مواضيع اليوم

هل ينحسر الاسلام السياسي أم ينكشف على حقيقته ؟

جمال الهنداوي

2009-07-13 19:02:54

0

 بنفس السرعة التي تنامت فيها قوى وتيارات الإسلام السياسي وتزعمت موجات الاحتجاج الشعبية في أكثر من بلد عربي وإسلامي خلال العقود الماضية ، نراها اليوم تتخبط في أزماتها وتنحسر جماهيريا، وتتراجع سياسيا، من مواقعها المتقدمة التي احتلتها سابقا ومرد ذلك الانحسار يرجع أساسا، إلى المأزق الفعلي لمشروع ونموذج الدولة الدينية العاجزة عن تقديم الحلول والإجابات الموضوعية الحقيقية التي تنبع من متغيرات الواقع المعاش وليس من قلب النصوص المقدسة، على معضلات السياسة ومشاكل الاقتصاد والتنمية وأشكال إدارة الدول والمجتمعات في عالم التكتلات الإقليمية والدولية الواسع، وعصرالفضاء المفتوح والثورة التكنولوجية الجبارة، حيث تتطلع الشعوب إلى مساحات أكبر للحرية تلتقي وتتواصل فيها المعارف والثقافات وتتبادل عن طريقها المعلومات والأفكار بلا وصاية ولا وسيط سوى رقابة الضمير الفردي بحد ذاته .

لقد تأسس مشروع الحركات الإسلامية على فكرة رفض الواقع الفاسد، في معارضتها للأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، ولكنها لم تقدم فيما بعد وهي في المواقع المتقدمة، دليلا واحدا على أنها بالفعل تمتلك قوة بناء وتأسيس جديدة، يمكنها أن تجد مخرجا وتقترح حلولا للأزمات الوطنية والأنسدادات السياسية التي كانت في أصل خطاب الرفض الذي تبنته في البداية . كما استمرت معضلة بناء الدولة الحديثة على مبدأ المواطنة كعلاقة لتنظيم الأفراد داخل المجتمعات ، تشكل التحدي الأكبر أمام اطروحاتها المبنية على أخوة الدين والأيمان والتي لا علاقة لها اليوم بآليات بناء الدول رغم ما تتضمنه تلك الأخوة من قوة وتماسك وتضامن وحميمية . فالأكثرية العددية في بلداننا ليست بالضرورة هي أكثرية سياسية والديمقراطية ليست مجرد أدوات وآليات وصناديق اقتراع وإنما هي ثقافة شاملة وصيرورة دائمة لا تتوقف عن مراجعة نفسها وتصحيح مساراتها باستمرار كي تعبر عن آمال ومطامح وأحلام الشعوب في تحسين شروط حياتها اليومية .

وبالمقابل، فان المدافعين عن المشروع المدني حقيقة، يبدون اليوم أكثر من أي وقت مضى محشورين وذاهلين ولم يتعرفوا على أنفسهم بعد في سياق الأوضاع المتسارعة الجديدة 
والتي تتطلب عدم التغاضي عن رؤية التكوين الحقيقي للمجتمعات كما تتطلب تحديث أساليب العمل السياسي والتعامل والتفاهم والتصالح مع القوى والتيارات السياسية المختلفة، بصورة مرنة ومبدعة وخلاقة لا تنطلق من أفكار الندية والمواجهة والعداء والتشكيك المسبق لجميع الأطروحات الإسلامية على وجه الخصوص ، الأمر الذي يستدعي
العودة وبكثافة إلى العمل التثقيفي والفكري الذي لا مناص منه لتجديد أنفسهم وفهم طبيعة مجتمعاتهم وطبيعة القوى الفاعلة والمحركة فيها. فالخطاب اليساري في منطقتنا ، تربى أيضا ضمن ثقافة الشعارات العريضة، وورث مفاهيم خاطئة، لا صحة لها في عالم اليوم حول المسارات المختلفة للعلمانية كشأن عام وتمييزها عن الإلحاد كشأن خاص، وأسس فصل الدين عن الدولة وعلاقة الفرد بالجماعة ومعنى الحرية الشخصية واستقلال المجتمع المدني عن الهيمنة الحزبية والسياسية اللذان يضران بالسياسة وبالمجتمع في آن .

 لقد ورث اليسار العربي نموذج العلمانية بنسختها "السوفيتية" المشوهة وجرى التثقيف على أساسها زمنا طويلا وأصبح هذا المفهوم الجوهري في بناء الدولة الحديثة رديفا للكفر والإلحاد في أذهان أنصاره وأعداءه منذ ذلك الوقت. إن التأكيد على إشكالية العلمانية وماعلق بها من تصورات وتأويلات غير سليمة ، يكتسب أهميته الراهنة من كون العلمانية هي جوهر المدنية وشرط الحداثة ولا يمكن الحديث بدونها عن بناء الدولة المدنية . 

إن المشاكل المستعصية لمجتمعاتنا لا يمكن لها أن تجد حلولا من وجهة نظر سياسية أو فلسفية واحدة مهما أدعت من احتكار للحقيقة المطلقة، وإنما تكمن تلك الحلول بالاعتراف المتبادل، بتعدد الحقائق ووجهات النظر المتباينة، وتربية وتدريب الذات على الاختلاف مع الآخرين والسعي لبناء جسور التفاهم معهم .

وعلى الأرجح، فان التراجع والفراغ الذي سوف تتركه الحركات الإسلامية في الساحة السياسية على صعيد المنطقة عموما، لا يعني بأي حال من الأحوال ، إشغاله من قبل أنصار ومؤيدي بناء الدولة المدنية الحقيقيين وبصورة آلية انطلاقا من الثنائيات والمتضادات المعهودة ، بل قد يكون نذيرا، لعودة أكيدة، وبقوة أكبر وخبرة أكثر ، لذات النظم التقليدية المألوفة والسياسات الفاسدة القديمة مع بعض الإصلاحات الضرورية لتحسين المظهر الخارجي الجديد ، وعندها سوف نعود جميعا إلى المربع الأول .

 

  بقلم الكاتب :عبد الرحمن دارا سليمان




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !