واحــد أحـــد.
يعرف العالم العربي حالة من الأحادية الفكرية المتجذرة بعمق في الواقع اليومي. وتمثل الممارسة السياسية التجلي الواضح لهذه الأحادية من خلال النماذج السلطوية القائمة، غير أن الأمر لا يتوقف عند الواقع السياسي الذي يمركز القرار في يد فئات معينة، بل يتعداه الى الخطاب الفكري الذي يتجسد في أوساط " المثقفين " الذين يتجاذبهم على العموم مشروعان كبيران، يتأسس الأول على وحدة الدين ( الاسلام )، أما الثاني فيتأسس على وحدة العرق (العروبة). واذا كان التيار الاسلامي يتخذ من آصرة العقيدة غطاء روحيا للدعوة الى وحدة اسلامية تتجاوز الحدود العرقية الضيقة، فان التيار القومي( وهو مايهمنا في هذا المقام ) قد أخذ في العالم العربي منذ منتصف القرن الماضي دلالة خاصة، حيث استلهم القوميون العرب من شعارات التجربة الناصرية رؤية فكرية مغرقة في الأحادية والصنمية، تنامت مع موجة التحرر من الحقبة الاستعمارية. وذلك على عدة مستويات :
- وطن واحد: بموجب هذا الفكر الأحادي ينظر القوميون الى مجموع المنطقة الواقعة بين المحيط الأطلسي غربا و الخليج الفارسي ( أو العربي ) شرقا بوصفه وطنا عربيا واحدا تربطه أواصر العرق واللغة. وفي هذا تجن واضح على التاريخ والجغرافيا، حيث لا يعير هذا التصور شأنه في ذلك شأن السياسات الرسمية التي تنهجها الدول " العربية " أي اعتبار لمنطق التعدد العرقي الذي تعرفه عدد من الدول الواقعة في هذا الشريط، وخصوصا في شمال افريقيا وكذا في السودان و الصومال و سوريا والعراق...
- شعب واحد: طبعا لا يمكن لأبناء الوطن الواحد حسب التصور القومي الا أن يضم شعبا واحدا هو " الشعب العربي". وهو ما يترتب عنه اقحام كل المكونات العرقية في هذه المنطقة من الماء الى الماء ضمن مجال العروبة. ولا يعدم القوميون في هذا الصدد الوسيلة لتفسير موقفهم، الذي يذيب كل العناصر العرقية في الجنس العربي. وهكذا فهم يعتبرون أن الأمازيغ مثلا جاءوا الى شمال افريقيا من اليمن والشام عبر الحبشة. وهذا دليل كاف للايحاء بأن أصلهم عربي.
- لغة واحدة: انها ثالثة الأثاثي في قاموس الأحادية في الفكر القومي العربي. وهي النقطة التي تثير أكثر قدر من الاهتمام في المشروع المذكور، لأن تعريب العناصر غير العربية وتحويلها بقوة الأمر الواقع الى عرب يمر عبر اطلاق العنان للغة العربية، و محاولة تهميش اللغات الأم للأمازيغ والأكراد والتركمان والنوبيين وغيرهم... ممن يشكلون نسبا مهمة من الشعوب التي تنتمي الى خارطة هذه المنطقة. وقد سار القرار الرسمي العربي في نفس الاتجاه، وذلك عندما فرض العربية لغة رسمية في كل البلدان التي تعرف تعددية عرقية. ومازالت أصوات هيئات المجتمع المدني تنادي و تناضل من أجل ترسيم لغات أخرى الى جانب العربية في عدد من الدول.
مازال العرب اذن يدورون في فلك العشيرة والقبيلة التي تتمظهر على مستوى الخطابات الفكرية في تغليب منطق العرقية على مفهوم الانسانية. ويتمظهر هذا السلوك عمليا في السياسات التي تقوم على تطبيق استراتيجية " التأحيد من أجل التوحيد "، وهو ما يذيب كل العناصر العرقية التي تغني التعددية في هذا الفضاء الجغرافي الواسع في اطار واحد يتمركز حول العروبة واللغة العربية. ويبدو هذا التوجه واضحا في عدد من الأمثلة، لعل أبرزها ما يسمى ب " المغرب العربي "، حيث تم تداول هذه التسمية كمقابل جغرافي للشرق العربي بكثير من التعسف. اذ لا نجد ترجمة فعلية لهذا الاسم على أرض الواقع، حيث نجد جزءا كبيرا من سكان المنطقة ليسوا عربا بل أمازيغ. ولو تم تغليب المنطق على الانتماء الهوياتي لكان الأجدر بهذه المنطقة أن تسمى " المغرب الكبير " مثلا. وفي هذا كل التناغم مع واقع الحال. ذلك أن هوية الشعوب لا ترتبط باللسان بل بالأرض، والتاريخ يشهد أن الأمازيغ كانوا على هذه الأرض منذ أكثر من 3000 سنة. لكن منطق الواحدية تجاوز هذه الحقيقة و كرس بعدا واحدا يذيب الكل في العنصر العربي.
لقد أثبتت كل التجارب التاريخية أن مشاريع الوحدة لا تستند في نجاحها الى وحدة العرق أواللغة، بل الى وحدة الهدف و الرؤية، ومحورها هو العنصر البشري، بغض النظر عن أي انتماء مختزل. ولنا في الاتحاد الأوربي خير مثال على ذلك، حيث استطاعت دول لا تجمعها أية رابطة لغوية أوعرقية في تحقيق حلم ملايين الأوربيين بالوحدة الفعلية على أرض الواقع. أما المشاريع القومية فلا يمكن أن تحقق النجاحات المنتظرة لأن أفقها محصور ومنغلق. وواقع التشرذم العربي خير دليل على هذه القضية.
محمد مغوتي. 25/03/2010.
التعليقات (0)