انطلقت مشاورات الأغلبية المشكلة للحكومة، التي يترأسها السيد عبد الإله بن كيران، بشأن تحديد موعد الانتخابات المبكرة، وبين كل الآراء التي تعرضها قيادات الأحزاب السياسية، لا نكاد نسمع موقفا واحدا يتحدث عما تحتاجه المرحلة بالتحديد من أولوليات حقيقية تسبق حتى الحديث المتسرع عن محطة الانتخابات العابرة.
فيبدو أن الجميع يتحدث عن الانتخابات القادمة كما لو أنها ستكون المحطة التي سينطلق منها قطار التنمية بدون رجعة، وستجعل من المغرب نموذجا يُحتذى به في المنابر الوطنية والدولية، والحال أن الأحزاب السياسية تعلم أكثر من غيرها أنها أبعد بكثير من أن نُعلق عليها الأمل في قيادة قاطرة الإصلاح بالسرعة المطلوبة، خصوصا وأنها لا ترى ضرورة في التخلص من "الشوافريا" الذين فضلوا السير، طيلة مسارهم السياسي، خلف الموكب الرسمي "للمخزن" دون أن يجرؤوا على "حريك" الضوء الأحمر الذي يعيق أي تقدم حقيقي في اتجاه الوصول إلى محطة التغيير المأمول.
وهكذا فما ان يبدأ "موتور" الحكومة في الاشتغال و نبدأ نحن في التحمس لزعيق "الكلاكسونات" الواعد، حتى يكتشف "الشيفور" ومن معه أن السرعة المسموح بها جد بطيئة، وهو الأمر الذي يجبره على التوقف أكثر من مرة تفاديا لخرق البروتوكول.
ولو أن الأمر توقف عند هذه الأزمة وتمت المناداة على المسؤولين الحقيقيين ليبادروا إلى التدخل و إصلاح العطب وتفادي أسبابه لهانت المشكلة، إلا أن الطامة الكبرى تتجلى في كون "الشوافريا" أنفسهم غير مستعدين لتحديد المسؤوليات ولا لمغادرة القيادة ولا للاعتراف بعجزهم عن القيادة السليمة ولا حتى بالإقرار بأن الطريق غير معبد في الأصل بما يكفي من القوانين التي تشجع على سلوكه.
وبعد مدة من السير خلف زحام الوعود نصطدم بواقع الحال المر حيث تبدأ اعطاب الطريق في التناسل وتدفع ب"مالين الشي" إلى إعلان الوقوع في "أونبان" مُطالبين الشعب بالعودة إلى حيث كان بعد دفع ثمن الوقود الذي قرروا الزيادة فيه بسبب هذه الأزمة المفاجأة، حينها نُجبر، ومن جديد، على توديع أحلامنا الكبيرة في منتصف الطريق.
إنه الوصف الذي ينطبق على الممارسة السياسية بالمغرب، فطيلة عقود وشعب بأكمله عالق على حافة الطريق، نلوح ب"اوتوستوب" وننتظر قدوم الإصلاح لإنقاذنا كما لو كنا ننتظر "كودو"، فالأحزاب السياسية التي تتشدق من وراء ظهورنا لم تُبد أي رغبة في سبيل تحقيقه، وأقصى ما كانت تطمح إليه هو امتطاء قطار الحكومة، حتى وبدون حقائب، دون امتلاك الشجاعة لتحمل مسؤوليتها والإقرار بفشلها.
ولعل هذا ما يدفع الجميع إلى التشكيك في النوايا المعلنة للأحزاب السياسية التي ترفض وإلى اليوم إعطاء الدليل الملموس على رغبتها في تأهيل نفسها، قبل غيرها، إلى الدور القادم من اللعبة السياسية، التي بدأت فعليا بعد تصويت المغاربة على الدستور الجديد، والتي يعمل مجنونو الحكم على تحويلها إلى مجرد "ضاما" تستضيف "البيادق" التي يسهل نقلها من حين لأخر على مساحة رقعتها الضيقة وإزاحة "المنفوخة" منها.
ولهذا فالحديث عن الانتخابات من عدمه أو تحديد التوقيت المناسب لها ليس بالمهم حقيقة، بقدر ما تستدعي المرحلة أن تتحمل هذه الأحزاب مسؤوليتها وترفع رهان إعداد نفسها داخليا كي ترقى إلى مستوى المشاركة في هذا الاستحقاق العابر.
ولو أنك قمت بجولة تفقدية إلى مقرات الأحزاب السياسية هذه الأيام لوجدتها مهجورة بالمرة ، إلا ان مفاجأتك ستكون اكبر مما تتوقع حين ترى جحافل من الباحثين عن التزكيات يقتحمونها بمجرد أن تعلن وزارة الداخلية عن يوم التنافس الانتخابي.
ولسوف تنبهر بعد ذلك للكرم الحاتمي من كلمات الترحيب المُقدم "للمرشحين"، الذين يسهُل التحكم فيهم بالطبع، و تكتشف "مناضلين" جدد استُدعوا على عجل ليقوموا بأدوار مُعدة باحترافية هائلة، بحكم تمرسهم على رسم خريطة الطريق التي لا يجب أن تمر بالضرورة عبر محطة الديمقراطية، التي يُشنفون أسماعنا بها طيلة مهرجاناتهم الخطابية، لكنهم وما ان يضمنوا المرور حتى يعلنون انقلابا ابيضا على كل المواثيق الصادرة، بل ومنهم من تختلط عليه قواعد اللعبة، ــ التي وافق عليها من حيث المبدأــ ، فيسارع، في غمرة جنونه، إلى الانتقال من "الضاما" إلى الشطرنج و يبدأ في إطلاق العنان لمزايداته المعهودة أملا في رفع أسهم شعبيته لدى الرأي العام!
فالتلويح ب"اشيك امات" لا يستقيم في ظل لعبة سياسية نعرف جيدا أن قواعدها لا يمكن لها نهائيا ان "تُهدد" الملك، بعد أن حددت وحسمت في مساحة الصلاحيات و جعلت موقعه متحصنا خلف خطوط الدفاع بموجب مقتضيات الدستور الذي روجت له الأحزاب نفسها، واعتبرته متقدما عن سابقيه من الدساتير التي عرفتها المملكة، بل وان بعض "الشيفورات" رأوا فيه مفتاحا سحريا لولوج الحكومة من بابها الخلفي!
فحين يغمز البعض، دون ان يُفصح عن كلامه بكل وضوح ويحدد موقعه بكل شجاعة ويستعد لدفع ثمنها، محاولا التغرير بالقاصرين في السياسة لإقناعهم بالسير خلفه، فما عليه إلا أن يدرك أن السياسة التي يحاول ممارستها تسير في الاتجاه المعاكس لعقد "التعايش المشترك" الذي أبرمه مع الملك في حضور الملايين من "الشهود" الذين كان يستجديهم للتصويت على "الضصطور".
وما أريد قصده بالتحديد أن الأحزاب السياسية التي تحاول أن تلعب، من حين لأخر، دور المعارضة المزايِدة، متناسية أنها قبلت من حيث المبدأ الإطار العام الذي يرسم حدود المُمكن من الإصلاح، تخطئ كثيرا إن هي استمرت في تبني خطابها القديم والذي لا ينسجم كما هو معلوم مع ممارساتها السابقة حين كانت تجلس على نفس الكراسي وأقدمت على خوصصة مؤسسات الدولة بمبرر إنقاذ المغرب من "السكتة القلبية"، وقلصت مساحة التعبير بعد ذلك لتخنق نفَس ثلاثة منابر إعلامية دفعة واحدة وهي: لوجورنال ودومان والصحيفة.
ومن يُفضل ذرف الدموع لاستدرار التعاطف الجماهيري ما عليه إلا أن يُدرك أننا سننتظره ــ فالطريق ماشي فالدورة"ــ حتى يُجففها، لنطالبه بعد ذلك بما التزم به أمام الرأي العام، حيث كان يتذكر محاسن الدستور ويعد بتحقيق الإصلاح في إطاره، و لن يقبل منه حينها باللجوء "العاطفي" إلى تلك المناورات التي لا تعدو أن تكون محاولات فاشلة للتهرب من واقع المسؤولية التي ألقت هذه الأحزاب بها على كاهلها.
وربما لم يكن رئيس الحكومة بنفسه استثناء من هذه القاعدة الجديدة، ـ "الله يخليها قاعدة" ـ و التي يريد لها البعض أن تُطل علينا من حين لأخر، فما أن بدا له "التشاش" على شاشة تدبير الشأن العام وبدأ يشعر بأن صورة التفاؤل بدأت تختفي أمام عينيه "الضيقتين" حتى سارع إلى البحث عن "الإشارة" عبر إرسال رسائله المبطنة إلى المحيط الملكي حين قال في لحظة غضب: "باقي ما سالاش الربيع العربي، وباقي كايدور ويمكن عاود ترشقليه ويرجع..."
ف"الغزوات" التي وعد بها رئيس الحكومة في دار "الفساد والاستبداد "، وهو يمتطي فرس العدالة والتنمية المبشر ب"الفتوحات" غير المسبوقة، يبدو وأنها قد غيرت طريقها في اتجاه شن هجومات مباغتة على دار "البوبريا" الذين تعودوا على دفع الضريبة في غياب أي قيمة مضافة طيلة مسار الحكومات المتعاقبة، و لربما سيضطرهم رفع أسعار الوقود والبنزين فيما بعد إلى تحمل فاتورة مضافة لإصلاح موعود، والذي لا أفهم، شخصيا، كيف يمكن أن يرى النور إذا لم يُترجم من يهمهم أمرُنا خطاب الإصلاح إلى خطوات ملموسة من قبيل المساهمة في بناء اقتصاد على أسس المنافسة الشريفة و اقتسام الثروة التي تحتكرها الأقلية المحظوظة في هذا البلد.
إن الذي قبل بالمشاركة طواعية في اللعبة السياسية بالمغرب يجب أن يعلم أن الملك غير حاضر نهائيا على رقعتها وما عليه، إن هو أراد الفوز بإحدى جولاتها، إلا أن يبذل كل ما في وسعه من أجل هزم خصومه السياسيين، في احترام كامل وشامل لقواعدها، و"يضيم البيادق ديالو قبل ما يتنفخو ليه!"
محمد سالم الطالبي
instance.talbi@gmail.com
التعليقات (0)