مواضيع اليوم

وجوه أخرى لـ "العراق الجديد"(2)

ممدوح الشيخ

2010-04-03 20:15:26

0



بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com

 

ولد "العراق الجديد" كما أشرنا – وكما قال الرئيس جلال الطالباني قبل أيام – بتضحيات كبيرة، وقد تمحورت الكتابات والتحليلات عن العراق الجديد حول ما هو سياسي، وهو الأقل أهمية، فيما الأبعاد الثقافية للتغيير هي التي ستصنع المستقبل البعيد. ومن الوقائع الملفتة أن الأكاديمي المصري المعروف – المقيم بأمريكا – الدكتور رشدي سعيد سئل قبل عملية إطاحة النظام البعثي عن مستقبل هذا المشروع فقال إن ما يلفت نظره أن مراكز الدراسات في أمريكا مشغولة بالتخلص من "دولة محمد علي"، وهي الدولة المركزية الأوروبية التي ورثت الدولة العثمانية في جزء كبير من خارطة المنطقة.
ودولة محمد علي لها وجه آخر خطير هو أنها أسست لأول مرة "دولة المنظمة السرية"، وهو نفسه التعبير الذي اختاره الكاتب العراقي المرموق حسن العلوي عنوانا لكتاب حكى فيه تجربته مع نظام صدام. وهذا النسق هو الجذر التاريخي لدولة البعث التي قامت بالأساس على فكرة شيطانية هي أن الحقيقة يجب أن تكون بحوزة "حرس حديدي" مغلق وألا تخرج من دائرتها إلى الناس، ومن هنا جاء التقسيم بين "الطليعة" و"الجماهير"، حيث الطليعة قادة متألهون يضاهون بسلوكهم قول رب العزة عن نفسه "لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون" (وحاشا لله أن يكون).
أما الجماهير فهم وقود المعارك التي لا يملك قرار خوضها إلا الطليعة التي تعرف أكثر وتعمل وفقا لـ "أجندة سرية"، وحقيقتها غالبا لا توجد في الوثائق الرسمية بل تنقل كوديعة من يد إلى أخرى "في الظلام"!
ولأن الفكرة مغرقة في الإبليسية بحيث تحتاج إلى كثير من الخيال السياسي لاستيعابها، فإن قرار حل الجيش العراقي وأجهزة الدولة العراقية واجتثاث البعث ما زالت تبدو بالنسبة لكثيرين غير موضوعية وربما لاعقلانية، لكنها في الحقيقة، تبدو كذلك لأنها تعالج ظاهرة أكثر إيغالا في اللاعقلانية، ومن النماذج التي تساعد في فهم الظاهرة قول وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير عن الهولوكوست الرواندي الذي سقط فيه مليون قتيل من المدنيين عام 1994 في رواندا: "إنني لم أفهم الهولوكوست النازي إلى أن حدث الهولوكوست الرواندي"، فبعض الوقائع تساعد – دون شك – في فهم وقائع أخرى.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر فإن الهولوكوست الرواندي أدى إلى الكشف عن حقيقة لا تقل إثارة – وهي مؤكدة بالوثائق الرسمية – هي أن رواندا كان يحكمها تنظيم سري مغلق اسمه "أكازو"، كانت تتزعمه حرم الرئيس الرواندي الراحل جوفنال هابيريمانا، ومن مفارقات القدر أيضا أن هذه السيدة القاسية قبض عليها قبل أيام في باريس – في إطار محاولة فرنسا لاستعادة علاقاتها مع رواندا – وستحال للمحاكمة.
وما حدث في رواندا تحت حكم دولة التنظيم السري حدث في العراق تحت حكم صدام، وإن اختلفت التجربتان من حيث عدد الضحايا، وتجربة رواندا أكدت أن دولة المنظمة السرية لا علاج لها سوى الاستئصال.
ولكي يتحقق لدولة المنظمة السرية أن تسيطر بإحكام على السلطة فإنها – في التجربة العراقية – فضلت ترييف المجتمع العراقي بشكل مخطط. فقد تحولت المؤسسة على يد نظام البعث إلى أداة في يد الأفراد المتنفذين والمتحكمين بقصد إضفاء الشرعية على علاقات هيمنة، وانتهى الأمر إلى "ترييف" و"تزييف" و"تكييف" المفاهيم والأشكال الإدارية الحديثة لخدمة واقع مستبد.
وسواء كان الترييف تغيرا أو تغييرا فإن اقترانه بالاستبداد لفت نظر كثيرين، والبعث العراقي بعد تأصيل جذوره في المجتمع أصبحت مهمته الحقيقية "توزيع الفرص" بين أعضائه ومؤيديه بمعيار الولاء دون الكفاءة، ما أدى للإضرار في مسألة توزيع الموارد على استخداماتها المختلفة دون مراعاة أي عدالة، ما أدى إلى "ترييف المدنية" وإعادة هيكلة المجتمع المدني بتكوين ولاءات جديدة في التنظيمات المجتمعية، وبالتالي تباطأت فاعليتها بهدف تثبيت نظام الحكم واستدامته. وقد شكلت هذه التكوينات مجتمعة ثقافات جديدة لم يألفها المجتمع فيها قدر كبير من الثنائية في مقدمتها إطلاق شعارات الحرية وممارسة الاستبداد، وتعميق مفاهيم الاشتراكية وفي الوقت نفسه إثراء فئات صغيرة من أعلى المجتمع، فضلا عن سيادة عدم الكفاءة والفساد وتلك حالة معاكسة لتطور الحياة.
وقد حكى لي مثقف يساري كوردي معروف كيف رأى في زيارة للصين بل ما يقرب من عقدين مخططات وضعها الحزب الشيوعي الصيني لعملية "هندسة اجتماعية" ضخمة تتلخص في محاصرة كل مظاهر المدينية في الصين بأحياء ريفية، لإدراكهم أن "المدينة" محضن مناسب لميلاد نظام سياسي ديموقراطي، وبالتالي فإن الجهود الثقافية والاجتماعية لمنع ميلاد الديموقراطية أخطر بكثير من الجهود السياسية أو حتى الأمنية.
وفي حقيقة الأمر فإن معظم المواقع والعلاقات الاجتماعية في نطقتنا هي في حالة تشكّل وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، وترييف المدينة أحد أهم الإشكاليات المطروحة على الفكر العربي السياسي، فقد جلبت تحولات عهود ما بعد الاستقلال الأولى، إلى الحواضر العربية، إما أبناء الريف أو البادية، وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية، بل حازوها عبر المؤسسات "الحديثة". فأصبح العمل السياسي العربي ـ إلا فيما ندر ـ في أيدي هذه الفئات، فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيما وممارسات ريفية " ، وهو ما اصطلح على تسميته بـ "ترييف المدينة".
وللحديث بقية




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !