مواضيع اليوم

همسات من المدن البعيدة

روح البدر

2009-06-10 06:27:25

0

همسات المدن البعيدة

 

حسين سليمان
(سوريا/ هيوستن)

لماذا أنا هنا؟ تسألني خطواتي.
أرى القمر الساقط، على بنايات مدينة الرحاب الصفراء، تتدلى منه الأغصان نحو ساحات العمارات وينتصب عليه العريش فوق بحيرات صغيرة.
أسمع خرير خفي لصوته قد يكون من مياه، أو خرير خفي لريحه التي دوما تضل سبيلها.
يصمت المكان فتحضر أمامي مدينة أخرى عماراتها تماثل الرحاب. مدينة من حجر صاعد وطوابق مفتوحة إلى جهة السماء تحتها الشوارع الملكية الساكنة. أنوارها بعيدة ترقص في ضوء شاف، إنها بعيدة لكنها بعيدة تقريبا خارج المدينة في ناحية متروكة من برية مهجورة.
لماذا أنا هنا؟ تسألني خطواتي.
الغرفة بستائرها التي ترقص مع دخول هبات الريح، تركتها خلفي. والقمر يطبع وجهه الغريب على الرصيف.
والأرض سحاب. صمت، سكون مع وهج بارد ربيعي يقول لغة تشرف على واد كله أشجار.
لماذا بالحق أنا هنا؟
ستدور نحو اليسار حين ترى البنك. قالت.
وكتبت ورقة تبين لي كيف أعود أو كيف أجيء. فبيني وبينها مسافة.
ثم أغلقت عينيها، من تعب النهار الذي بدأ في الرابعة صباحا من يوم البارحة وانتهى عند الرابعة صباحا من هذا اليوم. سأنام لساعتين فقط. رفعت إصبعين. فتركتها مسترخية في الصوفا. نحو النافذة ستائر تتدلى ويداعب الهواء نعاسها. وأمشي مطرقا فأرى نورها في الأرض.
أي بنك؟
فترفع يدها وتقول من خلال النعاس: ستلف نحو اليسار.
خرج "الكوكو" من ساعتها الحائط يغالبه النعاس أيضا وعلى حياء يعلن دقات رومانتيكية لعصر مشحون: يجب في كل خمسين عاما من الحياة أن يكون على الأقل أيام على عدد أصابع اليد تحفظ لمئات سنين قادمة.
فأغلقتُ الباب على مهل كيلا تستيقظ. في وهم هبطت ثلاث درجات كي أطأ الأرض.
كان الصدى يملأ السماء ويوسع الكينونة فهي عن حق فراغ هائل يجثو فوقي. فنزلت على مهل نزولا ثلاثيا نحو القاع.
ماذا يفعل الناس في النوم؟ والسماء بعيدة والقمر ساقط عليّ والأشجار من دون مكان.
وأنا لست إلا فراغ يتحرك في شارع المدينة؟
تركت قلبي في غرفتها، ينتظر كي أعود، يجلس بفقر وقرفصاء في أرضها، يستند إلى جدرانها ويحسب لي كيف سأجد الطريق والإلتفات؟
يفكر: مسكين، فالطريق صاعد. والمدينة تتزلج في الليل، مسكين فستفقد خطواته وطئها!
والناس الذين هم موج وانفلاق بحر وأهرامات كلهم كانوا... كانوا ليسوا هنا.
كانوا في مئات السنين الماضية، حيث أيام تعد على الأصابع تكمن في الماضي لكنها تبقى مستمرة في الحاضر.
يخرج الليل من الباطن ويظلل "الكوكو" الذي سأبحث فيه عن أيامي وعن أصابعي تشير إلى الفراغ وإلى الشوارع فانا هنا قد ضعت... فأين البنك؟
كان علي أن أظل مع الكوكو، معلقا أيضا كلوحة على حائطها. لكن الفرصة قد فاتت.
والكوكو الآن لا يفعل أن يطلع.
انفتحت نافذة معلقة في الفضاء، على ارتفاع ثلاثة طوابق، انبعث منها نور مصباح أحمر ينزل من الشقوق ويتسلل ليحمل صوتا مصريا توه مستيقظ: كده... وعايز مني إيه... حاروح أصلا إليه.
كانت مسافة الصوت هجرانا. والرجل لا حيلة له إلا أن يفتعل البكاء و يقول ويأتي صوته من النافذة: سألقي بنفسي نحو الأرض إذن، والدنيا ستصبح ضيقة جدا بعد رحيلك، فما قيمة الحياة في الأعالي.
وقالت لي اذهب
فذهبت.
لا أحد يترك أحدا ولا احد يعاشر أحدا إنما الذي يحدث هو الكوكو الذي يأمن أو يخلف ميعاده.
لكن لم تهزها دموعه، تعرف أنه يكذب. فهو يحب امرأة أخرى مثلما هي تحب رجلا آخر. كان يجب أن يقول لها ذلك وانه لم يعد يحبها. فما الذي بدله؟
عبرت طيور غريبة السماء وحلقت فوق رأسي، قرب النافذة، لبضع وقت. ثم دخلت وأيقظت مسامعي. فسمعت الرنين، رنين البلدة النائمة. مثل رنين الزيت.
ما كان بودي أن أمضي لو قالت لي ابق.

أمامي الأشجار، الوادي الذي لا يكف إلا أن ينتقل ويتبعني كأن اللحظة لا تتركني أبدا. تلك اللحظة.
مدينة الطبقة: وسأتركها عند الباب واقفة تودعني، وأنزل من درج الدور الثالث وأقف عند المصطبة التي ستدور نحو الأسفل إلى الدور الثاني كي أسمعها تقول:وماذا عن الذين تكلمنا عنهم؟
- ماذا عنهم؟ سيظلون في مكانهم. وظننت أنها تريدني أن آخذهم معي في الرحلة!
فتجيب: لا أقصد ذلك، لكنني أقول إن كنا سنحكي ونشركهم معنا مرة أخرى.
- طبعا. فلولاهم لما اجتمعنا أبدا.
- إذا انتبه إلى خطاك وأنزل على مهل يا سارتر وخذ الباص الذي تسمع صوته واقفا ينتظرك تحت، فهو سيذهب مرة واحدة إلى حلب.
يجب أن أحمل منك شيئا يذكرني بك. ماذا عن رائحة شقتك الدفينة التي لمستها حينما دخلت؟
لا شيء. سوى الأفق والأشجار، فهما من سور المدينة التي راحت تنفلت من أصابع يدي. إصبعان فقط. وتلف نحو اليسار. ساعتان. والمدينة تغرق قليلا قليلا في واد من شجر.
نريد ساعتين للوصول أليس كذلك؟
سنلف هذه المرة نحو اليمين من أجل حلب. قال السائق.
والباص الذي يطارد المسافة التي لن تنتهي من أمامه يمر بالتلال التي هي مقابر. شواهدها نحو الجنوب مائلة مضروبة بالزمن وبالحت ومع هذا فمازالت عناوينها واضحة ومنقوش عليها:
مقابر للحب.
من الذي يموت من أجل الحب؟ السائق ينفخ زمور الهواء كي يسلم على الأموات.
- من أي الناس أنت؟ سألني وهو يشير بطرف عينه إلى المقابر.
- منهم.
- من الذين يحبون!
باستعجال يتبلل زجاج الباص بالمطر فينتبه السائق، يستيقظ من غفلته.
يسقط المطر على الطريق فيقول إنه سيغيره ويصبح بالتالي طريقا أطول لساعتين أخريين: إلى هناك، حيث طريق آخر لا يهطل فيه المطر.
حيث التراب أبدي والشارات ساكنة.
وأنت ممن؟ سألت سائق الباص.
لقد تركتني. لو كنت أحبها عن جد لكنت قفزت من نافذة الطابق الثالث، لكنني لم أفعل. حب النساء مصيبة، أعرف هذا على الأقل.
تركتك من أجل الحب؟
لا، ليس من أجل الحب، لكن من أجل سائق باص آخر.
تتمايل في مشيتها مثل مهرة على الرصيف، وتهز وسطها لغاية في نفس يعقوب على الرصيف. هي ليست كذلك في الأحوال العادية، لكنها في حالة الحياة هذه، على الرصيف، فكانت تهز.

أنظر إلى عيني، هل أنا في تلك العينين، أو في ذلك الوجه، أو في هاتين اليدين...؟ في أي مكان أنا؟ أين كينونتي التي تحبها وقطعت مسافات الزمن كله من أجلها؟

القامشلي. لقد ارتخى كابح الدراجة فاستخدمت قدميّ كي أوقفها. لامستهما بتراب الطريق المضطرب. فاستقر الطريق في وسط بساتين تمس شريط الحدود التركية. لم يكن ارتخاء الكابح عرضيا ذلك لأن الأشياء كانت مكتوبة قبل ذلك. قال الرجل الذي جلس فجأة مع أسرته في مكان غير بعيد عني: صدفة سعيدة، تظهر من وراء الحدود والبساتين كي تنظم إلينا. فقلت له: لقد ارتخى الكابح، فلولاه لتجاوزت هذه الصدفة السعيدة من دون أن أقف. وكنت مررت من دون أن أراك مع الأسرة التي تأكل من حشائش البستان.
تعالوا معي!
فأخذتهم أمامي. بيتنا يكاد يقترب من البساتين، إنه يقترب. حيث أرى قطار الشرق السريع منه، قطار الحدود التركي أراه من بيتنا. يمر القطار التركي في الليل. أسمع صوته يجري على متراس وعَجل كأنه ساعة دقاقة "كوزلارم" في منتصف الليل. يذكرني صوته بالليل يذكرني بالصمت. ماذا عني وأنا أدفع هؤلاء الناس أمامي؟
لقد وقفتْ وتخلفت عن أسرتها. شعرها رمادي. كانت ريح الناي التي تخرج من ثقوبه تفرق كل شيء. وعيناها حمرة أبدية. شعاع غسق ينزل نحوها. جاء الزمن كي يحيي هذه اللحظة. أنت أيتها الراعية يا آكلة الحشائش توقفي.
كانت تركض. رأيتها تركض خلف الدجاج والديك الرومي والبط، كانت تركض خلف حظيرة كاملة. البنت في ثوبها الليموني وشعرها الطويل الذي جاء وصار بله مسافات.
تلف نحو اليسار حين ترى البنك.
فظهرت أعمدته ودخانه حين تذكرتها، من المؤكد الآن ترتاح في نومتها على الصوفا.
أين اليسار حين يكون المرء في ذكرى فقط؟
لا أريد أن ألف. لا أريد أن ابتعد أكثر. سأبقى قريبا من ذكراها ولن أمضي حتى أرى البنك. لكن نسائم الليل الغريب-شبه الصباح، انتزعت الرومانسية والضعف مني. فتقدمت خطاي نحو الطريق الذي رسمته على ورقة دفتر ينتهي عند الشقة التي استأجرتها لي في الطابق الثالث.
تنفتح فيه النافذة، تنفتح فيه المرأة، ينفتح فيه الرجل، ينفتح الزمان كله مثلما كتاب. اقرأ إذن كتابا مفتوحا بدمدمة رأس مغلق. في رأسي مكان يتدحرج ويجب أن يخرج. كلما تنفتح المدرسة، مدرسة حاتم الطائي للبنين والبنات، نخرج منها جماعات وعصابات وبقرا. وأقول لها سوف أصارعه من أجلك، أصارعه هذا ابن حي قدور بيك، كي يفهم أن الحب في قلبي هو حب سينما الهند، حب عنتر وعبلة. لكنه مع جماعته يطوقني كما يطوق خروف: سوف نكسر عينك يا جلة البقر. فيكسرون عيني وأراها بعين أخرى تمشي معهم على رصيف صاعد نحو جبال نصيبين الحدودية نحو قطارات الدخان. فيقترب مني "شيكو بيكو" وهو يدمدم بلكنة كردية- مردلية: "كرو" ولد وقف على حيلك بقى، إنشاء الله، إنت ياه

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !