وادي السياسة الآسن :
مع ازدياد الوعي بالواقع الثقافي العربي، يزداد الاهتمام بالسياسة والفكر، بوصف الواقع الثقافي العربي خلفية لسياسة عربية متأرجحة بين الوهن والضعف وبين الفاعلية المرحلية أو الجزئية في العديد من القضايا العالمية والدولية والإقليمية والوطنية والقومية. ويصعب تحديد هذا الاهتمام بالسياسة داخل المجتمع العربي قاطبة من خلال ما يروج إعلاميا وفي بعض المناسبات والمؤتمرات والتجمعات .
لقد أصبحت مسألة التعاطي مع السياسة في العالم العربي عملا غير ذي بال أو أهمية عند الكثير من الأفراد داخل كل قطر عربي، بحيث صار أمر السياسة كفكر وممارسة وثقافة يهدف من خلالها الفرد السياسي إلى المساهمة في ازدهار الوطن وتطوره والمساعدة في تحديد أهداف محتمل تحقيقها لصالح الفئات المجتمعية، مجرد أمر بسيط يهتم به كل انتهازي وطماع ومصلحي وأناني يهدف إلى تحقيق مصالحه الشخصية باسم النضال السياسي. ولا ريب في أن ما نراه ونسمعه عن العديد من السياسيين في الوطن العربي الذين يناضلون من أجل المصلحة الشخصية التي تتقاطع مع الأطماع الخارجية والاستعمارية في العديد من الجوانب كثير وغير محصور في بلد عربي معين. فكل الدول العربية قد ابتُليت بسياسيين خانعين ضعفاء غير قادرين على تحقيق التوازن بين مصلحتهم الشخصية والمصلحة العامة، وبالتالي نراهم يهيمون في واد السياسة الآسن الذي لا يقدرون الصعود منه لأنهم غرقوا فيه وأغرقوا بلدانهم معهم فيه .
لقد تكون هذا الواد –واد السياسة الآسن- منذ عقود خلت بإيعاز من المستعمر الذي عمل بما فيه الكفاية على خلق لوبيات وقوى له تحافظ على مكتسباته ومصالحه بعد خروجه ورجوعه إلى بلده، وهذا الأمر لم يأخذ الكثير من الوقت والجهد منه، لأنه كان هناك من هو مؤهل لهذا العمل والخيانة في دمه، فحافظ على مكتسبات المستعمر ودافع عنها ووطن لها قانونيا وثقافيا واقتصاديا، فأصبح من العسير على المناضلين الحقيقيين استئصال هذا الورم الخبيث لأنه استفحل في جسد الأمة وأصبح مرضا خبيثا .
وليس من السهل اقتلاع جذور هذا المرض، سواء بنهج سياسة الهجوم، لأنها لن تخدم المجتمع العربي في شيء، بل يترتب على هؤلاء الغيورين على الوطن والأمة أن ينهجوا سياسات أخرى مخالفة تحافظ على التوازن الأمني والوحدوي داخل كل وطن عربي على حدة حتى لا يؤدي التسرع في العلاج إلى ما لا يحمد عقباه. فما وقع في العراق ويقع اليوم مثلا أمر خطير أدى ببلد عربي كان مزدهرا اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا إلى الهاوية على يد طغمة من الطماعين لاستقدام محتل أتى على الأخضر واليابس. ومعالجة هذا الأمر وهذه الكارثة لا يكون بزيادة جراح العراقيين، بل بالعمل الدؤوب على إجلاء المحتل أولا ثم بعد ذلك يأتي القضاء على البثور والجروح التي سيتركها المحتل. وكذلك الأمر بالنسبة للسودان الذي يوجد على شفا حفرة من الهاوية هو الآخر باسم عناوين غير مقبولة أتى بها بعض الانفصاليين الذين يزيدون من جراح الأمة التي هي في غنىَ عنها .
إن هذه الأمثلة التي سقناها، وأمثلة أخرى كثيرة في عالمنا العربي، من مثل سياسيين يبنون مشاريع أحزابهم على التنديد والوعيد، وعلى محاربة الفن والفكر، وعلى التصريحات الجوفاء التي ما حركت أحدا، ولا أثرت في أحد، مثل هؤلاء السياسيين عندنا يجب أن يوضعوا فوق خشبة مسرح ما ثم يتم قذفهم بالبيض الفاسد والأحذية، لأنهم لا يستحقون إلا هذا الأمر، قهم صاروا عجائز لا حول لهم ولا قوة إلا ألسنتهم السوء يقولون بها العجب العجاب .
ومع ذلك لا يكترث العديد منهم إلى كل الانتقادات التي توجه إليهم يوميا وفي العديد من المناسبات لأنهم فقدوا الإحساس وأصبحوا متبلدي القلوب والوجوه لا يعيرون لهذه الانتقادات أي اعتبار ولا يستحيون من الناس ومن أنفسهم. إن هؤلاء هم سبب بلاء الأمة من المحيط إلى الخليج لأنهم ضعاف النفوس يستهينون بكل شيء وأمر، ويتاجرون بقضايا أوطانهم وأمتهم مقابل الفتات والحفاظ على امتيازاتهم التي تحيمها القوى الخارجية والأطماع الاستعمارية التي لازالت تحن إلى عهد الاستعمار والاستيلاء على مقدرات البلدان الأخرى، وللأسف الشديد لا نجد من ينافسهم على مواقع المسؤولية السياسية لأنهم استحكموا كثيرا وساهموا في إنتاج شعوب فقيرة ومتخلفة لا تقدر على الدخول في غمار العمل السياسي والنضال الفكري الذي يمنحها القدرة على استرجاع أحقيتها في الثروة الوطنية والمشاركة في الحكم. ولعل الواقع العربي يوضح بجلاء واقع الشعوب العربية الحالية التي صارت لعبة في يد أنظمتها وفي أيدي سياسيين يستغلون سذاجتها وتخلفها للتحكم فيها واقتيادها نحو المجهول .
وإجمالا، نجد أن قطع الصلة بهؤلاء السياسيين النافذين أصبح أمرا صعبا وبعيد المنال، خاصة ونحن نعلم واقع الأمة وواقع الشعوب التي غرقت في مستنقع تحقيق لقمة العيش والبحث عن سبل البقاء، فكيف لها أن تبادر إلى الفعل السياسي والفكري للخروج من الشرنقة التي وضعها فيها هؤلاء المتحكمين في رقاب الناس اقتصاديا وسياسيا .
إن معضلة التخلف السياسي التي نعيشها اليوم مردها إلى الجهل بالحقوق والواجبات في آن واحد، ولا نكاد نرى مستقبلا مشرقاَ من خلال واقعنا الحالي، فأغلب الظن أن الوطن العربي في طريقه إلى التشرذم وإلى التشتت أكثر، وهو لا يحتاج إلى وقت طويل لأن كل الظروف مهيأة لهذا الأمر. فالنعرات الطائفية على أشدها، والصراعات العرقية في مستوى التأجيج والاندلاع، ونار الصراع الديني والثقافي لا نزالت مشتعلة ويزيد لهبها يوما بعد يوم.... كل هذه الأمور تساهم مساهمة فعالة في خلق المزيد من الحروب الأهلية وتقسيم المقسم وتفريق المفرق لنصل في النهاية إلى دولة لكل مواطن عربي .
إن هذا التحول في الوعي السياسي العربي يبدو أنه قد أصبح من الخصائص العربية لأمتنا، وهذا التحول الذي يقود إلى خلق المزيد من التوترات بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد هو نتيجة لجهد استعماري وغربي استطاع من خلاله السيطرة على عقول ضعيفة وقلوب مستكينة لتمرير مشروعه الخطير والمدمر للأمة ووحدتها ومنعتها ....
عزيز العرباوي
كاتب وباحث
التعليقات (0)