همجيّة
ــــ 1 ــــ
استأت حتى الإكتئاب، حين أضطررت ( و ما أكثر ما اضطررت بسبب حيائي المرضيّ المزمن)، الى موافقة صديقي معشوق سادات من أجل مرافقته في رحلته السنوية الى بلده الأمّ، باكستان.
فوّت عليّ معشوق سادات فرصة التفلّت من عبء ضيافته، حين أضاف مقترحا عليّ، ــ حتى قبل أن أتلفظ ببنت شفة ــ تذكرة مجانية، كما فوّتت عليّ عطلة عيد الفصح التي اختارها صديقي موعدا لإستضافته الثقيلة، كل إمكانية للتعلّل بالشّغل.
معاينة التخلّف المريع، والفقر المدقع, و التديّن الباكستاني الملطّخ بأوشاب الصّوفية ورواسب السّلفية في احتقار المرأة و اضطهادها و في خفض جناح الذل للحكّام، ثم أن الضجيج اليومي الذي يحدثه أطفال و رضع الباكستانيين رفقة أمهاتهم و لحدّ الساعة الحادية عشر ليلا في وقت يكون فيه أطفال النرويجيين قد اخلدوا الي النوم قبل أربعة ساعات كاملة، ثم ان دويّ الشبان الباكستانيين الذين يبيتون تحت شرفتي و هم يتصايحون كالوحوش الكاسرة الى حدّ أصاب الجيران النرويجيين بالقرف من الإسلام و أهله.. كل تلك الأسباب مجتمعة، كانت ستحول بيني وبين مجرّد التفكير في زيارة باكستان، حتى لو عمّرت ما عمّر نوح، فأنا أغنى ما أكون عن إضافة همّ آخرعلى قلب لم تعد له أدنى قدرة على تحمّل المزيد من المنغصات،اقول هذا لا بدافع
عنصري، بل لأنني رجل مكتئب، يعني باختصار شديد قرفان من حياتي لا بسبب نقص الإيمان كما يتبادر لغير العارفين، بل لنقص مادة السيروتونين في خلايا الدماغ، يعني أسباب خلقية قاهرة، ثم انا لا أنصحك بغير التفاني في حبّ جارك الباكستاني، حتى ولو فقأ عينك و سوّد عيشك، و حوّل حياتك الي جحيم مستمرّ، لأن اخوّة الدّين تحتّم عليك ذلك، و لأنه ليس من المعقول أن تنكر ابنك ان كان أعور، فالباكستاني منك، كما أنفك منك أحببت أو كرهت، ولو كان يسيل مخاطا... و لكن كيف أصنع وقد باغتتني دعوة معشوق سادات، كما يباغت الموت تارك الصّلاة!
ــــــــ 2 ـــــــ
بعد رحلة جويّة مرهقة أعقبتها إجراءات جمركية مبتزّة و مخيّرة بين عذاب المطار و عذاب النار، وقبل انطلاق سيارة الأجرة، وجدت من اقتلعني من مقعدي قبل أن يتأبطني الى مكتبه لحسن تأكّده من كوني لم أزر باكستان خدمة لأهداف بن لادن، غير أنني احتجت الى ساعة كاملة، للتأكيد بأنني قد أشعرت بالعار، حين جعلت تابعا لمهرّج صرفته وهّابيّته الغبيّة عن تماسيحنا الحاكمة، ليستنفذ جهوده الدنكيشوتية في تعقب أطفال لندن و مدريد ليفجّر بهم عربات القطارات التحت أرضية، و حين سئلت عن السبب الحقيقيّ لزيارة باكستان، أجبت بأن دافعي الوحيد كان خشيتي من أن تدركني المنيّة قبل أن تتكحّل عيني برؤية أرض حملت شيوخ النقشبنديّة، و سماء أظلت أقطاب البريلوية!
كانت رحلتي من المطار الى قرية نائية من أقاليم البنجاب حيث يقطن صديقي معشوق سادات، عبارة عن تعذيب حقيقي، لأنني كنت و لا زلت أشكو دوارا ينتابني كلّما ركبت وسيلة نقل ــ حاشا الدرجة الهوائية ـ مهما كان قصر الرحلة، فبمجرّد اهتزاز المركوب الذي أستقله، أو انحرافه ذات اليمين أو ذات الشمال، أصاب بصداع محتوم لا ينتهي أثره إلاّ بعد ساعات طويلة من
المعاناة .. فكيف بي و قد امتدت رحلتي الجهنميّة خمس ساعات كاملة، منها ثلاث في طريق زراعيّ شغلت خلالها بكيل اللعنات لنفس خوّارة قعدت بي عن رفض اقتراح معشوق سادات!
ـــــ 3 ـــــــ
قبيل حلول المغرب بقليل، و حين أدركنا مشارف القرية المطلوبة، حدث عطب لسيارتنا ممّا أجبرنا على التوقّف بعض الوقت. بمجرّد توقفنا، سارعت مجموعة من عمّال بدت عليهم علامات الفاقة، الى الترحيب بصديقي معشوق سادات الذي كست ملامحه علامة استياء لا تخفى حالما عاين منصّة خشبية كان العمّال يضعون عليها لمساتهم الأخيرة.
لمّا كان حوار القوم بلغة أجهلها، لم أتبين من لغط الجمع الملتف حولنا غير كلمتي غوجار، ماسوتي ترددان كثيرا على ألسنتهم.
رغم صداع و قرف و ضيق بنفسي و بمن حولي كان سيصرفني عن مبادلة صديقي معشوق سادات كلمة واحدة، الا انني ألفيت نفسي محمولا بدافع الفضول، لإستفسار صديقي عن سبب ضيقه و اكفهرار وجهه لمجرد وجود منصّة، الا انه زاد تقطيبا وهو يأمرني بنسيان الموضوع، و حين عاين امتعاضي، نصحني قائلا (( لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم)) قبل أن يأخذ بذراعي متوجها بي الى بيته الذي لم يكن يبعد اكثر من خمس دقائق سيرا، بعد إفادة السائق بعبثية انتظار فراغه من إصلاح راحلته، خصوصا وقد تطوّع العمّال بحمل حقائبنا.
ـــــــ 4 ــــــ
حالما رحّبت بي عائلة مكوّنة من أم هرمة وثلاث أخوات أصغرهن في العشرين، رحت اسأل صديقي معشوق سادات عن أقرب فراش أستلقي عليه ريثما يغادرني صداعي.. كانت ساعتي
تشير الى الخامسة مساءا، حين قادني صديقي معشوق سادات الى غرفة نوم تنبعث منها بهارات نفّاذة.. أثناء استلقائي هناك، ظل يصلني حوار متقطع لم أتبيّن منه أيضا سوى كلمتي غوجار، ماسوتي اللتين كانتا أيضا كثيرتي الإستعمال، كما كانتا تلفظان بلهجة غاضبة اذا ما وردتا على لسان معذّبي معشوق سادات!
ـــ 5 ـــ
بعد خمس ساعات من سبات عميق، وحين استيقظت من نومي، كان الصّمت يلفّ المكان.. احتجت الى بعض انتظار و كثير من الحمحمة و النقر على الباب، قبل أن أغادر غرفتي المتبّلة، لأعبر قاعة جلوس خاوية، ثم لأفتح باب الدار كي أفاجأ بأخوات صديقي معشوق سادات، وهن يتبادلن حديثا هامسا، خشية إيقاظي من النوم.. حين سألت عن صديقي معشوق سادات، أفادتنى صغراهن و يقال لها باشتانا، وهي تستر عنّي نصف وجه لا أثر فيه للجمال، و بانكليزية متقطّعة و لكن مفهومة، بأن شقيقها قد اضطر لشديد أسف الجميع، إلى شحن والدته إلى مستشفى قرية مجاورة، بعد مرض مفاجئ قد ألمّ بها، و أن رجوعه لن يكون قبل صباح الغد، نظرا لبعد المسافة، و كثرة المرضى، و رداءة الخدمات الطبية، لأجل ذلك، فهن مضطرّات للمبيت في بيت عمّة لهن، كما أفادتني باشتانا بان طعامي ينتظرني منذ ساعات، أما حين سألتها عن معنى كلمتي غوجار و ماسوتي، فقد صكّت الفتاة وجهها وهي تطلق شهقة مسموعة، قبل أن تولّي مسرعة دون أن تلوي على شيء!
ـــــ 6 ــــ
بعد فراغي من صلاة المغرب والعشاء جمعا و تقصيرا، ثم إصابة بعض الطعام الباكساتني اللذيذ، ساقتني قدماي ـ وقد ردّت إليّ عافيتي ــ إلى جولة ليليّة قرّرت منذ البداية أن تكون قصيرة نظرا لجهلى بالمكان و أهله.
كان القمر بدرا و النسيم عليلا، لأجل ذلك تجرّأت على التقدّم أكثر، خصوصا وقد طالعتني مشاعل كثيرة أخذت شكلا دائريّا، كما تناهت إليّ أصوات بشرية كانت تتعالى كلمّا أوغلت في التقدّم.
لم أحتج الي طول تفكير، حتى أدرك بأنّ الشكل الدائريّ الملتهب، لم يكن سوى المنصّة التي توقفنا عندها قبل ساعات قليلة، ممّا دفعنى إلى حثّ السّير نحوها للوقوف بنفسي على خبرها، و سبر خفاياها، و معرفة ما ساء صديقي من سؤالي عنها، و ما روّع الفتاة بشتانا من إشارتي اليها.
حين أدركت موضع المنصّة، رأيت حشدا من الغوغاء يربو على الألف و بأيدي بعضهم مشاعل، وقد تحلّقوا حول نفس المنصّة التى توسطتها فتاة دون العشرين من عمرها، حين اقتربت من الفتاة راعني ارتجافها وعلامات الرّعب المرتسمة على محيّاها، كانت منكسة الرأس، موثقة اليدين و القدمين.. كان أكثر الحضور في حالة توتر و اهتياج، منهم من كان يعبر عنه بزعيق عال أو قرع للمنصة الخشبية بعصيّ كانت بأيدهم، كما كان البعض منهم واجما مطرقا كأن على رأسه الطير.
بعد محاولات توضيحية يائسة، شفعتها إشارات جنسيّة بالغة البذاءة من قبل متجمهرين أمّيين، كنت قد طالبتهم بشرح ما أعضل عليّ من أمرهم و أمر الفتاة، تقدّم نحوي شابّ شديد الوسامة، حديث السنّ، عليه أسمال بالية(علمت فيما بعد أن أسمه أرشد حبيب الرحمن)، تولّى إفادتي بلهجة حزينة، و أنكليزية لا غبار عليها، بأن الفتاة الموثقة ستخضع بعد دقائق معدودة الى عمليّة إغتصاب علنيّة!
كنت أهمّ بسؤال الفتى عن مدى جديّة ما يقول، حين عقّب مؤكدا: " سيدي الكريم، لتكن ثقتك شديدة، بأن هذه الفتاة التي تمثل أمامك، ستغتصب بعد دقائق وجيزة" ثم وهو يستدرك:"
هذا إن لم تقم السّاعة، أو لم يحدث إنزال جوّي تقوم به قوّات حلف الناتو، لإيقاف هذه الجريمة البشعة التي ستتمّ، و يا لشديد الأسف، تحت سمع السلطات الباكستانية و بصرها" قال ذلك، ثم أشار إلى ربوة قريبة قد اعتلاها شرطيان باكستانيّان كانا يدخنان بلا مبالاة، فيما استغرق آمر دوريتهما في مكالمة هاتفيّة يبدو انها مسليّة!
بعد إفادة الشابّ الظريف، ظللت مسمّرا في مكاني، قبل أن أنفجر ضاحكا، ثم مبادرا بسؤال الشابّ، و بي عجب من غباوة طالت بي أكثر من اللازم:" ولدي أرشد، اذا كان الأمر كما تقول، فلا شكّ أن مشهد الإغتصاب لا يعدو أن يكون لقطة من فيلم باكستانيّ سيجري تصويره بعد دقائق قليلة!"، أضفت مبتسما:" و أنت بطله الأوّل دون أدنى شكّ.. فقدرتك على التمثيل لا تضارع"، أجابني الشابّ المهذب و قد كان يملك وجه نجم سينمائيّ: " سيدي الكريم، ليت الأمر كما تقول.. و لكن الذي سيحدث بعد قليل، لا صلة له بالفن السّابع، ثم أنّ .." قبل أن يتمّ الشابّ المهذب جملته الأخيرة، ارتفعت ضجّة تلاها ظهور أفراد مسلّحين بسكاكين كبيرة، وهم يشقّون الحلقة البشريّة التي زادت كثافتها، ليطالعنا شابان قويّان وهما يجرّان شيخا فانيا يبدو في انهيار من يقاد الى مقصلة.. فورا دنوّ الشابّين من المنصّة الخشبيّة، قاما برفع الشيخ الفاني كما ترفع فزّاعة من قشّ، ثم أجلساه على حافتها، دون أن تغادر أيدهما القوية كتفيه الواهنتين المرتجفتين".
كنت مستغرقا في تفحّص الشيخ السبعينيّ الذي شرع يقلّب وجهه في السّماء تارة، و في الفتاة الموثقة تارة أخرى، وهو في كلا الحالتين يتمتم بكلمات لم أتبين منها غير اسم الجلالة، حين أفادني الشاب هامسا" انه برويز نوراني، أحد شيوخ قبيلة غوجار، و والد الضحيّة المرتقبة، وقد أكره المسكين على الحضور، من أجل معاينة حسن التنفيذ.. أي من أجل معاينة عملية الإغتصاب المرتقب الذي قضت به محكمة قبليّة منذ أكثر من أسبوعين"!
كنت أتساءل واجما" أفي نوم أنا، أو يقظة"، حين تابع الفتى المهذّب و بلهجة تنمّ عن حزن دفين:" كل هذا، من أجل قيام شقيق الفتاة المسكينة ووالد الشيخ البائس، بالتقرّب من فتاة تنتمي إلى قبيلة ماسوتي، وهي قبيلة أرفع مستوى بكثير من قبيلة غوجار تلك التي ينتمي إليها الفتى المذنب"!
ظللت أتساءل فيما بيني و بين نفسي المضطربة عن مدى ما وصل إليه هذا "التقرّب" الإجراميّ الذي جرّ الى الفتاة الموثقة ووالدها المروّع هذا البلاء المبين و الإمتحان العسير، حين أضاف محدثي أرشد حبيب الرحمن (الذي حبسته عنّي مكالمة هاتفية سرعان ما اختصرها):" كان كل ذنب الفتى، انه بادر الفتاة بالحديث، وهذا الأمر كان سيمرّ دون عقاب، لو لم تكن تلك الفتاة تفوقه شرفا..". قاطعت الشاب صائحا وقد افقدني الخطب الشعور:" هل يعقل هذا؟" هز أرشد حبيب الرحمن رأسه ثم أضاف: " كما تضاعف جرم الفتى في نظر المحكمة القبليّة السّخيفة، أن ذلك الحديث قد تمّ في ساحة عموميّة، و في ساعة اكتظت فيها بالناس"!
كنت مصعوقا من فرط ما تتالت عليّ من غرائب باكستانية أطارت لبيّ و أدمت فؤادي، و حبّبت اليّ معانقة هادم اللذات، و الإلتحاق بمعسكر الأموات، حين أكمل الشاب ارشد حبيب الرحمن و بأسف لا يخفى:" ثم أن "مخالفة" الشاب، و خلافا لما كما قد يتبادر الى ذهن أيّ أحد، لا علاقة لها لا من قريب أو من بعيد، بما قد يخلّ بالآداب أو يمسّ بالشرف، لأن الفتى في حقيقة الأمر، لم يتجاوز العاشرة من عمره إلاّ بمقدار سنة واحدة!.. فدوافع الحكم الجائر و كما يرى سيدي الكريم، لا تتعدى عصبيّة قبليّة، و عنصرية مقيتة و عنجهية أكثر من سخيفة، عصبية وعنصرية و عنجهيّة قد تجد لها تبريرا، لو كانت الفتاة وارثة العرش البريطاني، و الفتى أحد عراة افريقيا، فما بالك إذا كان الجاني و ضحيته مجرّد مواطنين باكستانيين ربما لم يشملها آخر إحصاء لعدد السكان، و يعيشان معا تحت خط الفقر!"
كان قد اعتراني انقباض تلاه دوار أجاءاني الى مخاطبي الشابّ استند عليه، حين بلغتنا ضجّة عاينا إثرها ظهور أربعة رجال أصغرهم في الأربعين، تحفّهم مليشيا مسلّحة بالسّيوف و السّكاكين الكبيرة، يتقدّمهم صبيّ مهزول يكابد حمل كرسيّ خشبيّ سارع إلى تثبيته أمام المنصّة..." لقد حضر الجلادون الأربعة، و آن للعدالة الباكستانية أن تأخذ مجراها!" سكت محدثي قليلا ثم أضاف" و الجلادون الأربعة أعضاء في نفس المحكمة القبليّة التي أصدرت الحكم الجائر، و كلهم بطبيعة الحال، من قبيلة ماسوتي الموقّرة"!
كنت ارتعد تأثّرا ورهبة و مرضا و عارا و صغارا و إنهيارا و اكتئابا و خجلا من انتمائي الى أمّة متخلّفة تمثّل باكستان أكبر مكوّناتها، حين أبصرت أسنّ العناصر الأربعة وأطولهم لحية، و هو يعتلي الكرسيّ الذي وضعه الصبيّ المهزول صاعدا المنصّة، آخذا مكانا له على يمين والد الضحيّة الذي ارتفع بكاؤه و زاد تضرّعه و كثر تقليب وجهه في السّماء، ليتلوه في الصعود من هو أصغر منه سنّا و أقصر لحية، ليأخذ مكانا له على يسار من سبقه، قبل أن يصعد الثالث ثم الرابع، آخذين مكانا لهما على يسار الشيخ المفجوع.
حين لم اكن املك لا قدرة عنترة بن شداد العبسي على تفريق الكتائب، ولا قدرة رامبو أمريكا على هزيمة جيش كامل بمفرده، فقد استجمعت ما بقي لي من قوّة تشيّعني نصيحة الشاب حبيب الرحمن أرشد بعبثية ما أصنع، مخترقا الصفوف، متجها الى حيث يجلس آمر دورية الشرطة الذي سارع الى تحذيري بأنّني سأتعرّض الى الحبس لإربع و عشرين ساعة على أقل تقدير، بتهمة الإخلال بالأمن، لو لم أكف من فوري عن اصراري بوجوب تدخّله العاجل لإيقاف الإغتصاب الوشيك.
حين أسقط في يدي، جلست تحت جذع شجرة على بعد مترين من آمر الدورية، وقد أشرفت على المنصّة التي بدت لي والنار تحيط بها كقرص مشتعل الأطراف.
ــ ثم أليس من الحكمة التضحية بحياة واحدة في سيبل الإبقاء على حياة الكثيرين؟
ـــ ...
ـــ ألا تعلم سيدي، ان إنقاذ فتاة مثل هذه ستكون تكلفته مائة نفس بشرية على أقل تقدير؟!
ـــ ....
ـــ حكومتنا الفاسدة الى النخاع هي المسؤولة عن كل هذه الفوضى و الهمجية.
ـــ ...
ـــ انها توحي لشيوخ القبائل، بترك حبلهم على غاربهم
ـــ ...
ـــ أي بتركهم يشرّعون و يحاكمون و ينفذون، بأنهم الحكام الفعليّون لباكستان!
ـــ ...
ـــ ليخلو الجو للحكومة كي تمعن في الفساد بكل أنواعه.
لم تكن لي رغبة في مجارة الضابط حديثه، كنت متقززا بسبب ما كان يدور حولي بقدر ما كنت خائفا من إمكانية استدراج الضابط لي ثم توريطي بعد ذلك.لأجل ذلك كنت اكتفى بهز رأسي موافقا.
ـــ نحن حكومة ضعيفة يا سيدي,
ـــ ...
ـــ ما دمنا عاجزين عن توفير الشغل لقوانا العاملة، و الكرامة لخرّيجي جامعاتنا.
ـــ ...
ــ تصور سيدي، أكثر من ثمانين بالمائة من طلاب الطبّ يتجهون الى السفارات الغربيّة بمجرّد تخرجهم للحصول عن إقامة هناك.
ـــ ...
ـــ أجل نحن كذلك
ـــ ...
ـــ ثم لا يغرنك امتلاكنا المضحك للسلاح النووي الذي أصبحنا
نحرسه بدل ان يحرسنا هو!
حين اطال الضابط سكوتة اضطررت الى سؤاله:
ــ كيف ذلك؟
ـــ حين هددنا الهنود بالغزو، أغلقنا افواهنا.. كنا ندرك ان جارتنا القويّة قادرة على تحطيم مفاعلاتنا النووية، لأجل ذلك سكتنا حماية لسلاحنا النووي!
ما ان أتمّ الضابط جملته الأخيرة، حتى تعالت صيحات الغوغاء من حولنا، حين اتجهت بنظري الى منصّة الخزي، لاحظت تضاعف أعداد المشاعل المضاءة.. كنت بصدد التساؤل عن سرّ ذلك، حين صاح الضابط بلهجة ساخرة فيما كان يعاين ساعته اليدوية:
ــ تكبير.. تكبير... لقد دقّت ساعة الحسم!
رغم بعد المكان، فقد تمكّنت من معاينة أكبر عناصر زمرة الإغتصاب و هو يتقدم الى حيث الفتاة، متبوعا بمن يليه مقاما، ما ان أدرك ضحيته، حتى أنهضها، فيما جثا الثاني ليحلّ وثاقها.. فور فرغهما من ذلك، ودون تحركهما بوصة واحدة شرع المغتصبان في تمزيق ثياب المسكينة كلّ من ناحيته، قبل أن يبادر أصغرهما بطرحها ارضا، فيما انصرف الثاني الى خلع قميصه الباكستانيّ قبل أن يجثوّ على فريسته، فيما تعالت صيحات الحضور بين مبتهج و متذمّر.
كنت مصعوقا من هول ما أرى حين صرخ الضابط متعجّبا:
ـــ أرأيت كيف تتقن العصابة أدوراها.
ـــ ...
ـــ كل شيء مرتب مسّبقا!
ثم وهو يعلق:
ــ و حق الخضر! وجميع الأقطاب، بل و حق الحضرة النبوية الشريفة، لو كانت مفارز مدفعياتنا الوطنية تؤدّي أدوارها بمثل هذه الدقّة و الحرفيّة، لأحيينا سيرة الفاتح العظيم القاسم بن محمد!
كان عليّ غض بصري بعد أن ركزته طويلا على الوالد المكلوم
الذي كان الشابان القويّان يحوّلان رأسه قسرا الى بؤرة العار حتى يقهرانه على متابعة المشهد قسرا، اكتفيت بالنقل الميدانيّ المباشر الذي كان يصلني من الضابط الذي أفادني في نهاية المأساة، بأن المغتصبين الأربعة قد تناوبوا على الضحيّة خلال 33 دقيقة، وهذا مما يندر وقوعه، ممّا ينذر باشتباك وشيك لا مهرب منه، لأن الأعراف القبليّة قد أجمعت على تخصيص نصف ساعة وحيدة لا يمكن تجاوزها بحال من الأحوال..
كان الضابط منهمكا في طلب التعزيزات حين حيّيته بإشارة من يدي قبل أن انسلّ محطمّ الخطوات الى بيت صديقي الباكستاني البغيض معشوق سادات، قبل إداركي نصف المنحدر، أمكنني رؤية الفتاة المسكينة و هي تشيع عارية الجسم وفاءا للأعراف القبلية اللّعينة، فيما اشتد على يساري و طيس معركة شنها أفراد قبيلة غوجار احتجاجا على الإهانة التي لحقتهم نتيجة الدقائق الإضافية التي اضافت ــ كما بلغني فيما بعد ـ خمس و عشرين قبرا جديدا الى أموات الباكستانيين.
فور وصولي الى البيت، حمدت الله كثيرا لأنني لم أجد معشوق سادات وقد آب من المستشفى، لأنني كنت فاقد الرغبة في كل شيء، من الكلام الى الحياة.. كان جسمي يرتعد، و رأسي تدور، و معنوياتي تحت الصفر.. لم أكن أملك لا الرغبة ولا القدرة في تنظيف أسناني، بمجرد وصولي الى مضجعي تهاويت كصخرة حطها السيل من عل ..
على مدى ثلاثة أيام بلياليها، عشت كابوسا مريعا لم أع خلاله ما كان يدور حولي، كنت نهبا لحمّى تلسعني نيرانها حينا، و يغمرني عرقها حينا آخر.. كنت بشهادة معشوق سادات و أخته بشتانا أزعق تارة، و أنوح تارة، وأصيح" لبني، لبني" أو" معشوق، معشوق" تارة أخرى، حين سألني معشوق عما كنت أراه، كنت أضيق صدرا و أشد كرها له و حرجا من أخباره، بأنني كنت أرى ابنتي لبني ذات السنوات التسع وهي تعتلي منصّة العار مشدودة الوثاق حينا و مغتصبة من قبله هو حينا
آخر!
ــــــ 7 ــــ
بعيد انتهاء عيد الفصح، وفي صبيحة عودتى الى العمل، دخل علي الشاب النرويجي بيارن راكستاد واجما، ما ان سلّم حتى ألقى بين يديّ بالعدد ما قبل الأخير من صحيفة "أفتن بوستن" وهو يعلن بتشنج و حماس بالغين:
ــ انظر الى أي مدى بلغ افتراء أعداء الإسلام؟
كنت أبحث عن كلمات العزاء المناسبة حين استمرّ بيارن راكستاد مبلّغا :
ــ انها نفس وكالة الأنباء التي قاضيتها آخر مرّة.
ـــ ...
لم يحدّ برودي الشديد من لهجة الشاب المتحمّسة:
ـــ لا بد أن تسبق شكوانا المدعومة بعريضة تضم هذه المرة آلاف التواقيع.
ـــ ...
ـــ مسيرة تاريخية حاشدة.
ـــ ...
ـــ تنتهي أمام السفارة اليهودية.
ما ان اتم الفتى كلامه، حتى فتح حافظة أوراق ضخمة استل منها ورقة ضمت قائمة احتل اسمي رأسها.
ــ ستكون اول الموقعين
ـــ ...!
ـــ كما جرت العادة.
أجبت الشاب بيارن راكستاد بلهجة صارمة و لكن ودودة:
ـــ آسف عزيزي بيارن
ـــ ...
ـــ سأكون أول الممتنعين هذه المرّة.
ـــ !!!
ـــ كما لم تجري بذلك العادة!
ـــ ماذا تقول؟
رددت مواصلا:
ـــ و سنجعل المسيرة تنتهي أمام السّفارة الباكستانية!
اغتنمت لحظة ذهول الفتى النرويجي المسلم بيارن ركستاد و اتساع عينيه دهشة لأضيف موضّحا:
ــ "فأحباب الإسلام" هم من يستحق الضرب على مؤخراتهم هذه المرّة.
ــ لأنّ؟!
ــ لأن ما نشر هذه المرّة كان لا يخلو من ذرة واحدة من الصحّة!
سألني بيارن غير مصدق:
ــ و ما أدراك بذلك؟
ــ كنت شاهد عيان حين حدث ما حدث؟
أمسك بيارن برأسه الشقراء ثم تهاوى بجسده على مقعد كان بجواري
كنت أتأمله بحزن بالغ حين رفع رأسه سائلا:
ــ هل تعني انك كنت في باكستان؟
ــ أجل، و بدعوة صديقنا معشوق سادات
ـــ ...
ثم ان الحادثة ليست بدعة باكستانية، فقد اعتاد القوم ممارستها بمعدّل شهريّ على الأقلّ
ـــ ....
ـــ و بصفة منهجيّة!
صاح الفتي النرويجي متألما
ـــ هل يمكن تصديق هذا؟
ـــ أجل، اذا كنت في بلاد ظلمها لويس كارول صاحب اليس في بلاد العجائب حين لم يخترها مسرحا لعجائب حقيقية .
ـــ ؟؟
ـــ أعني بلاد المسلمين!
كان بيارن ركستاد يمسك برأسه المنكسة مردّدا" يا الهي، يا الهي" حتى أكملت معزّيا:
ـــ لك الحقّ لو بلغ بك الجزع هذا الحدّ
ـــ
ـــ فان يقدم أهل دين أقدم نبيهم الذي ينتمي إلى اشرف بيت قرشيّ، قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، على تزويج الشريفة القرشية الحسناء من عبد مملوك اسود ناسفا بذلك فكرة التمييز العنصري من أساسها.
ـــــ
أقول.. لإن يقدم أهل دين ذلك موقف نبيهم التقدّمي من التمييز على اساس عنصريّ
ـــ...
ـــ على إغتصاب فتاة من ملّتهم
ـــ...
ـــ و بدافع تمييزعنصري سخيف
ـــ...
ـــ و في القرن الواحد و العشرين
ـــ ...
ـــ و بطريقة خسيسة يعجز حتى الشيطان نفسه عن رسم خطتها
ــــ ...
ـــ لمن شأنه أن يولّى أتباع ذلك الدين كل الاحتقار و الأزدراء.
كان الفتى بيارن ركستاد لا يزال في غمرة ذهوله حين أضفت متحسرا:
ـــ أي ذروة شاهقة بوأتنا تعاليمنا الخالدة، ثم أي قرارا سحيق ردّدنا إليه.
شاركت الفتى بيارن اطراقه، و انا استرجع قول الرائع عبد الكريم الحمدواي" بدأت أروبا نهضتها من أسفل السلّم، من الجهل و الضياع. ثم بالتجربة و التعقّل و حريّة الفكر، تدرّجت في معارج النضج و التطوّر و القوّة و الرقيّ. أمّا المسلمون، فبالعكس، وضعهم الإسلام في قمّة الرّشد السياسيّ، حرّيّة فكر و مساواة و شورى و سلما اجتماعيا، ثم ما لبثوا أن ارتكسوا في رعوناتهم و أهوائهم، و تدحرجوا في مهاوي فتنة الحكم و
صراع السّلطة جيلا بعد جيل نزوا على الكراسي، و نطّا على العروش بمختلف الأساليب الهمجية وراثة وغلابا"
كان بيارن لا يزال مطرقا حين أضفت
ــ مشكلتنا سياسية بالأساس
ـــ ...
ــ لنقل أزمة مفاهيم بالدرجة الأولى
ـــ ...
ـــ فما دامت الأمة تعتقد اعتمادا على تراثها الحالي" الذي شكّله التاريخ و أقوال الرجال بقد ما صاغه النص" بانها وجدت لخدمة الحاكم بدل ان يكون الحاكم قد أوجد لخدمتها هي فلن تقوم لنا قائمة.
حين اعتصم صديقي النرويجي الشاب بصمته المحزون وجدت نفسي أعود للحمداوي ثانية مراجعا قوله" الإستبداد السياسي لم يدع مجالا لراي معارض او فكر محايد أو قول صريح أو موقف غير مؤيّد، فأدّى ذلك الى أن صار الأصل لدى المسلمين هو حماية السلطان، و كل ما عدا ذلك من قدرات علميّة و فقهية و مالية و عسكرية و اجتماعية في خدمته و حمايته و من اجل قمع معارضيه"
قبل ن يغادرني بيارن راكستاد وقد انطفأت جذوة حماسه الى حد فقدان قدرته على الكلام اقتربت منه، وضعت يدي على كتفيه ثم قلت له مواسيا:
ـــ ستكون هذه التجربة الباكستانية و برغم قذارتها خير عزاء بالنسبة لشخص ظل يؤرقه منذ اسلامه هاجس دخول والدته النار بعد اصرارها رفض الدخول في حمى هذا الدين.
ـــ ...
ـــ أي بني كن شديد الوثوق ما دامت والدتك تديم لبكاء لمجرد معاينة طفلة افغانية أو فلسطينية حولها القصف الأمريكي أو اليهودي الى شريحة لحم .
ـــ ....
ـــ أن ربّا رحيما حكيما كريما لن يدخلها النار.
ـــ ما قامت الساعة و على الأرض باكستاني جهول يتكلم باسم
الإسلام!
ـــ... ؟!!
ـــ بذلك بشّر الوالدة حنّا.
ـــ ...
ـــ و إن لقيت كارل ماركس و أنت في طريقك إليها
ـــ ...
ـــ فبشره هو أيضا (و قد منحه أهل الباكستان ما يحتجّ به) بدخول الجنة!
أوسلو 23 مارس 2011
التعليقات (0)