مواضيع اليوم

وتهطل الغيوم ملحاً

عوني عارف ظاهر

2012-10-23 15:14:03

0

 وتهطل الغيوم ملحاً...

 

 

بقلم :عمر عبد الرحمن نمر

حدثني صديقي قال:

 

 

   التقيته في الزقاق… تنظر في وجهه فترى الزمان يرسم خرائط بؤس وشقاء عبر أخاديد وجهه الحنطي, وشعر لحيته الأبيض... التقاني في الزقاق... مظلم ذاك الزقاق... أشار بيديه إشارات غير مفهومة.. وبلغة الملهوف المتلعثمة..

 

قال:- أريد مساعدتك... أين أنت؟

    - أنا لها... قلت، وبلا تردد.

    - امش..

سرت وراءه.. بخطوات خجلى.. وسمعت صدى أصوات أقرب إلى الأنين.. ولم أدر.. من أين يأتي الأنين... من الرجل... أم من حمامة هدلت على فرخها الضائع.. أم من ليل الحيارى والجياع...؟

 

 

   ومشيت وراءه.. إلى أن وصلنا بيته.. بنتان صغيرتان.. واجمتان. وطفل صغير واجم أيضاً.. في غرفة بنيت على حدود الجيران فلم تنعم إلا بباب.. وحرمت من أي منفس آخر... الا من شهيق الرجل وزفيره... وصوته المتهدج: احمل...


   نظرت في الأطفال.. هطلت من الرجل دمعتان.. وأشار إلي بأن أحمل تنكتين من الزيت, وطلب مني إخراجهما من البيت..

 

 

   حملت التنكتين.. كل واحدة بيد.. وأنا أظنه يريد إرسالهما لأحد ما.. أو.... إهداءهما لأحد ما.. وظننت نفسي.. أساعد الرجل.. في الحمل والنقل... بدأت الغيوم تتكاثف... وهطلت دمعتان... ودمعتان... وبدأت اللحية البيضاء تنبل... وسرت قشعريرة في جسدي.. ارتجفت يداي...

 

 

رأتنا الجارة التي في الشارع... كانت خارج الباب ترقب ما يحدث...

 

 

   سألتها: ما الحكاية؟

 

 

 

 

 

 

   اكفهر وجهها – الله يعينه- وزادت دموع الرجل, وواصل الرعد نشيجه الحزين...

 

 

عزيزة دموع الرجال.. في تلك اللحظة قدرت ذلك...

 

 

وأردفت الجارة:-

 

 

   امرأته في المستشفى.. عملولها عملية يما.. ورفعت يديها إلى السماء: الله يجور عليهم... مش قابلين يطلعوها تا يدفع.. ومنين يا حسرتي... مثل منتي شايف.. بدو يبيع المونة...

 

 

   عزيزة دموع الرجال... والأعز من تلك الدموع... دموع فقير لا يقوى على شروى نقير... لا يملك نقوداً... وزوجه في المستشفى... أسيرة لا يطلق سراحها إلا بفداء... وهو.. هو يقلب كفيه... وطفلتاه الواجمتان... وطفله الواجم لا يملكون... فلم لا يبكي... ويبكي.. ويبكي..؟؟ ويعلم أطفاله سمفونية شعبية تقول: "إن الفقر مجرم"... وإذا كان لا بد منه, فإن اجتماع المرض والفقر... أكثر إجراماً... لعنك الله أيها الفقر...

 

 

   تذكرت قول علي كرم الله وجهه:- لو كنت أيها الفقر رجلاً لقتلتك... وأنا أقول:- ولو مكنوني فيك لمثلت بجثتك... أيها الفقر: تحتجز مريضةً في مستشفى... وأطفالها في انتظارها...

 

 

 

   مباشرة وبشكل تلقائي سريع, وبدون تفكير... أرجعت مونة الرجل من الزيت... مونة الطفلتين... والطفل الواجم...

 

 

   - وكم المطلوب... سألته...

 

 

   - لا عليك... قال وشفتاه ترتجفان: احمل الزيت...

 

   - والله هذا لن يحصل... ول انقطعت الرحمة في القلوب... يا رجل...

   - لا عليك..

   - رجوته.. كم المطلوب... قل لي... وصحت بصرامة.. كم المطلوب؟؟؟...

     مسح دموعه بكفيه، ومسح كفيه بشعرات لحيته وقال: ثلاثماية دينار...

 

 

   ضربت يدي في جيبي... جيب.. فارغ.. مخزوق... فقير... لا يخجل ويقهقه كلما فتشت فيه عن بقايا بقايا.. كأنك تدغدغه... حسرة..وأرسلت بصري خارج الباب، كانت هناك نبتة خضراء تتسلق الجدار... يصارعها الريح حيناً... فتتمايل معه، ولا تعدو أن تستقيم قامتها، نبتة خضراء حملت زهراتها الثلاثاء... ولكن ظلمة الليل البهيم منعتني من رؤية لونها... فبهت اللون في العيون...

 

 

   ولم أدر كيف قلتها... المهم قلت: أبشر, ولا يهمك يا رجل... غداً سيكون المبلغ في جيبك إن شاء الله... ولا يهمك يا أبت...

 

 

  ربت على كتفي, وشهق... واتكأ على باب خزانة مفتوح... وشعرت أنه لا يكاد يصدق ما يسمع...

 

 

   في تلك الليلة... فكرت... وقدرت... جبت قوائم الأسماء التي أعرفها... اسماً اسماً...  من يستطيع مساعدتي؟؟ من سيبتلى بي؟ أو أبتلى به...

 

 

   من سيقرضني المبلغ, أو يهديني إياه إكراماً لله والرسول؟؟ من؟ من؟ من؟ وجال في مخيلتي... نزهات ليلية لصعاليك الجاهلية... الكرماء...كانوا يغزون غزواً جاهلياً... ويجودون على المحتاجين مما ينهبون... يسرقون من المالك ويعطون من لا يملك... هل أتصعلك في ليلتي هذه... وأوفر مبلغ الرجل؟ من يوفر عناء صعلكتي؟...

 

 

   من؟.. من؟.. من؟..

 

 

   وتلك المسكينة المرمية في المستشفى... كيف تخرج من غياهب سجنها؟

 

 

   أتخرج بدفع المال وحده؟... ألا يوجد مخلص آخر غير المال... ألا توجد عملة أخرى... آه القيم, الأخلاق, الرحمة, الإنسانية... ألا يمكن أن تكون بديلا عن المال؟

 

 

بين الواقع والوهم، بين هواجسي وظنوني، بين صحراء الشنفرى وجاهلية القرن الحادي والعشرين، بين المستشفى السجن... والبيت الواجم... وقف شريط الذاكرة عند صورة ذاك الرجل، عاينته أكثر من مرة في أكثر من موقف... يزرع الخير... ويدع الآخرين يقطفون ثماره...

 

 

   وصحت...    يوريكا... يوريكا... وقفزت من الفراش... طرقت باب بيته... فتح الباب... وكان يفرك يديه بكلتا يديه... وبعد سرد حكاية ليلى والذئب... لم يبخل الرجل- الله يعطيه- أعطاني المبلغ المطلوب... بل زاد فيه... ابتسم في وجهي وقال: عمل الخير ما فيه تأخير... وما فيه مشاورة...

 

 

   تناول الملهوف المبلغ... وما كاد... يفعل... هلل وحوقل...

 

 

 ورسمت دموعه طيف ابتسامة...وواصل القول: الله يوفقكم, الله يزيدكم من خيره...

 

 

   الله... الله... وخرجت من البيت الواجم, وأنا من أغنى الناس...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

   

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات