هي أمك هي أمي .. (قصة قصيرة )..
ليس هناك يوم أو ساعة أو دقيقة لم تترك قوى الظلم والظلام المتسلطة والمتصارعة أثرا منها في حياتنا،وإذا كنت مثقفا أو كاتبا أو أديبا فأنك تحمل في قلبك دائما موضوعك القادم ، وهو العبء الثقيل هو هموم أرضك ومجتمعك حتما الذي تعيش في كنفه ، وهذا العبء لايمكن إزاحته أو التنصل منه ، فعبثا تحاول أن تمسك أفراح الحياة بكلتا يديك وأنت ترسف بأغلال المسؤولية التي تعتقد أنك المعني بها ، فخلف هذه الإحزان تختبئ أسئلة تطلب جوابا ، الكذب ، الأنانية ،اللامبالاة ، الانتهازية ،الإجرام بكل أنواعه وصفاته ،التجهيل الشعوذة، المصالح الشخصية على حساب العامة ،فهل بإمكانك أيها الإنسان وأنت تسمع أبشع القصص ،وترى افضع المشاهد دون انقباض أو دموع ،ولا عجب في ذلك فان تلك المواقف تشل تفكيرك ولاتقوى على استذكارها ،والفضل يعود بذلك إلى نافخي أبواق الطائفية والعنصرية والتفرقة في الزمن الذي يفترض انه جديد !؟ لمصالح وغايات ذاتية أنانية..
حتى لو تمزق قلبك فلا سبيل للهرب ، فالكاتب وأقصد الذي يمتلك شعورا إنسانيا وليس أي كاتب صاحب غرض شخصي آخر ، أقول على هذا الكاتب تقع مسؤولية أثقل وأقسى مئات المرات ، وعلى الأدباء الذين يرزحون تحت وطأة الإحداث اليومية الفاجعة ،والتي ستكون أبدا في عالم النسيان إن هم أسدلوا عليها ستار اللامبالاة ، ومع ذلك يجب عليك أن تحيا ، أن تعيش ، حتى تصل أيامك إلى نهايتها ، وعندما تذهب اللحظة الأخيرة فإنها تقع في العدم مثل التراب وهو يلقى في قبرك المحبوب ،وإذا حدث حادث سيء في حياة الكاتب فأنه من المستحيل إصلاحه برغم إن الكاتب يمكنه بأفعال وآثار جديدة لأن يبرئ نفسه ولا يطلب بعد ذلك الصفح . وما أن تصبح حياتنا أقصر فأقصر ، ولائحة آثارنا تنمو أكثر فأكثر حتى تصبح الأسئلة التي لاتجد جوابا والمتعلقة بحياتنا المعاصرة تستحوذ على اهتمامنا وتستفزنا ومع تقدم الأيام يغدو القلب اقل قسوة ، والعقل أقل قوة ، والأعصاب أضعف ..
كنت إلى وقت قريب أحاول الهرب اجل الهروب من زحمة الحياة وصخبها ،ودخان عوادم السيارات وزحمة المرور في شوارع بغداد والسيطرات،وضجيج الأصوات النشاز ،وأكثر ما يزعجني الأصداء المرتدة بين جدران المدينة والبنايات ، فألوذ بمكان خارج المدينة يسعفني بالهدوء والتأمل ،هناك قرب قطعة الأرض اليتيمة ،بيت الأحلام وهي إلى ألان بلا سقف ولا جدران ،هناك في الأرض الخلاء ،حيث إنها اعشوشبت بنبات بري ،تحيطها وبمبعدة عنها قطع أراض تناثرت هنا وهناك ،استطاع أصحابها البناء عليها بجهد ملحوظ،بسبب كلفة البناء الباهظة ،مما اضطرني إلى تركها على حالها ولا يسعني مجرد التفكير ببنائها وساترك المهمة للجيل القادم يصارع الحياة لإتمام بناءها كبيت للمستقبل ، أقول كنت اذهب هناك لا لشيء سوى الانعزال يمكنني فيه ولو للحظة واحدة أن اقفز من الصف لأستريح وأهدأ مثل ثور الحراثة الذي يتوقف فجأة عن الحرث ويجمد ليأخذ نفسا .. كنت أفضل هذا المكان الخلاء حيث الأرض مفتوحة والطيور بألوان مختلفة تمرق من فوقي ،وا لسماء صافية والصمت سيد هنا كان ذلك في نهاية الشتاء، حيث العشب نابت مخضر، والنسيم رطب ولا ترديد للأصداء ، ولا أصوات نشاز .. وأنا جالس كعادتي في هذا المكان اطلب الهدوء والتأمل لمحت خيال اسود يقبل نحوي على الجانب الآخر من الطريق البعيد ،اخذ بالاقتراب نحوي أكثر ؤبخط مستقيم كأنه يطلبني ، اقترب أكثر وإذا بها امرأة عجوز ترتدي جلباب اسود وتلف رأسها بفوطة سوداء ،تحمل كيسا بيد وعصا باليد الأخرى،هذه ألامرأة العجوز تشبه أمي وأمك وأم أي قارئ آخر، سواء كانت تحمل كيسا أو كانت عاملة أو موظفة أو ربة بيت فقيرة اوثرية تجلس على مقعد وثير قرب المدفأة في أمسيات الشتاء الباردة، لافرق لان كل امرأة تقدمت في السن ،كل أم تحمل على كتفيها عبئا ثقيلا علينا أن نساعدها على حمله أو بالأحرى أن نزيحه عنها . اقتربت المرأة العجوز مني ،ألقت حملها عن ظهرها ..
قالت : بصوت مبحوح من فضلك ياولدي هل لك أن تخبرني كم الوقت ألان ؟أجبتها تقريبا الثانية
قالت : انه وقت الغداء .. رمت عصاها على الأرض ، جلست وفتحت الكيس ، أخرجت كسر خبز وحبات طماطم وأعواد خضار، أومأت لي أن أشاركها في الطعام إلا أنني اعتذرت ، بعد أن أكملت تناول غداءها طلبت أن أأرث لها سيجار ففعلت باحترام، سألتني من أين أنت ؟
أجبتها من المدينة المجاورة لهذه الأرض الخلاء ،وهذه الأرض التي اجلس فوق عشبها ارضي ، عجزت أن ابني طابوقة عليها وسأدع المهمة لأطفالي عندما يكبرون علهم يوفقون في تحويل الحلم إلى حقيقة من بعدي ، إذ أنه كما يقال دوام الحال من المحال .
جاء دوري في السؤال قلت :ماذا تحملين في الحقيبة والى أين وجهتك يا أمي ؟
أجابت : بعض الخبز والكسوة ، وبطاقتي الشخصية ،وصورة كبيرة مبروزة ببرواز مذهب لولدي الشاب ، أنظر كم هو جميل ، الناس تجود علي بالطعام والملابس وأحيانا المبيت ،
قلت : كم هو جميل أن يكون هناك أناس طيبون في الدنيا .
قالت : الكل يساعدني حتى الأطفال يأتون لي بالماء والطعام والملابس التي ترسلها لي أمهاتهم ، ثم تمتمت هنيهة بكلام غير مفهوم وأردفت
قل لي يابني كم يستلزم من الوقت ليعود الأسرى ويصرح بمصير المفقودين .
شعرت كما لو أن الشمس غابت فجأة فوقنا وغدا قلبي فارغا إلا من ظلام عميق قاس ومؤلم .
قلت : ولكن ياعمة عن أسرى أي حرب تقصدين حرب إيران أم حرب الكويت أم حرب أمريكا الأخيرة .. انتهت الحروب ولم يبق هناك أسرى حرب !؟
قالت : لاأصدق أنهم يكذبون ، الكل يكذب ،ابني وحيدي لازال بعيدا ، لقد مرت خمس سنوات منذ أن خرج من البيت صباحا إلى الجامعة فهو ليس جنديا لقد كان طالبا ،أغرورقت عيناها بالدموع .. آه لو كان في البيت ألان لما كنت مضطرة أن أجوب الشوارع والأزقة كمتسولة أثير شفقة الناس . قالوا لي انه أسير عند جماعة ما ، وآخرون قالوا انه سجين لدى الحكومة أو في سجون الأمريكان .
أزداد فمي جفافا قاطعتها قلت : ربما كان ابنك من المفقودين إبان حوادث القتل الطائفي وليس من الأسرى أو السجناء ،
قالت بحرارة لا لا أنا أعرف أنه لازال حيا ، لم تكن قد بكت بعد ، بل كانت تقوم بحركات مبهمة وفجأة بان عليها القلق جمعت أغراضها ،حدقت بالفضاء الأزرق هنيهة ،ثم أدخلت الصورة داخل الحقيبة وحزمت الكيس ووضعته على العصا .
قلت : ولكن يا أمي يمكن أن يكون أبنك قد ... لم تدعني أكمل قالت : لا لا
تزاحمت المشاعر في نفسها وكلمات الشكوى أصبحت استعطافا ، حتى تسمرت عينيها علي وسألت سؤالها الأخير الذي رن مثل رجاء ..
قل لي متى يعودون !؟
جربت أن أستحث التاريخ مع أني اكره حوادثه لقسوتها رحت أتمتم ، لمعت الصورة والأسباب والمبررات ، والإحداث القريبة في ذهني ، وأشياء أخرى تعلمت أن أقبلها كما هي رغم عني ،ولكن الأسباب في مثل هذه الحال عديمة المعنى والاستنتاجات عديمة المعنى أيضا ، لاشيء له أي معنى سوى أن أم عجوز يجب أن تصاب في عقلها كمدا على وحيدها فتجوب الأزقة والشوارع والساحات العامة ، لان ابنها وحيدها قد اغتيل غدرا أو أصبح في عداد المفقودين ،لكي يتنعم أمراء الطوائف بالمكاسب والامتيازات ،لكي يعلو صوتهم ويكسبون أكثر عدد من النقاط والمقاعد في الحكومة والبرلمان الصوري ، رغم إن هذا البريء ليس عسكريا وليس مقاتلا في جبهاتهم ،كان مجرد طالب يعبر الشارع المؤدي إلى الجامعة لذلك كان عليه أن يكون جسر الأشرار للسلطة وليس هو الأول ولن يكون الأخير..
وقفت أمامها أمام أمي وأمك وأم أي أحد منكم دون أن أستطع لفظ كلمة ، كل ما قدرت عليه هو أن أقف صامتا مغلوبا على أمري أما م أم عجوز لا حول لها ولا قوة ، شعرت أن شيء ما أطبق على أنفاسي وأختنق قلبي ، أدركت أن كل الكلمات التي كتبتها ترتجف باردة ، كل الكلمات التي لفظتها تغيب في العدم لا جدوى عبثا نحاول فسفينتنا من دون العدالة إلى غرق لامحال ..
نهضت المرأة العجوز ثم رفعت الحقيبة فوق ظهرها وأخذت الكيس والعصا في يدها واتجهت صاعدة التل نحو البيوت والأزقة ،رددت بصوت حزين متى تعودون ، متى يعود أبني ، وشيئا فشيئا أنحل صراخها بكاء ثم نحيبا ، كان نحيبها يتموج خلفها كما لو كانت الحياة كلها تطير نحو اللا نهاية ، عنفت نفسي كيف نسيت أن أعانقها وأواسيها ، رددت التل صدى صوتها وشاركت الأرض في نواحها وسقط قلبي تحت ثقل دموعها .. منذ ذلك التاريخ لازال نحيبها معي حيث ذهبت وأنى اتجهت ، لقد تعبت من سماع هذا النحيب ، وإذا كان لم يبق في العالم كله إلا هذه المرأة تبكي من اجل أبنها ، فلا تدعوها أيها الأصدقاء أيها الناس تمر في طريقكم دون كلمة تعزية .. هي أمي وأمك وأم أي احد منكم لقد رأيتها ترفع صورة ابنها في ساحة التحرير وتندب ،ولكي لاتتكرر مأساة هذه إلام يجب الضغط بكل الوسائل المتاحة لمعرفة مصير المفقودين ومجهولي المصير ،أيها التاريخ أيها الأصدقاء هل تسمعون نحيبها .
صادق البصري/ بغداد
4/6/2011
التعليقات (0)