فقط وعندما يكون العدد اربعة فمعنى هذا أنك ستدفع (100) الف دينار في كل ليلة مع الافطار حيث كان الافطار (بيض مع جبن مثلثات) . وقبلها في احد فنادق الناصرية بمناسبة مهرجان الحبوبي كنا نفطر في كل صباح (بيض مع جبن مثلثات) وقد تكررت هذه الحالة في فندق الفرقدين السياحي بعد ذلك بمدة في مهرجان المربد التربوي الشعري حيث كان الفطور (بيض مع جبن مثلثات) وهذه الحالة تكررت في معظم فنادق دهوك التي نزلنا فيها حيث يقدم الفطور (بيض مع جبن مثلثات) وقد ذكرني ذلك بطريفة من ايام الدراسة الثانوية اذ كان احد الطلاب مولعا بجملة انشائية هي (الماء والخضراء والوجه الحسن) وكان يكتبها في كل انشاء وفي أي موضوع مثل (صف سفرة مدرسية) أو (حديقة عامة) أو (كيف قضيت العطلة) يذكر هذا الطالب جملته المشهورة حتى ضاق المدرس فكتب على السبورة (موضوعنا لهذا الاسبوع في الانشاء هو (صف الجحيم) ) فكتب ذلك الطالب وصفا دقيقا للنار وبان الجحيم محرقة وهنالك انواع عديدة من العذاب في الجحيم وهي النار المستعرة والحميم والعذاب النفسي والجسدي وهي عكس الجنة التي فيها (الماء الخضراء والوجه الحسن) .
عندما فاز (ليش فاليزا) رئيس اتحاد النقابات البولونية الحرة ومجموعته السياسية في الانتخابات واصبح رئيسا لجمهورية بولونيا صرح بعد مدة بانه ومجموعته قد ارتكبوا خطا في استلام الحكم في بولونيا اذ ان الحكومة السابقة كانت توفر للشعب (500) نوع من الأجبان فكيف سنوفر للشعب هذا العدد الهائل من الاجبان .. ولم تكن هذه هي المعضلة الوحيدة التي واجهتها حكومة ليش فاليزا في بولونيا .
في فرنسا يوجد اكثر من (500) نوع من انواع (الجبس) وعندما اردت تعداد انواع الجبس الموجود لدينا لم استطع تجاوز العدد (10) عشرة .
عندما قال الرسول (ص) (احمل اخاك على سبعين محملا) حاولنا ان نعدد المحامل فلم نستطع ان نتجاوز العدد (17) فكم هي سعة التسامح في قلب الرسول وكم هي ضيقة هذه المساحة في قلب امة الصحراء .
عند ذهابي الى (كراج الشمال) نصحوني بالذهاب الى المكاتب الخاصة بالنقل وهناك التقيت صاحب المكتب (هلمت) الذي نصحني بعدم المجازفة والسفر الى دهوك اذا لم يكن لدي (كفيل) من الاسايش (الامن) او كفيل يقبل به جماعة الاسايش . وعندما اريته هوية الجريدة وكتاب التوصية باللغة الكوردية شكك بنجاح الفكرة وقال (حاول) .
الطريق الاعتيادي اجرته تختلف عن الطريق الثاني (طريق الضيوف) . اجرة الطريق الاعتيادي بين اربيل ودهوك هي (60) ستون الف دينار اما اجرة الطريق الثاني فهي (80) ثمانون الف دينار ولأني صحفي جعلوا الاجرة (70) سبعون الف دينار ولا علاقة للاجرة بنجاح السفرة او فشلها (الاكيد) بنظرهم .
السائق ازاد كان شابا لم يتجاوز الثلاثين من عمره يتكلم الكوردية وقليلا من العربية . ما لاحظته هو ان كبار السن يتكلمون الكوردية والعربية بطلاقة . اما اجيال الشباب من سن عشرين سنة فما دون فلا يتكلمون العربية بتاتا . الاسباب والموجبات تحتاج الى مراجعة طويلة – سياسية ووطنية – وجادة لان هذا الجانب يشكل خطرا اكيدا على الاجيال القادمة في علاقة القوميتين العربية والكوردية .
التعليقات (0)