سحبت الشمس آخر خيوط الضوء من النهار الضبابي ، واسدلت ستائر العتمة ، الشارع طويل ممتد ، تنتصب على جنبيه البنايات كالحة اللون ، التي باتت تغرق في العتمة تدريجيا ، فترتسم الظلال ككائنات خرافية ، ثمة كائن منها بقرون ، كأنه يهز رأسه أمامي ، يتسامق إلى الأعلى ثم يهوي إلى الأسفل وكأنه يحاول الهجوم على كائن آخر في أسفل البناية ..
ثمة وحش آخر نصفه معلق على الجدار المعتم .. ونصفه الآخر يسيل بانسيابية على الرصيف كسائل لدن ثقيل .. رياح تشرين تهب من الغرب ..محملة برذاذ بارد منعش .. كف يدي الشمال يعبث بأوراق في جيب معطفي الصوفي الثقيل .. ويدي الأخرى تسعفني بلفافة التبغ .. بعد أن ألقيت بالأولى ودعستها بحذائي ..وثمة صوت يأتي من بعيد ..
لست ادري من أين ..وكأن الزمن توقف عند هذه النقطة ..توقف الزمن ..وتوقفت دقات قلبي .. وتوقفت أحلامي .. من غيهب رمادي ضبابي .. تطل ذات الشعر الأشقر المصبوغ ..تحمل أوراقا ملونة .. هو بلباسه الأبيض الطويل .. يعدل عويناته الزجاجية الشفافة .. وبتناغم سري بينهما .. وبصمت .. وكأنهم اعتادوا على تلك الحالات .. تناوله الأوراق الملونة .. وتستدير خارجة إلى مكتبها في الغرفة الأمامية .. يعدل نظارته الصغيرة .. يقلب الأوراق .. تعابير وجه حيادية .. بلا ملامح ..المقعد الجلدي الأسود الكبير كأنه يسحبني إلى أعماق سحيقة ..
فترة الصمت الرهيبة كانت كافية لأن تطيح بكل ثقتي وتماسكي ورباطة جأشي .. كلما تململ ظننت انه سيتكلم ... فيصمت ويعاود البحث في الأوراق الملونة من جديد .. حانت مني التفاتة عبر النافذة .. كانت الشجرة الوحيدة التي تطل من النافذة جرداء .. متساقطة الأوراق .. والريح عاصفة ..ثمة صوت صرخ بأذني : ( الشجرة التي لا تثمر حلال قطعها )... أحسست بفأس تسقط على عنقي ... الصمت الذي يلف المكان كان كافيا ليقتلني ..تلفت حولي ..الرجل خلف المكتب يضع نظارته جانبا ..يشبك أصابع كفيه .. وبتنهيدة كبيرة :
الأمل ضعيف جدا .. يعني (There is no sperm in the semen )
فجأة قفز كلب من احد الأزقة يتبعه كلب آخر .. وصوت مواء قطة يفكك الصمت ..
جاء صوته وهو يقلب الأوراق:
منذ متى وأنت تراجع الأ ..
أجبت مقاطعا : خمس سنوات ..
قبل أن أكمل قدم سؤاله الثاني : وهل راجعت مركز آخر من قبل ...
نعم .. واعرف ...اقصد أنني جئتك فقط للتأكد ...
رفع نظارته على جبينه .. بانت قطرات من العرق وهي تنز من جفنيه ...مسح عينه بمنديل ورقي ثم قال : الأمور تتغير .. كما تعرف .. والعلم يتقدم .. وكل يوم .. يأتي جديد ..
تململت في مقعدي الجلدي .. لا ادري كيف شعرت أنني في جلسة تحقيق ...
كتب على ورقة أمامه ما كتب .. وناولني إياها .. ومد يده مصافحا .. عندما اقتربت منه شممت رائحة عطرة ..
رذاذ المطر في الشارع .. يبعث على المضي قدما .. ويشجع على المسير .. تذكرت لحظة العناق الطويل التي حظيت بها ذات شتاء وقد انزوينا في زقاق والمطر غزير .. مرت سيارة مسرعة .. رشقة الماء الملوث كالصفعة ..وصوت قهقهات من فيها تذهب مسرعة مبتعدة بعيدا ..
دخلت الزقاق الملتوي الذي يؤدي إلى فسحة صغيرة تحيطها أشجار الكينا السامقة .. لأخرج منها إلى زقاق يؤدي إلى العمارة ..الغارقة في الظلام .. أعمدة النور في الشارع مطفأة .. والصمت يطبق على الكون .. النوافذ التي اعتدت على أن تكون مضيئة .. مسدلة الستائر .. مطفأة ..
تحسست طريقي على الدرج المفضي إلى شقتي.. تنبهت هذه المرة إلى الدرجات المكسورة .. التي كثيرا ما سقطت بسببها في عز الظهر .. غريب كيف تجنبتها الآن في هذا الظلام .. هتف صوت في داخلي .. ( غريب والله غريب ) .. .. كالعادة صوت جيراننا وأولادهم يتعالى .. وكأنهم في حالة عراك دائم ..
قرعت الباب .. ثم تذكرت المفتاح في جيبي عندما فتحت الباب وبادرتني : وبن لهلاء .. وقبلتني كالعادة .. ثم تابعت أنت مبلل ..ثم تساءلت: ( شو عم بتشتي ..؟؟ )
انسحبت مفسحة المجال لدخولي .. دخلت .. خلعت السترة الجلدية .. ونزعت ربطة عنقي .. وشرعت بفك أزرار القميص .. بينما كانت تجفف شعر رأسي بالمجفف الكهربائي ( السشوار ) شممت رائحة عطر الأزارو التي أحبها عليها .. كنت صامتا ... وكانت تدرك .. كأنها تدرك ..السبب .. لم تبادرني بالسؤال .. حملت السترة الجلدية .. وذهبت ..
ألقيت بنفسي إلى الأريكة الحمراء .. ومددت ساقي على طاولة الوسط المربعة .. فتناثرت بعض التحف الصغيرة عليها .. لم تنادي أن ما هذا الصوت .. كالعادة .. كانت تكره أن أمد ساقي على طاولة الوسط ... اليوم تغاضت عن هفوتي ..
شممت رائحة السمك يقلى على النار .. نفذت الرائحة الزكية المحبة إلي من المطبخ إلى غرفة المعيشة .. ضغطت زر الريموت كنترول .. تدفق صوت مذيع الجزيرة جميل النمري .. ( قتل أكثر من خمسة عشر شخصا في الصين بسبب انهيار جدار طيني)
... صوتها ينادي .. ( العشاء جاهز ) ... جلست ..بلا رغبة .. تصنعت الأكل .. تعرف أنني مغرم بأكل السمك مقليلا .. لاحظت أنني بلا شهية .. غضت بصرها .. وتجاهلت الموقف .. ثم تنبهت إلى أنني صمت أكثر مما يجب .. فشرعت أحدثها بكلام عابر بلا تركيز .. بينما كانت الأفكار تأخذني إلى الأوراق الملونة .. وكلام الطبيب .. واحتمال أن يكون هناك أمل .. أو أن يجود العلم يوما بما يساعدني .. عطست .. مددت يدي ابحث عن منديل .. نهضت .. ناولتني علبة المناديل .. رفعت رأسي .. سقطت عيني على صورة الأطفال الشقر في الحديقة المعلقة في الصالون .. دمعت عيني ... تلفت نحوها .. كانت قد لاحظت الدمعة وهي تنفجر .. تذرعت بالعطاس .. شرعت بالبكاء ..
جلسنا بصمت نشرب كأسا من الببسي كولا ..وصوت جميل النمري .. لا زال يخبر بالمزيد من حالات القتل والموت في انحاء متفرقة من العالم ..
نمنا.. دون نقاش .. دون فتح الأبواب المغلقة .. في الصباح أشرقت الشمس في يوم الجمعة .. وتسللت عبر النافذة .. ووقعت على السرير ... تبعث الدفء ..
قلت باسما مقبلا صباح الخير ..
صباح الخير .. ولفتني بذراعها مقبلة .. مبتسمة ..
التعليقات (0)