هنيئاً لدارفــور بسلام العدل والمساواة
الطبيب خليل إبراهيم (زعيم حركة العدل والمساواة)
بدون حاجة لشغل النفس بالتساؤل عما إذا كان إتفاق إنجامينا الإطاري الذي تم توقيعه البارحة بين الحكومة السودانية وقيادة حركة العدل والمساواة قد تم الإعداد له وطبخه على نار هادئة منذ زمن بعيد من عدمه أو رصد لقائمة أسماء اللاعبين الرئيسيين من الدوليين خارج نطاق السودان وتشاد الذين أشرفوا وضغطوا في سبيل ذلك من وراء ستار ؛ فإن الحديث قد يكون مثمرا لو ضربنا صفحا عن الماضي وتوجهنا بماجرى نحو أثره في الحاضر المعاش والمستقبل القريب منه والبعيد ، ودون حاجة إلى التطرق إلى أسود وذئاب وثعالب وحمير وأرانب على طريقة كليلة ودمنة.
قلت من قبل في مقالات سابقة أن إستراتيجية " تعريب" مشكلة دارفور ستؤتي أكلها وبالشكل الإيحابي الذي يرضي جميع الأطراف المتورطة فيها والتي تعاني منها ؛ أو لها مصالح إقتصادية وأجندة قبلية فيها.
فمن ناحية حكومة الخرطوم فإن توقيع إتفاق سلام مع حركة العدل والمساواة بوصفها الفصيل الذي يمتلك أكثر من 60% من أوراق التمرد وقوته القتالية الفاعلة في الأرض على خلفية ما يتوفر له من دعم ورعاية ومؤازرة لصيقة من جانب إدريس ديبي وفرنسا بالتالي ..... يأتي توقيع هذا الإتفاق بردا وسلاما على حزب المؤتمر الوطني الحاكم ، ويكاد يضمن ويؤمن توجه الناخب السوداني في (الأغلبية الصامتة) لإنتخاب مرشح الحزب "عمر البشير" بأغلبية مريحة في ظل إنتخابات نزيهة ومن الجولة الأولى ؛ وسواء ظل الصادق المهدي في حلبة المنافسة حتى النهاية من عدمه.
وعلى المستوى الشخصي بالنسبة لعمر البشير فإن الإتفاق وبرعاية قطرية تشادية ومباركة من أرض الحرمين الشريفين وضوء أخضر من الأليزيه الذي باع له أوباما جمل دارفور بما حمل .... يأتي هذا الإتفاق وهو يحمل إعترافا ضمنيا ببراءة الرئيس عمر البشير من كل ما نسب إليه في مذكرة أوكامبو ودحض مرير لباطل مزاعمها ، عوضا عن أنه سيعصف بها نهائيا إن لم يحرقها وينسفها في اليم نسفا.
وفي ملعب العدل والمساواة فإن توقيع هذا الإتفاق يجعلها من السابقين إلى السلام بإحسان وإلى تاريخ وموقف لاحق . ويضمن لها شريحة أكبر في كيكة تقاسم السلطة والثروة ويمهد لها الطريق لتتحول إلى حزب سياسي راسخ ومعترف به في الساحة السياسية إن كان يحمل أجندة قومية غير قبلية أو جهوية وبما يكفل له التطور والإستمرارية إن أراد زعماء الحركة ذلك وعملوا من أجله بذكاء يستغل الزخم والحماس الجماهيري في الإقليم وأنحاء السودان المختلفة والشتات الدارفوري في الخارج الذين يستقبلون توقيع هذه الاتفاقية وكلهم أمل في حلول السلام ربوع ديارهم بعد أن ذاقوا الأمرين من التشرد والإستغلال والذل والجوع والهوان وطعم الإستجداء المر والمجازر وإصطياد القناصة في بلاد الملاجيء التي توجهوا إليها سواء في مصر أو تشاد وإسرائيل وغيرها.
وأما تشاد ديبي ؛ فإن حاجتها إلى الإستقرار السياسي واللحمة الإجتماعية وبهدف جذب إستثمارات عربية إسلامية سخية بعد نضوب معين المصارف وشركات الاستثمار الفرنسية بسبب الأزمة المالية العالمية ما بات يخفى على أحد . وتجيء زيارة إدريس ديبي المتوقعة خلال ساعات إلى أرض الحرمين الشريفين لتؤكد ذلك .... ولتؤكد من جهة أخرى مدى جدية الضغوط التي مارسها جلالة خادم الحرمين الشريفين على تشاد وفرنسا وظل مواظبا عليها بصبره المعهود منذ عام 2006م . وكان آخر تكتيكاتها زيارة المستثمر السعودي الأمير الوليد بن طلال إلى إنجامينا وإجتماعه بإدريس ديبي لبحث إمكانية تمويل مجموعته لمشروع تطوير حقل بترولي تشادي واعد ؛ وغير ذلك من إستثمارات في مشاريع أخرى يحرص الرئيس التشادي على التسريع بوتيرتها بعد أن أدرك وبات على قناعة أن التنمية الإقتصادية والعدل الإجتماعي وحدهما (وليس زغاوة السودان والحروب بالوكالة) هي التي تكفل وتضمن له الحفاظ على كرسيه راسخا في إنجامينا ، وكل هذا رهنا بالتوصل مع الخرطوم إلى تفاهم مصالح مشترك يساعده على جلب المعارضة المسلحة في بلاده إلى طاولة مفاوضات بأقل تكاليف وتوقيع إتفاق سلام يشيع الأمن والإستقرار الدائم وفق حسابات الروزمانة السياسية البشرية وحيث لا دائم على كل حال سوى وجه الله. .....
ومما لا شك فيه أن الأمير الوليد بن طلال خلال زيارته إلى إنجامينا ، قد نقل لإدريس ديبي تحفظات خادم الحرمين الشريفين على دخول مجموعته المالية بجدية في المشاريع المشار إليها دون تسوية سياسية جادة هذه المرة مع سودان البشير إن صح التعبير وبما يعني سلام دارفور ؛ وبما يحفظ للسعودية هيبتها في العالم الإسلامي بعد تعثر مساعيها السابقة لحل مشكلة دارفور عام 2006م نتيجة تعنت تشـاد وقبل أن تعصف الأزمة المالية بأحلام فرنسا الإستعمارية ......
ومثلما تضغط دولة قطر بقوة على فرنسا (توتال) المتعثرة ماليا ... فإن دولة بمثل ثقل المملكة العربية السعودية الديني والمالي ؛ وخادم حرمين شريفين بقامة الملك عبد الله بن عبد العزيز بوصفه الشخصية الأولى في العالمين العربي والإسلامي وفق إستطلاعات الرأي مؤخرا . لن يرضى حتما بأن تضرب دول وأنظمة مثل فرنسا اليوم وتشاد ديبي بوساطته ومجهوداته عرض الحائط وبأي حال من الأحوال.
ومما لا شك فيه أن العربية السعودية التي تراقب الموقف في دارفور عن كثب عبر سفارتها في الخرطوم ... لاشك أنها بعد أن ظلت تضرب خلال السنوات الأربعة الماضية "بصبرها وطول بالها المعهود" على حديد إنجامينا والأليزيه الساخن ، قد توصلت الآن إلى قناعة راسخة بأن إدريس ديبي جاد هذه المرة ويعني ما يقول ويتصرف به ؛ حرصا على ذهب المعز وليس خوفا من سيفه ؛ ولولا ذلك لما وافقت على مد البساط الكشميري الأخضر الناعم تحت سلم طائرته وإستقباله لديها بهذه السرعة والتكريم والحماس كرئيس دولة (وليس كمعتمر) عقب توقيع الإتفاق الإطاري بين الحكومة المركزية في الخرطوم وحركة العدل والمساواة الذي حرص على أن يتم توقيعه تحت رعايته المباشرة في إنجامينا.
ومما لاشك فيه أن التوقيع النهائي على هذا الاتفاق يوم الثلاثاء المقبل سيساهم في تسريع وتيرة المفاوضات مع تجمع الفصائل الدارفورية الأخرى عبر طرحه لمعالم طريق واضحة يتم المضي قدما في دربها . هذا مع الأخذ في الإعتبار حقيقة أن لقبائل الفور طرحها المختلف في التفاصيل الدقيقة عن قناعات وأطروحات قبيلة الزغاوة التي تمثل معظمها حركة العدل والمساواة.
وبوجه عام ينبغي تذكير أهل دارفور من غير العرب أن (تعريب) مشكلة دارفور لا يقدح من مكانتهم أو يقلل من شأنهم ؛ أو أن هذا التعريب يأتي لمصلحة عرب السودان وحدهم ؛ بل على العكس من ذلك تماما فإنه يأتي لمصلحة إقليم دارفور جملة وتفصيلا كمحصلة نهائية . وذلك لأسباب جوهرية يمكن تلخيصها كالآتي:
1) إن تعريب مشكلة دارفور وعلى العكس مما يظن البعض ؛ يساهم بشكل أكبر في فرض مزيد من الضغوط على الحكومة المركزية في الخرطوم على إعتبار أنها وإن كانت لا تعبأ بفرنسا والولايات المتحدة وغيرهم من وسائط ضغط أجنبية دولية أو حتى أفريقية؛ فإنها وعلى العكس من ذلك ستفتح عينيها جيدا وتصبح كلها آذانا صاغية عندما يتحدث إليها حلفاءها العرب المسلمين في السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية بنحو خاص . وعلى إعتبار أن هؤلاء هم المجال الأمني الحيوي لعرب السودان ومسلميه والحبل السري الذي كان وظل ولا يزال يرفدهم ويغـذي عروقهم في الملمات.
2) إن أية حلول ووساطات تأتي من الدول العربية المشار إليها أعلاه تحوز عادة على رضا وثقة الرأي العام في الشمال. ولا يحمل القبول بها مشاعر مضادة بالخضوع لإملاءات خارجية إستعمارية تحط من القدر والكرامة الوطنية . وهو الأمر الذي يجعل من أمر تسويقها محليا سهلا وميسورا بالنسبة لحكومة الخرطوم المركزية ، وأحزاب الشمال التقليدية الكبرى ذات القاعدة الطائفية العريضة (الأمة) و (الوطني الإتحادي)... أو حتى تلك من ذوات القواعد النوعية كالحزب الشيوعي التي لا يشفع لها التعلل بوجودها خارج نطاق السلطة ، ومن ثم فهي منوطة على الأقل بتسجيل مواقفها المعلنة وبوضوح بين الحين والآخر عند كل منعطف تاريخي أو مفصلي يمر به الوطن.
3) إن دول شبه الجزيرة العربية من أكثرها رعاية للإسلام والمسلمين قاطبة . وعلى قناعة بأن الغالبية العظمى الكاسحة من شعب إقليم دارفور هم مسلمون متدينون ولهم ولأبناء قبائل الفور خاصة علاقات رحم ونسب مع العرب والقرشيين العباسيين لا يستهان بها . فإن السعودية ودول شبه الجزيرة العربية الأخرى لا تعني شعوبا أو أنظمة رسمية أجنبية بالنسبة للرأي العام الدارفوي ، بقدر ما هي مهد لوشائج هذه الأرحام وعقيدة الدين الإسلامي الذي تشربوه بلسانه العربي المبين وإختلط بدمائهم وجرى في عروقهم وإلى درجة أصبحوا فيها والإسلام وجهان لعملة واحدة ...... وذلك بشهادة ألـــدّ الأعداء قبل الأصدقاء وحيث تواترت تقارير البعثات الصليبية التبشيرية بعد طول عملها ونشاطها المحموم للإصطياد في الماء العكر خلال فترات النزاع الساخنة لتعلن لعواصمها ومقرات إداراتها الرئيسية عجزها وفشلها في تنصير أبناء دارفور من المسلمين رغم كل ما يعانونه من مآسي في ظل الصراع الدائر ، والإتهامات التي توجه وتكال بمكاييل الحق والباطل لحكومة الخرطوم المركزية أو لمحور الجلابة والجنجويد.
4) وفي إطار العلاقة السودانية مع السعودية ودول شبه الجزيرة العربية على نحو خاص . فإنه لا توجد هواجس أمنية أو عوامل جغرافية وإقتصادية وموارد طبيعية مشتركة متشابكة من شأنها تكريس وفرض (تضارب مصالح) مثلما هو عليه الحال في علاقة السودان مع دول أخرى سواء في وادي النيل أو الجوار ، كان سيرتجى منها أن تساهم في حل المشكلة لولا أنها ترغب في أن يظل السودان غارقا وإلى يوم الدين في مشاكله الداخلية تحقيقا لمصالحها الوطنية من وراء بقاء السودان في حالة تفكك وموت سريري أو رجل أفريقا المريض على اقل تقدير.
5) إن موافقة الدول الأغنى الفاعلة في مجلس التعاون الخليجي التدخل لحل مشكلة دارفور والإلقاء بكل ثقلها ، والمراهنة على ذلك بالكثير من أوراقها وبما قد يقدح من مكانة في حالة الفشل ، أو يعزز زخمها الروحي والعربي والإقليمي والدولي في حالة النجاح ، لاشك أنه سيستتبعه إلتزام ضمني بشكل أو بآخر للمساهمة في تمويل الجزء الأكبر من تكلفة التعويضات وإعادة التوطين على المدى القصير؛ وبتشجيع الإستثمار في إقليم دارفور لاحقا بعد الإطمئنان على إستتباب الأمن والإستقرار على المدى الطويل.
6) ويبقى بعد كل ذلك أن لا تكتفي حكومة المؤتمر الوطني المقبلة بعد الإنتخابات البرلمانية والرئاسية بإستقدام زعماء العدل والمساواة إلى الخرطوم وتعيين خليل إبراهيم نائبا ثانيا أو مساعدا للرئيس مثل ما جرى لأركو ميناوي ... بل على العكس من ذلك يجب إنتهاز الفرصة هذه المرة لتحقيق مشاركة فاعلة في الحكم وإستقرار حقيقي في مناطق دارفور بتوجيه التنمية نحوها ، والقضاء على العديد من مسببات النزاع الذي لا نزال نؤمن نحن أبناء الشمال من الأغلبية الصامتة التي لا تحمل أو تخضع في رؤاها لأجندة حزبية ضيقة ؛ لا نزال نؤمن أنه نزاع نشأ مطلبيا في الأصل ، ثم نما وترعرع في رحم إهمال الدولة لهذا الإقليم ، وإنحرف مساره بعد ذلك حين تلقفته أيدي المصالح والمطامع الأجنبية في ثرواته وأحلام إدريس ديبي في التوسع وضمان عمق إستراتيجي قبلي له بين أبناء الزغاوة في دارفور وذلك من واقع تجربته السابقة عقب خلافه مع حسين حبري حين دخل هو وأنصاره من ابناء قبيلته الإقليم . وظل مختبئا وسط أهله فيه أبان فترة حكم نميري الذي لم يكن يعلم بوجوده .. ثم رعاية الحركة الإسلامية السودانية له حتى نجح عام 1989م في الزحف من دارفور نحو إنجامينا ليصبح رئيسا لتشاد عام 1990م.
التعليقات (0)