لم يعد ثمة برابرة، هذا ما على المعارضة السورية أن تدركه جيداً، على الأقل في المدى المنظور. هذا محزن بالطبع.. حتى في ظل أداء الجميع الذي يقول علانية بـ "ضد التدخل الخارجي" أو على الأقل "لا رهانات على الخارج".
دائما يتخلف البرابرة، و يبيعون المنتظرين في البازارات التي يمرون فيها؛ ويعودون من حيث أتوا تاركين المنتظرين يأكلون انتظارهم. وليس جديداً في حسابات السياسية الغربية أن يبيع الغرب من يراهنون عليه لأنهم لا يمتلكون غير المراهنة.. وإذ لم ينسج المراهنون شبكة من المصالح فإنهم يباعون بثمن بخس، في وقت تمتلك الأنظمة ما تقايض عليه مع هذا الغرب! والسياسة بالطبع لاتتوسل الأخلاق. وما فعله ساركوزي هو موقف فرنسي مستمر في مايخص تعامله مع قضايا المنطقة، وسوريا بشكل خاص؛ شكل شيراك نقطة خروج بارزة عليه.
في هذا السياق أجدني دائم التعاطف مع حال المعارضة السورية المسكين؛ رغم قناعتي أن أساليبهم في العمل والأداء لا تختلف عن النظام الذي يستمدون شرعية وجودهم من مناهضته. كتبت عن هذا قبلا وما زالت وجهة نظري نفسها. ومع تعاطفي كنت دائما ارثي لحالهم واعني الأحزاب والتجمعات والتنظيمات لا الأفراد، فالأفراد السوريين المناهضين للنظام صنعوا لحظة جادة وحقيقية في التاريخ السوري الذي يكتب الآن. وتبديد فاعلية هؤلاء الأفراد جاء من ابتلاع التنظيمات والتجمعات المعارضة وحتى أشباه التنظيمات لهم؛ وكان يفترض أن يشكل هؤلاء الأفراد رافعة لتحسين الأداء المعارض لا أن تبتلعهم تنظيمات هشة ومستبدة وعائلية وديماغوجية... وفي التاريخ كان هناك أشخاص مفصليين في إرباك أنظمة وحتى إسقاطها؛ لأن قضيتهم وجدت من يصعدها ويدافع عنها. وفي الحال السورية هناك غياب حقيقي عن استغلال قضية معتقلي الرأي ومعتقلي الحريات سواء من قبل "المعارضات" أو المنظمات "الحقوقية" التي هي تابعة مسكينة في الغالب لهذه المعارضات ومختلطة معها..
إن اعتقال صحفي مثل عبد الكريم الخيّون في اليمن صار له صدى وحضور إعلامي في العالم اكثر من أحداث صيدنايا وصدرت بيانات عن منظمات حقوقية عالمية ضمن حملة غير متواهنة تقودها تنظيمات وأفراد يمنيون قليلون استغلت كل الوسائل المتاحة بما في ذلك صناعة أفلام مؤثرة عن عائلته وبثتها على مواقع الفيديو العالمية... في بلد مثل اليمن يحصل هذا بينما لدى السوريين عشرات إن لم نقل مئات من عبد الكريم الخيون ولم تشكل نقطة ضغط على النظام في العالم؛ واليات عمل المنظمات الحقوقية السورية هي الاسوء بين مثيلاتها العربية التي تتشارك معها في بعض العلل؛ لكن المنظمات السورية تعمل وفق قاعدة "اللهم اشهد إني قد بلغت" ولا تزيد على ذلك.
وأما في حال المعارضة فلا ادري كيف تطالب تجمعاتها بتداول سلمي للسلطة وزعماؤها قادة أبديون ولم يرحلوا عن كراسيهم المصنوعة من القصب؛ إلا بالموت أو الانشقاق أو التوريث في بعض الحالات؛ والأحزاب التي تشكلت على عجل لم تشذ عن هذه القاعدة وتم التعامل مع رئاستها ومجلس إداراتها كشركة محاصة بسيطة.
والقضية التي كتب فيها الكاتب علي الأحمد بعد خروجه من جماعة الإخوان المسلمين يعرفها كل السوريين فقد كانت لائحة الاتهام المعدة ضده والمحاكمة في قضاء "الجماعة" وقع الحافر على الحافر مع آليات النظام، بما في ذلك رد الأستاذ البيانوني على ما أثاره الكاتب المنشق عن الجماعة. ولو كانت الجماعة لديها سجون لغاب الكاتب في أحد سجونها!
وقد أثار ضحكي الشديد؛ ممارسة الرقابة في النشر من موقع يتبع للأستاذ خدام نائب الرئيس السابق الذي أصبح معارضاً حين أعاد نشر مقال لي وحذف منه جملة وردت في سياق مخاطبتي للأجهزة الأمنية الحاكمة في سوريا "...وحتى تحين ساعة رحيلكم التي مازلت أراها بعيدة بعكس تبشيرات الأستاذ خدام..." إذ حذفوا "بعكس تبشيرات الأستاذ خدام"! وبالطبع دائما أتمنى أن تكون تبشيرات الأستاذ خدام صحيحة ويثبت خطأ وجهة نظري. ومرد ضحكي أنه إذا كان الأستاذ خدام وهو في المعارضة (الآن) وليس لديه وزارة إعلام (الآن) ولا جيوش مخابرات ومخبرين غير قادر على قبول جملة لطيفة مثل هذه فكيف سيكون حاله لو كتبنا عنه ما يشبه ما نكتبه عن النظام الآن؟
كتبت مع كثيرين غيري في نقد واقع المعارضة الذي يقوم على حسابات غير سياسية؛ بل إن مصدرها دائما من خارج السياسة. وواقعها المتشرذم الكل يقر به حتى "هُم" إلا أن محاولة الخروج من هذا الواقع لم تبدأ ولم يفكر فيها بشكل علني خارج إطار المهرجانات الإعلامية التي لم تعط لا تمراً ولا بلحاً؛ ويحول دون ذلك نقص الفهم السياسي والتأهيل الإداري، والريبة في الآخرين، وعدم اليقين في الوزن الحقيقي للذات في الواقع السوري للتنظيمات؛ ونقص الحمولات الفكرية لدى المباشرين للفعل السياسي... كل ذلك وغيره يحول دون تحول جذري في آليات عمل وسلوك المعارضة السورية. وأتحدث عن الإعاقة الذاتية وسنتجاوز الوضع الموضوعي لأنه في ظل هكذا إعاقة فانه حتى في حال تغيرت الظروف الموضوعية ستكون المعارضة عاجزة عن الإفادة منها.
دائما أحاول أن أكون لطيفا ومداريا في نقدي للمعارضة السورية ولا انفي أني "أمرق" لهم وأصمت عن أشياء عديدة خصوصا عندما يكون هجوم النظام وأجهزته الأمنية شديدا... ويمكن للمرء أن يجد مبررات كافية لآليات وسلوك المعارضة، لكن المسألة الأهم أيضا أنها لم تتقدم شبراً واحداً رغم أن الكثير من الكتاب السوريين كتبوا في الأمر واقترحوا آليات عمل ومنهم من وضع قيد التداول ما يشبه خططاً إجرائية لإصلاح الحال؛ وهذا يعني أن هناك مجال آخر للتطابق بين هذه المعارضة والنظام الذي تناهضه! فإذا كان النظام يرى أن فترة عقد من الزمن غير كافية لانطلاق عجلة الإصلاح وان الأمر يستوجب قرنا كاملاً! فإن المعارضة رافقته في هذا الأمر ولم تتقدم خطوة باتجاه إصلاح العوامل الذاتية المعيقة لديها وهي كثيرة؛ والتي منها: ضعف الفكر السياسي – عائلية المعارضة – عدم ديمقراطيتها- آلياتها التنظيمية التي تنتمي للقرون الوسطى – عدم قدرتها على سماع رأي مخالف – الرغبة الاحتكارية للسلطة لدى كل جماعة- المحاصصة في "سلطة المعارضة"-...
هل من العمل السياسي (على سبيل المثال) أن لا يجد الأستاذ خدام وسيلة تنظيمية يتكئ عليها في معارضته غير إطلاق "القيادة المؤقتة للبعث"؟ ماذا يعني هذا عملياً غير أن خدام ليس لديه قدرة على إنشاء حزب "حقيقي" جديد وبفكر جديد؛ فكان الأسهل والأسرع القول "إعلاميا" انه يمثل شريحة ما؛ استلفها –للأسف- من البعث؛ وبغض النظر عن صحة التمثيل من عدمه؛ فان إعادة حزب لم يعد حزباً؛ إضافة إلى كونه في بنيته الفكرية والتنظيمية حزبا شمولياً استبداديا شوفينيا؛ وهو سبب رئيسي (أو غطاء لمن يشاء) لمصائب سوريا (و كل دول المنطقة)، يمثل عملاً غير مسؤولاً بحق الناس وبحق فهم التعاطي السياسي مع واقع سوريا الآن.
لقد كان تركيز المعارضة السورية سواء أقرت بهذا إعلاميا أم لم تقر على ما سيسفر عنه موقف الحكومات الغربية من النظام ولم تتحرك في مجال الشارع الأوربي – باعتبار التحرك في الشارع السوري صعبا- عبر منظماته الحقوقية والمدنية والأحزاب والنقابات والتي كان من الممكن أن تشكل حصانة أساسية في عملية البيع، التي تنفذها الحكومات التي يُراهن عليها أو على الأقل سيكون البيع متضمنا حدا أدنى من مطالبـ/ها؛ حياءاً من ضغط منظماتها الوطنية.. دائما تبيعنا الحكومات الغربية في بازارات أنظمتنا؛ وللمفارقة يقبض النظام ثمننا كاملا منها!!
"... لم يأتِ البرابرة.
وبعضُهم قَدِمَ من الحدود،
وقال إنه لم يعد ثمة برابرة.
والآن، ماذا سيحلُّ بنا بدون برابرة؟
لقد كان هؤلاء القوم نوعًا من حل."
خلف علي الخلف
ايلاف
التعليقات (0)